لأول مرة بعد الإفراج عنه يتكلم كما لم يتكلم من قبل فى حوار مع الدستور2








حوار: رحاب الشاذلي

تواصل «الدستور» اليوم الحلقة الثانية من حوارها مع دكتور أيمن نور - زعيم حزب الغد - الذي بدأته أمس وقدم خلالها اعترافاته لأول مرة عن أخطائه في السياسة والحزب والصحافة. وفي الجزء الثاني من الحوار يكشف نور عن تفاصيل العرض الذي تلقاه داخل محبسه من كبار المسئولين مقابل الإفراج عنه وإلي نص الحوار:

> مَنْ هم المسئولون الذين قاموا بزيارتك في السجن؟ وما تفاصيل هذا اللقاء؟



- ما أستطيع قوله في هذا الموضوع أنه منذ عامين عُرض عليَّ من قبل وسطاء بعضهم رسميون وآخرون دبلوماسيون، الإفراج عني بشرط السفر في ذات اليوم للعمل في مؤسسة دبلوماسية دولية في الخارج فرفضت العرض بشدة وأكدت أنني غير راغب في السفر للخارج وأنني أفضل أن أبقي في السجن علي أن أجبر علي مغادرة بلدي.

> وأنت تراجع حساباتك وأخطاءك السياسية في السجن كيف قيمت معركتك مع النظام وهل تري أنك أخطأت؟

- لم أخطئ في تعاملي مع النظام ولم أفعل شيئًا يمكن أن أندم عليه في معركتي لكن ممكن في بعض الأوقات تصدر بعض التعبيرات الانفعالية ولكن هذا أمر مسموح به في الانتخابات ومرتبط باللحظة فقط، لكنني في الحقيقة لم أر علي الإطلاق أنني كنت متجاوزا، طوال سنوات عملي السياسي كنت أتحدث بصوت منخفض حتي في البرلمان لم أرفع نبرة صوتي لمرة واحدة لكنني كنت في نفس الوقت أحمل مبدأ في طرحي السياسي ولا أقبل التنازل، وأري أني كنت أعبر عن أمة مأزومة، وبقدر تلك الأزمة وحجمها كنت أتحدث وكان الصراخ بحجم الألم، خاصة أن مصر فيها فساد واستبداد وخداع بصري في كل شيء، وارتفاع نبرة المعارضة هو انعكاس حقيقي لمقدار الأزمة وحجم الفساد والإستبداد والمغالطة والمكابرة السياسية ومحاولات «تلبيس» كل الكلمات الإيجابية معاني وحقائق مختلفة.. المغالطة في كل شئ عندنا تتم عيني عينك.

والنظام المصري يمارس سياسة السير عكس خط السير فيعطي إشارات أنه سيتجه نحو إصلاحات لكنه يترجم تلك الإصلاحات علي أرض الواقع إلي إفساد ما كان صالحا وليس إصلاح ما كان فاسدا.

> من داخل سجنك كنت تتابع أخبار جمال مبارك وكل ما يصدر عنه من تصريحات أو ما ينشر عنه من أخبار كما أنك تحتفظ بكل هذا في أرشيف خاص.. كيف تقيم الأداء السياسي لجمال خلال الفترة الأخيرة؟

- شايف أنه يجب أن نتوقف أمام حالة جمال مبارك بوصفها حالة متكررة في العالم العربي، وأنا أريد أن أسترشد بجمل قالها «سيف الإسلام القذافي» في حواره مع جريدة الشرق الأوسط عندما سئل عن أسباب اعتزاله العمل السياسي قال جملة في غاية الأهمية في تقديري وهي: «كنت أريد أن أقوم بدور لحل بعض المشكلات التي يعاني منها الشعب الليبي ففوجئت بسبب المنافقين الذين يحيطون بي أنني أصبحت المشكلة الأولي»، والحقيقة أن «جمال مبارك» أصبح الآن مشكلة في حد ذاته بسبب وجوده الكثيف حتي أصبح هو عين المشكلة ، اليوم كل شيء في مصر يدور في فلك جمال مبارك وكل تطور مفترض أنه إيجابي يدور حول شخصه وأفكاره.

> طرحت بعد خروجك من السجن أنك مهتم بفتح نقاش سياسي مع جمال مبارك.. لو أتيحت لك الفرصة، ماذا ستقول له وهل تعلن له صراحة ما سبق وأشرت إليه من أنه «عين المشكلة في مصر»؟

- أنا أريد عمل حوار سياسي وطني معه ووصفي له بأنه «عين المشكلة في مصر» سأعلنه أمامه صراحة لأنه تحول من شخص نشط في حزب إلي شخص تدور حوله كل الأحداث في مصر لتبرير وجوده في هذا الحزب أو في هذا الوضع الذي تجاوز الحدود القانونية والدستورية التي تسمح لشخص في مثل وضعه أن يتواجد فيها. صحيح جمال مبارك نجل الرئيس مبارك لكنه في النهاية الأمين العام المساعد للحزب الوطني وهذا الدور الذي يقوم به مرتبط بوصفه ابن الرئيس وليس بوصفه الأمين المساعد للحزب بدليل أن هناك أمناء مساعدين في الحزب لايحظون بذات القدر من الاهتمام الإعلامي والرسمي ولا يتحركون في مواكب تضم عشرات الوزراء..!!

«جمال» يمثل حكومة أخري موازية في مواجهة الحكومة الحقيقية في مصر وهذا الوضع يمثل حالة من حالات الخلل الدستوري وحالة من حالات الارتباك السياسي. الحزب ليس الحكومة، فحتي لو كان هذا الحزب هو الذي يشكل الحكومة إلا أنه فهو لا يمكن له أن يتحدث ويصرح باسم الحكومة والوطن كله، هذا الوضع أمر في غاية الخطورة ولايفيد الديمقراطية.

> لو أتيح حوار مع «جمال مبارك» في إطار حوار وطني أو بين حزب الغد والفكر الجديد في الوطني متمثلا في شخص جمال - كما يقولون- أنا شخصيا أريد أن أستوضح منه موقفه الأيديولوجي والسياسي فهل يري أنه إصلاحي ليبرالي أم ليبرالي شمولي ؟ وهل يري أن الليبرالية توجه اقتصادي واجتماعي فقط وليس توجها سياسيا؟

- إذا كان السيد «جمال» ليبراليا بحق فعليه أن يصارحنا بموقفه من قانون الطوارئ والقوانين الاستثنائية، وعليه أن يصارحنا بموقفه من الاعتقالات العشوائية، والاعتقالات التي طالت آلاف المصريين الذين أمضوا عشرات السنين داخل السجون دون محاكمة أو توجيه اتهام حقيقي أوعرضهم علي قاض يحسم في شأن تلك الاتهامات، لكان علي جمال مبارك أيضا أن يكشف عن موقفه من تلفيق القضايا للخصوم السياسيين وموقفه من عدم تداول السلطة وحالة التصلب في شرايين الوطن والتي طالت مستويات مختلفة من السلطة علي المستوي التنفيذي والتشريعي وجميع سلطات الدولة. ولكان عليه أيضا أن يواجهنا بموقف واضح ومحدد من مسألة نزاهة الانتخابات في مصر. وهل يؤمن فعلا أن مصر بلد تجري فيه الانتخابات وفقا للقواعد الدولية لنزاهة وشفافية الانتخابات وهل يؤمن أيضا بأن الليبرالية الحقيقية تعني القبول بالآخر، وأن ما يحدث في مصر هو نفي الآخر سواء كان بدعوي أنه محظور سياسيا أو أنه ممنوع من ممارسة حقوقه السياسية؟!.. هل هذه المواقف مواقف ليبرالية وهل تتسق مع منطق أو قيم الليبرالية التي لاتعرف التجزئة والتي لايمكن اختزالها في برامج اقتصادية ومواقف اصلاحية دون غيرها؟!

> هل تابعت زيارات أمين السياسات في القري والنجوع وأن هذه الزيارات متشابهة إلي حد التطابق مع تلك التي أجراها من قبل الرئيس مبارك... وبماذا تفسر ذلك ؟

- المشكلة أن جمال مبارك شخص يعلن أنه يحمل أفكارًا جديدة ولكنه يطبق تلك الأفكار بأدوات قديمة وبوسائل قديمة، فكثير من الأمور التي يقوم بها والتي من المفترض أن نصفق له عليها لا نجد تعبيرا يلخص كل هذه الأعمال غير «قديمة» كل حاجة بتحصل في مصر «قديمة».

> بعض الآراء والتحليلات السياسية تقول إن عملية التوريث ونقل السلطة إلي جمال ستتم خلال فترة قصيرة في ظل وجود مبارك الأب ذلك لأن هناك جهات سيادية في الدولة تقف ضد هذا المشروع بكل قوتها.. ما رأيك في هذا الطرح وما تصورك لعملية انتقال السلطة؟

- أنا كمواطن أسمع شائعات كثيرة وتكهنات بخصوص عملية التوريث، لكني كسياسي ليس لدي معلومة يقينية، وبالتالي لا يمكن لي إصدارحكم قطعي في هذا الموضوع إلا أنه من خلال الحقائق المنظورة والتي تقول إن هناك خطوات تصاعدية تزيد من توسع دور«جمال» في الحياة السياسية، حيث يظهر في الاحتفالات الرسمية والعامة في صفوف متقدمة لدرجة أننا لا نجد تفسيرًا أو مبررًا، لماذا يكون مكان الأمين العام المساعد للحزب الوطني بجوار رئيس الوزراء، و يسير الوزراء في كل الاحتفالات خلف جمال مبارك بعدة خطوات، و يصدر توجيهاته للوزراء بشكل علني وأمام الناس والكاميرات بصورة تعطي انطباعًا ظنيًا لدي من لا يعرف أنه رئيس الوزراء الحقيقي، الذي يدير الأمور في مصر..

أنا لست ضد أن يكون جمال مبارك رئيسا للوزراء.. بس يعلن، لأن السلطة تواجه قدرًا من المسئولية بقدر ذات السلطة.

> خلال الأربع سنوات الماضية صعد أحمد عز أمين التنظيم بالحزب الوطني بشكل كبير خاصة علي المستوي السياسي داخل الحزب الحاكم.. ذلك الصعود السياسي والاقتصادي أيضا أصبح مثيرًا لطرح تساؤل حول منصبه القادم في الدولة؟

- تقييمي الشخصي لـ«أحمد عز» وأنا زاملته خمس سنوات في المجلس حيث بدأت علاقتي به بانطباع سيئ عن شخصه، لكن عندما حضرت بعض اجتماعات اللجان التي كان يشارك فيها تنبهت إلي أن هذا الرجل شديد الذكاء واسع الاطلاع في بعض المجالات وله فريق عمل ضخم جدا يحضر له الملفات والمعلومات، وأري أن «عز» يحاول تعويض نقاط ضعف كثيرة في شخصيته، وأقوي علامات الضعف هو أن قبول أحمد عز إجمالاً ضعيف جدًا ويصل إلي حالة من حالات النفور منه، وفي نفس الوقت هو شخص مجتهد وذكي وحاد ومحدد جدا، وهذه الأمور مفترض أن تحسب له، لكن المشكلة أنه شخص ليس لديه القبول الكافي بل والاقل من الكافي لدي الناس والمتابعين والمشاركين في الحياة السياسية.

> في ظل الإمكانيات التي يمتلكها عز وصعوده الاقتصادي وقوته السياسية كيف تري مكانه السياسي القادم؟

- صعوده القادم قد يكون صعودًا للهاوية، لأن عز نفوذ اقتصادي قوي ونفوذ سياسي أقوي، لو تزحزح النفوذ السياسي سيؤثر بشدة علي النفوذ الاقتصادي وقد يؤدي إلي كارثة سيدفع ثمنها غاليًا، لأني متخوف من التزاوج غير المفهوم بين الصعود والنفوذ السياسي والاقتصادي لأنه لا يمكن الإجماع بين الاثنين، فالجمع بينهما هو جمع بين نقيضين «عز» يمثل رجال الأعمال والقطاع الخاص والاستثمار الخاص، وهو في نفس الوقت يضع الموازنة العامة للدولة ويضع خريطة الاوضاع السياسية والحزبية بحكم وضعه كأمين تنظيم في الحزب، وهذا التداخل ليس مجرد أخطاء بل خطايا فادحة في حق البلد، وتوازن السلطات فيها، أما الرهان علي أن «عز» سيقوم بإحداث التوازن بين فكرة الرقابة والمسئولية وأن يكون رقيبًا أم شريكا أم طرفا مستفيدا من كل هذه التوازنات وهذا أمر صعب جدًا وفوق احتمال أي إنسان.

> وإن نجح في تقييمك ما هو منصبه القادم؟

- مش عايز أتكهن بأمور البعض يتحدث فيها باعتبارها احتمالات، لكن بالقطع أحمد عز شخص له طموح. وهو أذكي من أن يأخذ أي منصب لأنه يمثل مرحلة وسطي بين الدولة الرسمية والدولة الخفية.

في مصر أصبحت هناك دولتان بحكومتين الأولي الدولة الرسمية التي يمثلها أحمد نظيف وحكومته والثانية هي الدولة الخفية التي يرأسها جمال مبارك ويمثل رئيس أركانها أحمد عز. لذلك أتصور أنه طالما بقي جمال مبارك يلعب هذا الدور الموازي طالما بقي عز محافظًا علي هذا الدور الموازي أيضا، أما إذا انتقل جمال إلي الدور الرسمي فهذا يعطي انطباعًا أن عز ممكن أن ينتقل إلي الدور الرسمي.

> أحمد عز يدعم ويشكل نسبة كام من قوة جمال مبارك السياسية ؟

- عز يدعم جمال ويشكل علي الأقل نسبة 60% من قوة نجل الرئيس.

> والنسبة الباقية من قوة دعم جمال.. من يمثلها؟

- النسبة الباقية في مجموعات أخري من رجال الأعمال الموجودين في الحزب الوطني.

> ما تقييمك لفتحي سرور وهل هو مع التوريث أم ضده وما طبيعة دوره في رأيك؟

- سرور شخصية وسطية يأخذ مواقف جوهرية في القضايا الثانوية ويأخذ مواقف ثانوية في القضايا الجوهرية، وهذا منهج وسطي لتفادي الصدام ولضمان الاستمرار والبقاء فهو حرس نفسه وكرسيه فقط، ليس له علاقة بتقسيمة الحرس القديم والجديد،وسرور شخصية مؤهلة بحكم علمه أن يكون الشخص رقم واحد وهو يدرك هذا ولكنه يوظف هذا العلم لكي يبقي الشخص الثاني، لأنه مدرك أن الدخول في مربع رقم واحد هو الدخول في مربع المنافسة علي السلطة.

> وماذا عن تقييمك لأداء الحزب الوطني وكيف تري المرحلة الراهنة التي يمر بها ؟

- لا يمكن لنا الفصل بين الحزب الوطني وبين مسئوليته عما يحدث في مصر لأنه في النهاية هذا الحزب سواء في عهد جمال مبارك أو ما قبل ظهوره هو الذي يحكم منذ أكثر من 30 سنة، فهو مسئول عن كل ماحدث في هذه المرحلة من أخطاء ومضاعفات لمشاكل مزمنة، وكون أن الحزب الآن يجلب بعض الأفكار التي تبدو جيدة في ظاهرها وحديثة وتوافق ما يحدث في بعض الدول المتقدمة، لا يبرئ ساحته أو ينفي مسئوليته عن هذه المضاعفات والإشكاليات التي تكونت بسبب الفساد والازدواجية في المعايير وعدم وجود معيار حقيقي لكفاءة التنفيذ في أي شيء، كثيرًا ما نسمع أفكاراً تبدو جيدة لكنها في التطبيق تتخذ مسارًا مختلفًا تمامًا.

المشكلة الحقيقية أننا أمام حزب يتحدث بلسانين ويفكر بعقلين وينفذ بطريقة تالتة خالص.

> تجربة السجن هل ساعدتك علي رؤية النظام الحاكم وحزبه من مساحة أقرب عما كنت فيها بالخارج؟

- من داخل السجن استطعت أن أري صورة بانورامية لمشاكل مصر، المسجون نصف ميت لأنه ينتقل إلي عالم آخر، ولا يستطيع أن ينتقل إلي العالم الأول بسهولة ومرونة ومن ثم رأيت صورة أكثر شمولاً عن التي كنت أراها وأنا داخل الأحداث وتفاصيلها التي تحجب رؤية الصورة مكتملة، أصبح لدي قناعة بعد السجن أن السبب في كل ما يحدث هو الإهمال والفشل والكذب، هذا الثالوث المقدس السبب في كل الكوارث.

> بصراحة هل كان طموحك في الشهرة والترشح لانتخابات الرئاسة في مواجهة الرئيس مبارك من ضمن أسباب إصرارك علي الترشح والمواصلة؟

- بنسبة قليلة جدًا جدًا بصراحة. لأني في المرحلة الأولي من حياتي البرلمانية من 95 إلي 2000 لم أكن راضياً عنها بشكل جيد لأنه وقتها كان مازال لدي قناعة أن الإصلاح يمكن أن يتم من خلال التعاون مع النظام وتوسيع جسور الثقة، لكن في الآخر اكتشفت أن هذا أمر صعب تحقيقه وأنه مهما قدمنا من تنازلات لا يمكن الحصول علي إصلاحات حقيقية وجذرية، لكن من 2000 إلي 2005 أنا راض بنسبة 100% عن أدائي البرلماني والسياسي وكان موقفي السياسي واضحًا جدًا وأقول رأيي دون النظر إلي الحسابات والمصالح السياسية.

> ما الأخطاء السياسية التي وقع فيها حزب الغد وسيتم أخذها في الاعتبار ومعالجتها الفترة القادمة؟

- الحزب كمؤسسة لم يقع في أخطاء. لكنه كان ينبغي في وقت ما أن نتنبه إلي أن معركة بناء الحزب خلال 89 يومًا وهي فترة قصيرة جدًا كانت محتاجة تكون أطول وكان ممكن في نفس الوقت نعيد ترتيب أولوياتنا. أنا شخصيًا لو عاد بي الزمن كنت أخذت قرارًا بإنشاء الغد ولن أتراجع عنه، لأنه علي الرغم من أنه أضر بالحزب في بعض الجوانب إلا أنه صنع حزبًا كبيرًا مأزوما وده أفضل ما كنا خضنا المعركة كحزب صغير غير مأزوم.

> كيف تري قرار العفو الصحي عنك بهذا الشكل المفاجئ.. هل النظام المصري عقل فجأة وبناء عليه قرر العفو أم ماذا حدث من وجهة نظرك؟!

- لو كان هذا القرار سبق وصدر في وقت مناسب دون مماطلة في اتخاذه الذي استمر لأربع سنوات كنت وصفته بأنه قرار عاقل وحكيم، لكن تأخر صدوره حتي ما قبل الإفراج عني بقوة القانون بأربعة شهور يعطي انطباعًا بأن الغاية النبيلة من القرار لم تكن هي نفسها الغاية المقصودة وقت اتخاذه. بمعني أني بالنسبة ليه كنت خارج خارج.

> كيف تري المستقبل السياسي في مصر؟

- رغم كل شئ أنا متفائل رغم أن عناصر التفاؤل تنقص كل يوم لكن ولد بداخلي عناصر جديدة، علي سبيل المثال السجن علمني أن الأمل هو السلاح الوحيد للإنسان ليدافع عن نفسه في مواجهة أن يموت قهرًا أو ظلمًا أو يأسًا.


لأول مرة بعد الإفراج عنه يتكلم كما لم يتكلم من قبل فى حوار مع الدستور


حوار : رحاب الشاذلى
> هل تتذكر أول يوم لك داخل السجن والشخصيات التي قابلتها ورد فعلهم علي سجنك؟

- لم يفاجأ أحد بالعكس كلهم قالوا لي إنهم كانوا متوقعين سجني وفي أول يوم حبس التقيت بشخص اسمه «جمال حبيب» تاجر سيارات وكان هذا الرجل سبق وزارني قبل سجنه في مكتبي لرفع إحدي القضايا،
وفي أول تعليق له علي سجني قال «إحنا كنا عارفين إنك جاي بقالنا أسبوعين منتظرينك» وسألته عرفتم منين ده أنا شخصياً فوجئت بقرار القبض وتنفيذه فرد : من السكرتير بتاعك اللي اسمه «إسماعيل عبداللطيف» وقاللي أوصاف كلها انطبقت علي هذا الشخص الذي كنا نعرفه في الحزب باسم «ضياء» والذي اكتشفنا فيما بعد أنه هو نفسه المخبر الذي استخدمه الأمن للقيام بعملية تزوير التوكيلات وترتيب القضية، وبالفعل بحثنا في ملفه الجنائي فوجدنا أن اسمه الحقيقي إسماعيل عبداللطيف، وبهذا حصلت علي أول خيط القضية من داخل السجن.

> مَنْ أبرز الشخصيات التي التقيتها في السجن؟

- الوزير السابق توفيق عبده إسماعيل، وحسام أبوالفتوح، ومحافظ الجيزة السابق ماهر الجندي وكان موجود إبراهيم عجلان - عضو مجلس الشعب السابق - ووكيل أول وزارة التعليم المرحوم سمير وهدان، كما كان هناك عدد آخر من رجال الأعمال ونواب القروض.

لكن لم تكن هناك مساحة للتحاور أو الحديث مع أحد بسبب التضييقات التي كنت أتعرض لها.

> كيف كانت علاقتك بـ «حسام أبوالفتوح» وماذا عن الصورة التي رسمها لك ولأسرتك وأهداها إليك؟

- قابلت حسام بالصدفة كثيرا أثناء خروجي للزيارة مثلا وأهداني أجمل هدية في السجن وهي أنه رسم صورة لي أنا وأبنائي وزوجتي مازلت محتفظًا بها حتي الآن وهذا شخص كريم جدا وكان عامل مؤسسة اجتماعية خيرية داخل السجن، أما الذي نشأت بيني وبينه صداقة هو خالد حامد محمود - المتهم في قضية نواب القروض - ووالده كان وزير الحكم المحلي في عهد السادات وكان نائب معي في المجلس من 95 إلي 2000، وده كان الشخص الوحيد اللي كنت باحب أتكلم معاه.

مع ذلك أهم شخصية شفتها في السجن كان متهم في قضية «محجوب» شقيق «رفعت محجوب» واسمه «زيزو» وعمره 90 عامًا تقريبا ووزنه حوالي 40 كيلو، كان طول الوقت بيتصرف بشكل كوميدي مثلا يقع جوه الـ «تواليت» بسبب شده نحافته وفي إحدي المرات قاللي «انت بقي اللي كنت مترشح تقعد مكان عبدالناصر» قلت «اه الله يرحمه» فغضب مني وقاللي «ما تقولش الله يرحمه عبد الناصر لسه موجود»، الغريب في «زيزو» إنه كان كل ما يقابلني يطلب مني أشتري له «كيس شيبسي» كنت اندهش جدا من طلبه خاصة لكبر سنه، وفي يوم مرض جدا وطلبني وقال «عايز اقولك علي حاجه مهمه انت عارف انا كل ما بشوفك ليه باطلب منك كيس شيبسي» سألته ليه رد: عشان كنت بأكسب في كل كيس ربع جنيه وأنا كنت بطلبه منك عشان أحوش الأربع جنيه دول كلها وفعلا حوشت 27 جنيه أجرة التاكسي اللي هروح بيه بس لأني بموت هنا فأنت خدهم لأنهم بتوعك لأنك أنت اللي كنت بتجيب لي الشيبسي» وبالفعل مات عم «زيزو» في اليوم نفسه.

> تعامل أمناء الشرطة والظباط معاك جوه السجن كان عامل إزاي هل كانوا متعاطفين معاك ومصدقينك ولا كانوا شايفينك مزور؟

- بصراحة كانوا بيتعاملوا معي بشكل جيد،لكن التعليمات كانت في منتهي القسوة وهي حرماني من حقوقي، بس التعامل الجيد كان سرًا وكل واحد فيهم جاي من قريته كان ينقل لي سلامات أهل البلد، وكلامهم وانطباعاتهم الجيدة عني، لم يعتد عليَّ أحد إلا خارج السجن.

وفي إحدي المرات، جاءني المخبر اللي في السجن وقالي «أنا عندي ألم شديد في المعدة» وطلب مني أعطيه الدواء المطلوب وفعلاً بمجرد ما أخد مني الدواء أعاده لي مرة أخري وقاللي «أنا مش عايزها أنا بس كان نفسي أعرف لو أنا جيت وقلت لك أنا موجوع هتهتم بيه وتديني العلاج ولا تمنعه زي ما بنمنع عنك الدواء... وأنا لما أروح بلدنا هحكي شهامتك معايا وأقول إن الراجل اللي إحنا بنمنع عنه الدواء ترك سريره وأعطاني دواه عشان يعالجني» الحكاية ديه أثرت فيا .. وفي مرة تانية كان السجن مانع الزيارات عني ودخول الطعام، ففوجئت في يوم إن فيه ظابط يحمل لي أكل طلب من مراته تعمله عشاني وكان الظابط بيهرب لي أكل من بيته اللي مراته بتعمله.

أنا لسه لحد اليوم عليه 3 آلاف و500 جنيه للسجن، طالع مديون لم أشتر خدمة أحد مقابل فلوس من يخدمني كان بحب، في يوم كان في طبيب ظابط في السجن وجاء وقال لي «أنا سمعت انك بتمر بأزمة مالية كبيرة وأنا جايب لك مبلغ من فضلك اقبله، أنا كنت رايح أشتري عربية جديدة بس القديمة لسه موجودة وعشان كده مش محتاج الفلوس ديه الآن» الموقف ده وغيره من المواقف أثرت في طريقة رؤيتي للأشياء والتفاصيل الصغيرة التي لم أكن أتوقف عندها من قبل.

> معرفتك للمرادفات الأوسع لمعني الظلم وغيره هل ستنعكس علي أدائك السياسي في الفترة القادمة؟

طبعا، سأقوم بإعادة ترتيب أولوياتي واهتماماتي في الحياة من أهمها استقلال القضاء وعدالة التقاضي في مصر كان بالنسبة لي موضوعاً ثانوياً جدا، أنا اتظلمت بس اكتشفت إني مش المظلوم الوحيد، شئ مرعب أن يكون الانسان غير مطمئن أو يأمل في عدالة قاضية ولكني عشت أفقد هذا الأمل داخل سجني لما عملت2013 بلاغ وقضي، في 99% منهم لم يكن عندي أمل في الحصول علي العدالة، اللي عايز أقوله كمان إن من أولوياتي التانية اللي اتغيرت بعد سجني إني أتمني إن العمر يرجع تاني وأعيش وأرعي أولادي وهما صغيرين. أنا انشغلت بحياتي ولم أستمتع بأولادي لأني كنت متعجلاً طول الوقت.

> ما الأمور التي تري بعد سجنك أنك تعجلت فيها كثيراً وكانت أخطاء وكان عليك مراجعتها وهل انتخابات الرئاسة من هذه الأمور؟

- لم يكن من بينها انتخابات الرئاسة علي الإطلاق، لما دخلت السجن بدأت أفكر هل أنا عملت كل حاجة لوجه الله وبصدق دون وجود أدني غرض من الشهرة أو إشادة الناس بي، فبدأت أحسب كل حاجة عملتها وبدأت أخصم الحاجات اللي أنا شاكك أني عملتها ولم أكن مخلصاً، وتدخلت فيها أغراض أخري انتخابية أو سياسية أو حتي بها قدر من الرياء للناس، وبدأت أخصمهم واحدة واحدة، بكيت بشدة لأني وجدت الباقي اللي عملته بمنتهي الصدق والإخلاص قليل جدا، فقررت أول ما أخرج من السجن أني أكون أكثر إخلاصا وأن أكون أكثر عدالة مع أولادي لأني لم أكن عادلاً معهم ودلوقتي باحاول أعوض الحاجات إلي ما عملتهاش معاهم قبل كده.

> وعلي المستوي السياسي ما هي الأمور التي راجعتها ووجدتها لم تكن صادقة أو حقيقية وكانت خطأ؟

- وكنت محتاج أكتر أن يكون أدائي البرلماني من عام 95 إلي 2000 مثل أدائي من 2000 إلي 2005 الذي كان أصدق وبلا أي توازنات في الفترة ديه لم أتفاد شيئاً نتيجة الحرج أو مجاملة لأحد، لكن في حاجات أحيانا لم أكن أدخلها نتيجة الحرج وده خطأ أنا ارتكبته بصراحة مرة واحدة في البرلمان عملت موقف لسه بندم عليه حتي اليوم وهو أنه كانت هناك مناقشة لقانون رفع السن للتعيين وأن «المعاش لا يكون له سن» فأحد الأشخاص اتصل بي وقال لي «أملنا ألا تعارض هذا القانون لأنه يمس مصالح فلان وفلان وهؤلاء لهم خبرات كبيرة محتاجينها في البلد» في هذا اليوم تغيبت عن الحضور بحجة إن في عزاء في باب الشعرية ولازم أحضره، أنا نادم جدا علي الموقف ده لأنه كان لازم أقول «لا» ممكن الموقف يكون تافهاً والآخرون لم ينتبهوا لما فعلته، لكني في السجن عاتبت نفسي كتير علي هذا وحسيت إني لو اتظلمت في السجن وعانيت ممكن يكون بسبب إني كنت نائباً وفي لحظة كان لازم أقول فيها «لا» وماقلتش، وفكرت إن في ناس كتير اتظلمت واتحرمت من الترقية بسبب عدم خروج كبار السن للمعاش، ممكن كان مجرد وجودي في المجلس وحتي معارضتي لم تغير شيئاً، بس كان لازم برده أقول «لا»

> ما الموقف الذي راجعته بينك وبين نفسك في السجن ووجدت أنك أخدته أو عملته من أجل الشهرة؟

- فيه موقف صحفي وليس سياسياً وأنا نادم عليه جداً، ولو عدت في يوم من الأيام - رئيس تحرير - فلن أكرره مره أخري لأن هذا الخطأ مازال يؤلمني ويغضبني من نفسي في وقت كان توزيع جريدة الغد بيزيد تقريباً كل عدد 20 ألف وفي الوقت ده تحديدا كان بالظبط التوزيع 170 ألف نسخة، وكان عندي رغبة شديدة إننا نكسر رقم 200 ألف فجاء أحد الصحفيين وقالي عندي شيء قوي وهو سبق خبري وكان علي تليفونه صورتان لفنانتين شابتين وحاملين أرقام السجن، وهما كانتا متهمتين في قضية قيل إنها كانت قضيه آداب، ونشرت الصورتين في الصفحة الأولي وقلت الحقيقة إنهم فعلا اتظلموا في القضية ودي كانت الحقيقة، بس الحقيقة أن غرضي من الكتابة ليس الدفاع عنهم، بل مجرد نشر الصورتين وعمل ضجه إعلامية وبس أرفع بيها التوزيع، وحتي الآن ضميري لم يسترح لهذا التصرف ونشر صورتيهما بهذا الشكل وأنا لم أفكر قد إيه أنا اتسببت في أذيتهم نفسيا بسبب الصور، خاصة وأني متأكد إن الصور ديه ملفقة كان مفترض إني أنشر المادة التحريرية فقط بدون الصور، لكن حلمي رفع التوزيع هو الذي دفعني لنشر الصور، والآن أنا أستغفر الله علي هذا الأمر وأتمني إنهم يسامحوني.

الأمر الآخر أني كابن وحيد لأمي وأبويا لم أعش معهما أيامهما الأخيرة وكذلك أولادي لأني ماشفتهمش وهما بيكبروا وهذه الأشياء تؤلمني نفسيا جدا وفي السجن لم يمر يوم بدون أن أحلم بأبويا وأمي حتي البيت إلي اتربيت فيه كنت بحلم بيه وإنه حوائطه بتضحك، «فجأه توقف نور عن الحديث مره أخري وعيناه لم تكف عن الدموع»

أنا عمري ما خنت حد ولا أذيته لكني في الوقت نفسه أتأذيت كتير واتظلمت من موسي مصطفي موسي ورجب هلال حميدة، أمي عاشت طول عمرها مريضة بالحمي الروماتزمية وكان معجزة إنها تنجب اطفال، وخلفتني حبا في أبويا وده سبب عدم وجود أشقاء ليه. في يوم من الايام لقيت رجب بيشتم في أمي في جريدة الغد إليِّ أنا عملتها بنفس اللون اللي أنا اختارته، بنفس الخط اللي أنا اختارته، باع علي حس مجهودي وتعبي وبعد كل ده في الجرنال بتاعي » أمي اتشتمت فيه» مش هقدر أنسي له ده، في ناس أصرت تزرع المرارة جوايا، واحد زي «موسي» لم يصدر مني تجاهه إلا كل خير ولم تكن له علاقة بالسياسة ولا الحياة العامة وأنا كنت في كل جلساتي كنت بتكلم عن مميزاته اللي هي أصلا مش موجودة فيه، وهو بعد مادخلت السجن كان بيكلم الناس عن عيوبي اللي مش موجودة فيا أنا كان بيصعب عليه أقول عنهم الحقيقة بتاعتهم لكنهم لم يصعب عليهم إنهم يقولوا كلام كتير مفيهوش حاجة واحدة حقيقية.

> لكنك الذي أدخلت موسي مصطفي موسي عالم السياسة ودعمت دخول رجب هلال حميده لحزب الغد؟

- ده خطأ كبير أنا ارتكبته في حياتي، لكني في لحظتها كنت أتصور إني بأعمل حاجة جميلة وأضيف للحياة السياسية، الفقيرة وأصبح هناك حزب جديد اسم الغد المفتوح أبوابه للجميع، أنا حساباتي لم تكن خطأ، حساباتي كانت «العملة الجيدة تطرد العملة الرديئة» لكن تدخل الحكومة أظهر العملة الزائفة وكأنها عملة جيدة، أنا ناضلت حتي لايحدث انشقاقات في الغد وعملت لائحة تضمن ده لكن لجنة شئون الأحزاب لم تهتم به لأن ساعة الجد الدولة ما بتعرفش القانون واحترامه.

عمري اتسرق ومجهودي وقراءتي وبحثي وفكرتي وللأسف اللي سرقوه ما عرفوش يحافظوا عليه لأنهم مايستهلوش، أنا حاسس إن في حد خطف ابني وعمله «بسطرمة وسابها لحد ما عفنت حتي ماكلهاش» لو كانوا سرقوا الحزب وكبروه والله كنت أفرح إني ابتديت شيء والناس كملت، لأن الغد مش بتاع أيمن نور، واللي حصل إنهم حرقوا الحزب وتاريخه وفي أول عدد من جريدة غد موسي الذي خرج وصدر بدون ترخيص لمدة عام «مفيش حد في مصر يعمل كده» لكن هما عملوا كده معايا وفي أول عدد ليهم وجدت تأييدًا لـ «جما ل مبارك» الذي دارت بينا وبينه معركة شرسة ثمنها دخولي السجن.

موسي ورجب فرغا كل شيء من معناه وكادا يكرهانني في كلمة الغد، كانا يبيعان الجرنال «بشتيمتي» إيه الظلم ده إلي كان واقعه عليه أكثر مرارة مليون مرة من ظلم الدولة ليه، المرة الوحيدة التي بكيت فيها بحرارة في سجني عندما أبلغوني خبر الحكم الصادر لصالحنا في رئاسة الغد.

> كيف كان وقع خبر حريق الغد عليك وأنت مسجون وكيف شاهدته عند خروجك؟

- خبر الحريق عرفته قبل ما يحدث الحريق بالفعل وأبلغت الجهات الرسمية التي أبلغتني جهات ما في الدولة . وهناك جهات رسمية متصارعة كتير، بلغني الخبر بصراحة من أحد قيادات الحزب الوطني، وأبلغت الجهات الرسمية بهذا التحذير الذي وصلني لكن لم يتحرك أحد وتركوا مراتي وأولادي وزملائي في الحزب يتحرقوا، من قبل حرقوا المجمع الثقافي في باب الشعرية وساعتها وقفت أشوفه والنيران تشتعل فيه وعشت 10 سنين أجمع فلوسه وتعبت فيه شفته والنيران بتحرق كل ده، ساعتها ازداد إحساسي بالتحدي وأني بعد ما زرعت ورده فجاء شخص آخر اقتلعها من جذورها فقررت أني بدل ما أزرع ورده أزرع شجرة تكون أصعب في الاقتلاع، عشان ما حدش يعرف يكسرها ده نفسه الاحساس الذي أصابني وأنا داخل الغد بعد ما أتحرق، مش عارف هعمل ده إزاي بس أنا واثق إني هعمله أحسن مما كان عليه، لكن حتي الآن ليس عندي حسابات توصلني لتلك النتيجة لكن كل ما أملكه هو اليقين والأمل والإصرار علي تحقيق ذلك.

> هل حسيت في اللحظة دي إن هناك من يغتصب حلمك ومشروعك السياسي الذي دفعت ثمنه ضياع أربع سنوات من عمرك في السجن؟

- آه، اغتصبوا حلمي ومشروعي وأربع سنوات من عمري وأنا أسامحهم في كل هذا

> تسامح بعد كل هذا.. هل هذا ضعف؟

- الشيء الوحيد الذي لم أسامحهم فيه هو أنهم أهانوا كلمة «الغد»، وهذا ليس معناه أنني ضعيف لأني عمري ما كنت ضعيفًا، لكني مقتنع أن التسامح قوة. الضعيف مظلوم واشفق علي خصومي وأخشي أن يقتلهم الفراغ بعد موتي.

هناك أشخاص يدور كل فلكهم وحياتهم علي مهاجمتي، لكن بعد موتي هيظهروا في الإعلام يقولوا إيه؟ أنا لم اقرأ في الصحف خبرًا عن موسي مصطفي إلا وهو يهاجمني أو مقدم بلاغ ضدنا لم يفعل شيئًا إيجابيًا علي الأقل يفيده وكان آخر الكلام ده أن صرح وقال «أيمن نور لو اتكلم باسم الغد سأبلغ النائب العام»؟ إيه السخافة ديه، عايز أقوله إنه لما كان يتحدث باسم الحزب كنت عايز أعمل فيه بلاغ حتي لا يتحدث بتلك الصفة.

> هل كان يتوقع أيمن نور هذه القوة والمثابرة التي بدت عليها جميلة إسماعيل واصرارها علي النضال من أجلك ليس كزوجة فقط بل كسياسية، خاصة أنها لم تمارس العمل السياسي والعام قبل دخولك السجن؟

- كنت بأقول إنني مدين لخصومي بنجاحي لأن في كثير من الأوقات الذي صنع نجاحي تصرفات وظلم خصومي لي أو استفزازهم لملكتي ومواهبي الشخصية، أنا الآن مدين لهم بدين جديد وهو بسعادتي الزوجية لأن خصومي بظلمهم استفزوا طاقات داخل زوجتي جعلتني أشعر أنها أمي وبنتي وزوجتي وشريكتي وصديقتي واصبحت جزءًا من نسيج آلامي وأحلامي . ليس مجرد إنسانة قابلتها واتجوزتها وأصبح بينا عشره، أشعر رغم كبر سني عنها بثلاث سنوات أشعر وكأننا ولدنا في لحظة واحدة واتنفسنا نفس النفس، رغم أن طباعنا وشخصياتنا مختلفة جدا لكني بدأت اشعر ان كل هذا انصهر في بوطأة الأزمة وخلق شيء اقوي من كل الامور العادية لطبيعة الحياة الزوجية.

جميلة شخصية قوية ومحترمة وليست شخصية تابعة أو سهلة الانقياد، الأزمة حولت جميلة لشخصية صعبة جدا للخارج وسهلة جدا بالنسبة لي فسهلت من مهمة التعامل معها. فهي معي في ظل الأزمة تسمع لي جيدا وبدأت أشعر في لحظات معينة أننا جسم واحد فيه عقل واحد بيفكر وايدين تنفذ والتوافق العضلي العصبي الحركي بيننا كأننا فعلا شخص واحد . هذا أثري جدا العلاقة الإنسانية ليس كزوج وزوجة لكن المقصود العلاقة الإنسانية بمعناها الأوسع.

وبنسبه 80 % دأب ومثابرة جميلة إسماعيل ومواجهتها القوية والصامدة ضد خصومنا خففت من وطأة إحساسي بالسجن والقيود وكنت أشعر بحريتي.

«البشير» رأس الذئب الطائر!


الكاتبة الكبيرة عايدة العزب موسى

إذا لم يسلم البشير نفسه فسنقبض عليه ونسلمه للمحكمة الجنائية الدولية، وأنا أنصح الأخ البشير أن يذهب عن طوع نفسه إلي المحكمة» هذه الكلمات هي ما قالها للصحفيين د. خليل إبراهيم زعيم حركة العدل والمساواة، عندما أشيع خبر غير مؤكد أن المحكمة الجنائية الدولية أصدرت قرار اعتقال بحق البشير!

وقد نفت المتحدثة باسم المحكمة صدور قرار بذلك.

جري هذا القول في العاصمة القطرية «الدوحة» أثناء مفاوضات جرت بين حكومة السودان وحركة العدل والمساواة، امتدت ثمانية أيام، ولم تسفر إلا عن اتفاق نوايا يمهد لمحادثات سلام فيما بعد.

التهمة الموجهة للرئيس «البشير» من المحكمة هي ارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور، ولكن المدعي العام للمحكمة «لويس مورينو أوكامبو» اختار جريمة الإبادة الجماعية لتكون التهمة الرئيسية برغم أن تقرير اللجنة الدولية التابعة للأمم المتحدة لتقصي الحقائق في أحداث دارفور التي شكلت عام 2004 أشار إلي أنه لم تكن هناك سياسة رسمية بارتكاب الإبادة الجماعية سواء بشكل مباشر أو غير مباشر أو من خلال الميليشيات التي تسيطر عليها الحكومة، فكيف استنتج «أوكامبو» نية الإبادة لدي «البشير» وبشكل قاطع من الأدلة المقدمة؟!

كما أن «البشير» أوقف إطلاق النار من جانب واحد وقيد استخدام الجيش للسلاح وشرع في إجراءات نزع أسلحة الميليشيات ووعد بتعويض المتضررين من الحرب. أليست هذه خطوات تحسب له؟! أم أن المطلوب أن يكون «البشير» رأس الذئب الطائر؟ المفروض إذا كان هناك رئيس يستحق المثول أمام المحكمة فهو «جورج بوش» الابن ومن قبله «بوش الأب» لما فعلاه بشعبي العراق والصومال التي ليسا لهما أدني صلة بها من قريب أو بعيد، وكذلك أولمرت وعصابته في غزة.

نعود إلي صلب الموضوع، من هو «خليل إبراهيم» الذي يهدد بالقبض علي البشير ومن أين يستمد هذا الجبروت؟ إنه زعيم أحد فصائل التمرد في دارفور التي وصل تعدادها إلي 30 فصيلاً، وحركته المسماة «جبهة العدل والمساواة» ليس لها وجود قوي سياسياً أو عسكرياً ولا تسيطر علي أرض وبالتالي هي لا تمثل شعب دارفور ولا تمثل كل مكوناته، حتي أها في عام 2006 رغم وجود ممثلين عنها أثناء محادثات السلام التي جرت بين حكومة السودان وحركة تحرير السودان في أبوجا، وكللت باتفاقية السلام DPA استبعدوا من المحادثات باعتبارهم غير فعالين.

إن د. خليل إبراهيم ليس الزعيم الأوحد لحركات المعارضة، فهل مجرد زعامة فصيل يعطيه الحق بالتكلم عن كل شعب السودان؟! أو أن يكون له الحق في إلقاء القبض علي رئيس دولته؟! إن خليل إبراهيم وأمثاله كثر في دول أفريقية وهم في حقيقتهم معارضون بالوكالة أي إنهم يقوون ويتحركون وينفذون أجندة وكلاء دوليين وإقليميين «المخابرات الأمريكية والبريطانية» بالتحديد.

خليل إبراهيم خرج من عباءة الدكتور حسن الترابي ليقود حركة مسلحة ضد النظام السوداني. ففي عام 2003 ظهرت حركة تحرير دارفور وتبناها الزعيم الجنوبي الراحل جون قرنق وطب تغيير اسمها إلي حركة تحرير السودان رفضت حركة العدل والمساواو الامتثال لطلبه. وقد أدرك قرنق حينذاك أن الحركة تختلف كلياً عن نظيرتها حركة تحرير السودان خاصة عندما ظهر انتماؤها الإسلامي ورفضها المناداة بالعلمانية كحل لمشكلة دارفور. ولعل انتماء خليل إبراهيم إلي حسن الترابي يبرر موقفه المتشدد من الرئيس البشير الذي يعاديه الترابي وأصبحا علي طرفي نقيض بعدما كانا متزاملين في البداية. وعلي العموم فكلتاهما الحكومة وحركة العدل والمساواة مرفوضتان من الغرب والولايات المتحدة لتوجههما الإسلامي ومطلوب تصفية كل وجود فاعل للإسلاميين في السودان سواء أكان في الحكم أو في المعارضة!

جذور القضية:

بدأت مشكلة دارفور تظهر علي السطح عندما قامت حركة تحرير السودان وخاضت هجمات عصابات علي حاميات حكومية، وردت عليها الحكومة بميليشيات الجنجويد التي تتشكل من عرب دارفور.

وأصل المشكلة تعود إلي ما قبل عام 1984 حيث حلت مجاعة لم يتم الفكاك منها وزادت مع نمو السكان، وكان اهتمام الحكومة السودانية ضعيفاً وشعورها بالمسئولية كان سلبياً ولم تقدم استثمارات مناسبة، وافتقدت السلطة المركزية والمحلية تمثيلاً مناسب لأهل هذه المنطقة، يضاف إلي ذلك الحتكاكات التقليدية والتنافسات بين أهل العشائر المختلفة التي لا تقوم بين العرب والأفارقة فقط بل تقوم بين العرب وبعضهم البعض وبين الأفارقة وبعضهم البعض.

والكلام السائد هو أن الصراع في دارفور هو صراع عشائري في الأساس نتج عن عداء طويل المدي بين المزارعين الأفريقيين والبدو العرب، وأنه يتركز أساساً علي المنافسة علي الأرض أي علي الرعي والماء، وأن المتمردين يمثلون الأفارقة بينما العرب تؤيدهم حكومة السودان من خلال الجنجويد، وإن الحكومة الصينية التي تحصل علي ثلثي بترول السودان تقف موقفاً سلبياً واختارت عدم استخدام نفوذها للضغط علي الخرطوم لوقف هذه المآسي والاختراقات لحقوق الإنسان.

ومنذ تصاعد القتال عام 2003 اعتادت الصحف الأفريقية أن تتضمن أخباراً وتعليقات عن دارفور تصور العرب علي أنهم غرباء عن الأرض وأنهم آتون من الخارج رغم أنهم يشكلون 80% من الأهالي، وإن الأفارقة هم أصحاب الأرض، وعلي سبيل المثال فإن 1500 مقالة نشرت عن دارفور بين أعوام 2004 - 2007 في الصحف الناطقة بالإنجليزية وحدها عدا الصحف الفرنسية والعربية والصحف الناطقة باللغات الأفريقية. وأغلب الكتابات صوَّرت المسألة العرقية علي أنها العنصر الأساسي في الصراع العنيف، وصورت الحرب بشكل ثابت في صياغات عرقية بتبسيط متناه مما يكشف عن تحامل ضد العرب ويظهر العرب كما لو كانوا أجانب، ومن ثم فإن المسائل السياسية المتعددة والمتشابكة المتعلقة بهذا الصراع تقلصت إلي نظرة ضيقة تتعلق بالخير في مواجهة الشر أي الأفريقي في مواجهة العربي، وهذا ما أنتجته وسائل الإعلام الغربية!

وهذا العرض لا يفسر كيف أن جماعات عاشت تاريخياً مع بعضهما شالبعض وتاجروا وتعاملوا وتزاوجوا مئات السنين يصيرون الآن في قلب حرب قاتلة وغير متوازنة بين حكومة مسلحة جيداً وميليشيات شديدة القسوة من جانب وبين متمردين من جانب آخر ويتسبب كلاهما في قتل الآلاف. وتصبح اللغة السائدة في الكتابات الأفريقية أن التعصب العربي لايزال يقتل الأفارقة السود! ويصفون العرب بالميليشيات العربية ويسمون الأفارقة الضحايا! وتكثر الأقلام التي تلوم الأفريقيين علي أنهم لا يدافعون عن إخوانهم السود في السودان ولا يواجهون العرب الذين يصطادون الأفارقة. ولكنهم لا يفسرون من هم العرب أليسوا هم أفارقة أيضاً وهم سواء كذلك وأنهم اتصلوا ببعضهم واختلطوا من قديم.

إن الاعتماد علي أن العرب ضد الأفارقة السود كأساس لفهم الصراع ينطوي علي إنكار العلاقات التاريخية التي تقوم بينهم في دارفور، وأن من ينظر إلي صور لمن يقال عنهم عرب جنجويد ومن يقال عنهم الأفارقة السود يتأكد كيف تتشابه ملامحهم بحيث يصعب التمييز بينهما، وأن وصف السودان بأنه عناصر متعددة هو وضع القارة الأفريقية كلها التي تتشكل من عناصر متعددة الأعراق واللغات. وأن القول بأن العرب يوجدون في الشمال في السودان والأفارقة في الجنوب هو قول لا يعني شيئاً بالنسبة لدارفور التي تقع في الغرب.

الحالة الدارفورية:

هذه التصورات للحالة الدارفورية تبدو سطحية والحقيقية أكثر تعقيداً من ذلك، ومع تناثر حركات التمرد والقتال عبر الحدود وافتقاد النظام والقانون يكون من الصعب إدانة عرق ضد عرق آخر، يضاف إلي ذلك قطَّاع الطرق الذين يسرقون الشاحنات التي تبعثها الوكالات الإنسانية للغوث «سرقت في العام الماضي 60 شاحنة وفقدت 39 أخري واختف نحو 709 أطنان من الأغذية.

وفي وسط هذه الفوضي تصاعد القتال علي الحدود بين تشاد ودارفور كما أدي إلي تهجير أعداد كبيرة من الأهالي وأصبح 5،2 مليون شخص يعيشون في معسكرات وعدد يتراوح ما بين 200 و300 ألف قتلوا أو ماتوا بسبب المجاعات والأمراض التي نتجت عن الحرب.

ولا شك أن ذلك مهما كانت مدي صحته يشكل كارثة، ولكن الرئيس البشير يشكك في هذه الأرقام ويقول إن القتلي لا يكادون يصلون إلي تسعة آلاف فقط، والقول بقتل العرب للسود هو محض أكاذيب فحكومة السودان هي حكومة الشعب بكل خلفياتهم العرقية «ونحن جميعاً أفارقة نحن جميعاً سود».

إن الصراع في دارفور ليس صراعاً بين العرب «والزرق» أي الأفارقة كما يطلق عليهم فالعرب أكثر تهميشاً، والحكومة السودانية اضطهدت العرب وتجاهلتهم رغم أنهم يمثلون 80% من السكان. وخلاصة الأمر يمكن إيجازها في خمس نقاط:

أولاً: المشكلة بدأت من عام 1984 مع القحط الشديد الذي حصل في ذلك العام ولم تُعَالج آثاره بل زادت بعد ذلك.

ثانياً: إن أهل دارفور قبائل وعشائر متناحرة فيهم عرب ضد عرب وأفارقة ضد أفارقة.

ثالثاً: إن قوات حفظ السلام كانت سبعة آلاف أيام الاتحاد الأفريقي متحركة علي مساحة قدر فرنسا، ولما أتت قوات الأمم المتحدة وقُدّر أن يكونوا 26 ألف لم يأت فعلياً إلا تسعة آلاف، يقارن ذلك بالبوسنة التي مساحتها مثل مساحة بلجيكا ذهب إليها 50 ألف مقاتل مجهزون أفضل تجهيز، فلم تقو هذه القوات علي حفظ السلام شأنها شأن قوات الحكومة.

رابعاً: أن تحقيق السلام لا يتم إلا من خلال حوار دارفوري دارفوري ينهي الصراعات القبلية والعشائرية.

خامساً: الأمريكان وأوروبا لا يهمهم العرب ولا الأفارقة كل الذي يهمهم الضغط بهذه المشكلة علي السودان لأن السودان يعطي الصين ثلثي بتروله!

حتمية إعادة اختراع الدولة


هبة رؤوف عزت
ننسي كثيراً أن الدولة الحديثة التي يسمونها الدولة القومية وأحياناً الدولة القطرية هي ماكينة وجهاز وآلة لتسيير السياسة وتوزيع الموارد وإدارة عجلة المجتمع هي اختراع حديث جداً عمره أقل من أربعمائة عام، وأن الوعود التي قدمتها من تحقيق الأمن وتوزيع الثروة وإطلاق طاقة الأفراد وحماية الحريات لم يتحقق منها شيء في تجربتنا معها أثناء وبعد الاستعمار، هذا الاستعمار الذي فتح أبوب الحارات ودخل بالخيل المساجد
وتحدث بلسان التنوير لكنه حكم بدَوِيّ المدافع وتعليق المشانق وهيمنة القوة وعود الدولة الحديثة أخفقت، حتي إن النظريات الحديثة للدولة في العالم النامي تسميها الدولة الفاشلة أي التي أخفقت في القيام بالأدوار المرسومة للدولة في النظريات.

باختصار شديد باع لنا الاستعمار آلة هي النظام السياسي للدولة القومية الحديثة أو بمعني أدق «الحداثية». بني لنا حدودها ووضح لنا معالمها بل وساعدنا علي بناء مؤسساتها، وقال: أديروها وهي ستعمل بكفاءة واتبعوا تعليمات التشغيل ولو احتجتم أي مساعدة سأساعدكم، لكن الآلة تسليم مفتاح، ونحن لا نعلم عن تاريخ اختراعها شيئاً، وربما كان يمكن أن نخترع نحن آلة أبسط لكنها أكثر كفاءة لأنها تناسب مجتمعنا وظروفنا ولسنا في حاجة لكل هذا التعقيد، بل إن كثيراً من الوظائف التي يمكن أن تقوم بها الآلة لا تلزمنا أصلاً، فالدولة هي الآلة وهي شكلها لطيف وشيك وأجهزتها معقدة ونحن اشترينا ودفعنا ويجب أن نظل نردد أنه كان لا بد من تطوير الأدوات كي نخفف وطأة شعورنا الدفين بالمقلب والكارثة، لكن تلك الآلة ستبقي كما وصفها برتران بادي عالم السياسة الفرنسي: «دولة مستوردة ذات روح غربية».

الغريب أننا لم نعاد في تاريخنا المعاصر كعرب وإسلاميين الحداثة الغربية إلا في فصلها بين الدين والدولة، وقامت المعارك الطاحنة حول العلمانية والإسلام، ولما تفتق ذهن المفكرين الإسلاميين عن حل هو أسلمة تلك الكارثة المسماة دولة حديثة وتلبستهم فكرة الدولة الإسلامية كان هذا في الحقيقة - بمعيارمقاصد الإسلام- أم الكوارث، ليس لأن الإسلام ليست له نظرية في السلطة والقوة والشرعية والإدارة السياسية، بل له نظرية ورؤي وتراث فكري محترم وغني جداً.. بل لأن أي صيغة سياسية للحكم تحقق مقاصد الإسلام من عدل ومساواة وتبادل لكرسي الحكم ومساءلة وشفافية ومواطنة لا يمكن أن تكون عبر هذه الدولة القطرية القومية الحديثة الكارثة تحديداً بأي حال من الأحوال ألبتة.

لقد كان الركن الركين والعمود الأساس في مشروع الحداثة هو العقلانية النفعية و السيطرة علي الطبيعة وعلي المجتمعات، وكانت الدولة هي أداة تحقيق التصورات الفلسفية من فردية وعقلانية مادية وتحول اقتصاد للسوق الحرة وتحول اجتماعي للمدن الصناعية. هي بعينها الدولة القومية وهي بسلطتها المتحكمة في المجال العام والمجالات السياسية والاقتصادية ومهارتها التاريخية في اكتساح المجال الاجتماعي وتدمير كل ما هو إنساني وتراحمي لإحكام السيطرة عليه بالقانون واحتكار استخدام القوة بتأسيس الجيوش النظامية ونزع أسنان وأظافر المجتمع والناس بزعم أن المجتمع المدني يجب ألا يكون مسلحاً وأن الدولة سـتأخذ السلاح وتقوم هي بحمايته وتتفاوض مع الناس في مصالحهم، لكن الواقع أن الدولة نزعت السلاح ولم تحقق للناس الحماية بل وجهت السلاح لصدورهم وأحياناً لظهورهم حين حاولوا استرداد حقوقهم وفتح أفواههم، وأهدرت مصالحهم القومية بل والإنسانية الأساسية. هذه الدولة هي ما أعنيه وليس النظام السياسي فقط، تلك الفكرة بخصائصها الحديثة وهذه الآلة بشكلها الواقعي..الواقعي جداً.. هي المشكلة، والنظم فهمت هذا واستغلته أسوأ استغلال وما زلنا نحن نسيء الظن بالنظم ونحسن الظن بالدولة الحديثة. ومهم أن نفهم أن مصر دولة قديمة وتاريخية ولم تصنعها تلك الدولة الأخري الحديثة.

سحبت الدولة وظائف المجتمع.. الدفاع والتعليم والرعاية الصحية والإسكان، وغيرها، فأصاب الضمور عضلات المجتمع التربوية والتراحمية والتعاضدية والتكافلية، وأخفقت الدولة إخفاقاً مذهلاً، راجع تقارير التعليم والصحة في أمريكا وأوروبا (لا حاجة لقراءة تقارير التعليم والصحة المصرية.. الأمر لا يحتاج ذلك أصلاً).

لقد صار التفكير بـ «منطق الدولة» هو الأصل، فالدولة لم تهيمن فقط علي المساحات لتأمين السوق بالأساس، بل هيمنت علي تصوراتنا عن السياسة فأضحت منهاجية للتفكير، لذلك برزت فكرة الدولة الإسلامية في الخطاب الإسلامي، ونحن لسنا ضد فكرة علاقة الدين بالدولة من حيث الرعاية والحاكمية بالمعني الإسلامي -الشورِي- لكننا بحسم ضد أن تتحول الدولة لمنطق سائد في التفكير السياسي يطغي ويهيمن، فتكون لدينا تلال من المؤلفات عن الدولة الإسلامية حكماً وسلطات ولا يكون لدينا إلا النذر اليسير عن المواطن في دار الإسلام وحقوقه، والمجتمع في ظل حكم الإسلام: فاعليته واستقلاله ومساحاته محرم علي الدولة أن تقترب منها.

آن الأوان أن يفتح ملف التجديد السياسي (وليس التجديد الديني فقط) لنعيد النظر في كوارثنا من منطلق الحاجة لآلة مختلفة للسياسة (وليس نظاماً أو حكومة مختلفة فقط)، دولة أخري في بنيانها وفلسفتها وأدوارها ومساحاتها تحقق وظائف الحماية والرعاية والعدل، لكن تكون أكثر كفاءة.. وأقل ضرراً وضوضاء!

الأمم تأخذ مئات السنوات في تطوير أفكارها ثم تحولها لأشكال، ونحن لا وقت لدينا، فقد تجاوزنا الوقت بل تجاوزنا التاريخ. ربما لم يبق لنا سوي قليل من الجغرافيا التي نأمل في الحفاظ عليها، والله المستعان.

صور أيمن نور بعد الإفراج عنه


صور أيمن نور بعد الإفراج عنه








إطلاق سراح أيمن نور لأسباب صحية

تحديث : وأضافت زوجته جميلة اسماعيل في اتصال مع رويترز "انه في المنزل"

قالت جميلة إسماعيل زوجة المعارض المصري أيمن نور إنه تم إطلاق سراح زوجها لأسباب صحية. جاء ذلك في تصريح أدلت به لوكالة رويترز للأنباء.

وكانت الحكومة المصرية قد رفضت من قبل عدة نداءات لاطلاق سراح نور الذي سجن بتهمة التزوير فى التوكيلات الخاصة بحزبه.

ويقول انصار نور ان التهم وجهت له جاءت عقب تحديه للرئيس المصرى حسنى مبارك فى اول انتخابات رئاسة مصرية.

ورفضت السلطات المصرية ضغوط واشنطن ومنظمات حقوق الإنسان للإفراج عن المعارض المصري.

وكان نور حل في المركز الثاني في انتخابات الرئاسة التي جرت في مصر سبتمبر/ أيلول 2005 بعد الرئيس حسني مبارك بعد أن حصل على ثمانية في المائة من الأصوات.

حسن البنا : 60 عاما علي اغتيال رجل لا يريد أن يموت


عبدالمنعم محمود
في الثامنة والثلث مساءا صلي صلاة العشاء الأخيرة بعد أن دعوه إلي مقر جمعية الشبان المسلمين في شارع رمسيس للتفاوض وحين لم يحضروا طلب من موظف في الجمعية أن يوقف له تاكسي ليعود إلي بيته ولكن القدر ويد الجبناء لم يدعاه إلي العودة سوي علي نعش خشبي لتصلي عليه وتشيعه النساء ووالده المسن إلي قبره، ففي هذا التاريخ وتحديدا في مساء 12 فبراير عام 1949 أطلق مسلحين النار علي حسن البنا مؤسس ومرشد جماعة الإخوان المسلمين بعد أن استدرجته حكومة إبراهيم باشا عبدالهادي آنذاك بدعوي اجراء مفاوضات حول أوضاع الجماعة بعد قرار حلها بينما كانت الدعوة للتخلص من هذا الفرد " الأمة " بعد أن اُعتقل كل أنصاره ليلقي حتفه وحيدا ولتموت معه دعوته التي بدأها قبل هذا التاريخ بنحو 21 عاما، ظنوا وقتها أنهم قد استطاعوا إنهاء هذه الدعوة التي أحيت قلوب المصريين إلي الإسلام الوسطي البعيد عن البدع وطنطنة الشيوخ.
مات حسن البنا منذ 60 عاما بينما ذكراه حية في أفكاره ودعوته وجماعته، ولاسيما الجماعة أو التنظيم الذي ذاع صيته من أقصي الدنيا إلي أقصاها «الإخوان المسلمين» اسم لم يعد في حاجة للبحث عن تاريخه ولكنه في حاجة للتعرف علي أفكاره التي تتاروح بين يوم وآخر مع أفكار الإمام المؤسس ليكون حسن البنا في ذكري استشهاده حيا بهذه الأفكار وميتا ليس علي يد أعدائه فقط بل قد يموت في ذكراه علي يد أتباعه أيضا.
حسن البنا الذي ألهبته العاطفة الإسلامية منذ صغره فمر بدروبها متصوفا وسلفيا حتي وقف عي روح الإسلام وقرر أن يركب قطار تيار الإحياء والتجديد الإسلامي في العصر الحديث الذي بدأ علي يد جمال الدين الأفغاني الذي سعي إلي إنشاء الجامعة الإسلامية وتلميذه الإمام محمد عبده والذي يسميه المفكر الإسلامي محمد عماره مهندس حركة التجديد الفكري الإسلامي، لتمتد الحركة التجديدية بالشيخ محمد رشيد رضا والذي حمل رسالة هذا التيار عبر مجلته «المنار» ومن ثم سلم رضا الأمانة لتلميذه حسن البنا ليكمل الطريق والذي واصل إصدار المنار وتفسير القرأن الكريم من حيث انتهي رشيد رضا.
قطار التجديد الذي بدأه الأفغاني مستهدفا تحرير العقل المسلم من أغلال الجمود والتقليد لمواجهة التخلف الذي أورتثه الحقبة المملوكية والعثمانية رافعا شعار «الإصلاح بالإسلام» في مواجهة المشروع الحضاري الغربي، ثم واصل الإمام محمد عبده السير علي طريق أستاذه مزكيا روحا اليقظة الإسلامية والمشروع النهضوي للإسلام بإعتباره دين الوسطية، وامتدت حركة الإمامين علي يد الشيخ رشيد رضا ومدرسته «المنار» التي وضعت الأسس للمشروع الحضاري الإسلامي، وهنا يأخذ الإمام حسن البنا الراية من الأئمة السابقين لبسير علي نهجهم ليصبح هو وبحق عميد مدرسة الإحياء والتجديد الإسلامي حيث استطاع الشاب الذي لم يزد عمره وقتها عن 24 عاما أن ينقل هذه المدرسة التجديدية من نطاق الصفوة والنخب إلي الجماهير، حيث انشغل بهم الأمة ووحدتها وخاصة سقوط الخلافة الإسلامية وسعي أن تكون هذه لهذه الحركة التجديدية أرجل تسير بها بين المسلمين لتبصرهم بمشروع حضاري مدني إسلامي مهموم بوحدة الأمة وتحرير عقلها وفق «إسلام الإخوان المسلمين» الذي قال عنه البنا في رسالة المؤتمر الخامس: «نحن نعتقد أن أحكام الإسلام وتعاليمه شاملة تنظم شئون الناس في الدنيا والآخرة، وأن الذين يظنون أن هذه التعاليم إنما تتناول الناحية العبادية أو الروحية دون غيرها من النواحي يخطئون في هذا الظن، فالإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف» مؤكدا أنه لا يعني إسلاما غير الذي جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم بل يشير علي قضية فهم الإسلام بمعناه الشامل ووقتها قد استطاع البنا أن تصل جماعته لقري ونجوع مصر ويصل أعضائه إلي عشرات الآلاف وتضم كل فئات المجتمع من عمال وأفندية وشيوخ وطلاب ونساء.
فقد استطاع البنا وفق شخصيته الكريزمية أن يقوم بما لم يستطع القيام به الأفغاني وعبده ورضا، حيث فكك البنا أفكارهم ونظرياتهم في كلمات بسيطة حفظها الشباب عن ظهر قلب لينقلوها إلي زملائهم في الجامعات والمصانع دون جمود مما دفع الكاتب الصحفي آنذاك إحسان عبدالقدوس أن يكتب في مجلة روزليوسف هؤلاء الشباب عندما زار مقر الإخوان في الحلمية عام 1945 قائلاً: «هم شباب مودرن لا تحس فيهم الجمود الذي امتاز به رجال الدين وأتباعهم ولا تسمع في أحاديثهم التعاويذ الجوفاء التي اعتدنا أن نسخر منها، بل إنهم واقعيون يحدثونك حديث الحياة لا حديث الموت، قلوبهم في السماء ولكن أقدامهم علي الأرض، يسعون بها بين مرافقها ويناقشون مشاكلها ويحسون بأفراحها وأحزانها».
هذا هو الجيل الذي صنعه البنا ولكن ربما لو نظرت إلي إخوان اليوم هنا قد يشعرك عدد غير قليل منهم أن البنا مات فعليا وخاصة وأنت تطالع أحد الكتب التي تقوم الجماعة بتدريسها للإخوان «العاملين» وهي الفئة التنظيمية داخل الصف الإخواني وهي تنعت رواد فكر التجديد بأنهم تغريبيون حيث جاء في كتاب «من أخلاق المؤمنين» أن جمال الدين الأفغاني هو أحد أقطاب هذه المدرسة التي سعت إلي صبغ حياة المسلمين بالأسلوب الغربي وقال الكتاب عنه أنه انضم للمحافل الماسونية.
لقد مات حسن البنا وماتت أفكاره علي يد أتباعه حينما يورد الكتاب الذي هو الركيزة الأساسية في المنهج الثقافي الذي يتدارسه الإخوان «العاملون» عندما يقول: «كان الشيخ محمد عبده من أبرز تلاميذ الأفغاني وشريكه في إنشاء مجلة العروة الوثقي وكانت له صلة باللورد كرومر والمستر بلنت، ولقد كانت مدرسته ومنها رشيد رضا تدعوا إلي مهاجمة التقاليد كما ظهرت لهم فتاوي تعتمد علي أحد تأويل النصوص بغية إظهار الإسلام بمظهر المتقبل لحضارة الغرب كما دعا الشيخ محمد عبده إلي إدخال العلوم العصرية إلي الأزهر لتطويره وتحديثه».
لم يبقي هذا الكتاب غير اسم حسن البنا نفسه ليكي يدرجه ضمن هؤلاء التغريبين حينما يورد اسم رشيد محمد رضا أستاذ البنا المباشر بأنه تغريبي رغم أن العمق السلفي الذي اكتسبه البنا قد توارثه عن رضا ومجلته المنار التي قادها البنا بنفسه بعد وفاة الأستاذ.
أدرك البنا من خلال تجربة الرواد الثلاثة أن الأفكار الكبيرة والعميقة لا تتفاعل معها الجماهير، فرغم حرصه أن ينشر تيار فكري داخل المجتمع فقد كان أشد حرصا أن يكون هذا التيار حركيا يتحدث به وينشره المواطن البسيط والمثقف والعامل والطالب، وذلك من خلال الدعوة والتي شكلت رافدين دعوة لتجنيد أعضاء لإعددهم لدعوة الشعب المصري والجماهير المسلمة لتبني هذا التيار الفكري التي يشمل مناحي الحياة وفق المرجعية الإسلامية.
لذلك اهتم البنا في عملية نشر فكرته من خلال «التربية» حيث عمد إلي تكوين قسما خاصا بالجماعة لهذا الأمر حتي تترسخ الأفكار في وجدان أعضاء الجماعة لذلك حرص ألا يطلق عليه لفظ «رئيس الجماعة» ولكن «المرشد» أي المربي والموجه مستفيدا في ذلك بخبرته كمدرس ومتأثرا بعلاقته بالصوفية في صغره فكان الأعضاء كالمريدين لشيخهم ولكن خارج نطاق الدروشه.
والتربية عند حسن البنا لم تكن قاصرة علي الجانب الديني والشرعي فحركته لا تتوقف عند الجماعة الدينية بل هي حركة تغيير شاملة حتي يجد فيها كل مهتم ضالته فعرف الإخوان المسلمين بأنهم دعوة سلفية وطريقة سنية وهيئة سياسية وجماعة رياضية ورابطة علمية ثقافية وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية.
وهو ما قد يثير لبسا لدي المطلع علي هذه الجماعة وقد اعترف البنا بذلك قائلاً: «هكذا نري أن شمول معني الإسلام قد أكسب فكرتنا شمولاً لكل مناحي الإصلاح، ووجه نشاط الإخوان إلي كل هذه النواحي، وهم في الوقت الذي يتجه فيه غيرهم إلي ناحية واحدة دون غيرها يتجهون إليها جميعاً ويعلمون أن الإسلام يطالبهم بها جميعاً ومن هنا كان كثير من مظاهر أعمال الإخوان يبدو أمام الناس متناقضاً وما هو بمتناقض».
لذلك قام البنا بتقديم منهج ثقافي يدرسه الإخوان ليرتقي بفهمهم بهذه الدعوة واشتمل هذا المنهج جوانب شرعية وفقهية وسياسية وثقافية عامة وكان يتم تدارس هذا المنهج بشكل أسبوعي في حلقة تضم أربعة إلي ستة من أعضاء الجماعة وحرص البنا أن يتم تجميعهم من طبقات مختلفة سواء دراسية أو طبقية ليربي هذا الصف علي التلاحم.
ولعل أهم ما يميز دعوة حسن البنا هي التدرج في الخطوات وعدم استباق الخطي ووضع التدرج كأحد أهم خصائص دعوة الإخوان المسلمين لذلك أكد في رسالة المؤتمر الخامس التي كانت أشبه بوثيقة تعريفية جامعة قائلاً: «طريقكم هذا مرسومة خطواته موضوعة حدوده. ولست مخالفاً هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول، أجل قد تكون طريقاً طويلة ولكن ليس هناك غيرها. إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب، فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها فلست معه في ذلك بحال، وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلي غيرها من الدعوات . ومن صبر معي حتي تنمو البذرة وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره في ذلك علي الله».
والتدرج هي ميزة الدعوات الناجحة لذلك رفض البنا منطق الإنقلابات العسكرية والثورات مؤكدا أن الإخوان لا يعتمدون عليها ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها، لأنه كان يريد أن يحدث تغييرا جذريا يبدأ بالفرد ثم الأسرة ثم المجتمع وصولا للحكومة المسلمة بل العالمية.
ورغم أن جماعة الإخوان المسلمين ترفض تقديم مراجعة فكرية لتواكب بها العصر الحديث ومقتضياته ورغم انصياعهم لهذه العصرنه دون أن يعربوا عن مراجعتهم، فقد خالف الإخوان نهج التدرج الذي شدد عليه البنا عندما تحالفوا مع ثورة يوليو أملا في نشر فكرتهم عن طريق الحكم وفي هذا أكد الدكتور عصام العريان مسئول القسم السياسي للجماعة في ورقة بحثية حملت عنوان «الوفاء لنهج البنا» أنه نشأت داخل الإخوان مدارس جديدة في الفهم تختلف عن مدرسة البنا بعد استشهاده ضاربا المثال بالمدرسة التي أطلق عليها مدرسة «التعجل وعدم التدرج» التي رأت في استمرار النهج التربوي تأخيراً عن الوصول إلي ثمرة العمل، وهي إصلاح الحكم، فتعجلوا الوصول عبرالانقلاب العسكري عام 1952م فكانت النتائج المأساوية علي مصر والعرب والإخوان.
كما أعرب العريان أن مدرسة جديدة نشأت في الفهم الإخواني وهي «مدرسة التشددوالغلو».
معتبرا أن من ساهم في صياغة أفكار هذه المدرسة سنوات السجن الطويلة والتعذيب البشع الذي مورس ضد الإخوان في سجون عبدالناصر.
لكن العريان لم يفصح بشكل كامل عن رائد هذه المدرسة ومنظر أفكارها، إلا أن الشهيد سيد قطب يعد هو المنظر الأساسي حيث بلور نظريات البنا لشمول الإسلام بالحاجة إلي أن إعادة البيئة التي انتشرت فيها الدعوة الإسلامية علي يد الرسول صلي الله عليه وسلم في مكة والمدينة ورسم قطب منظورا آخر للمجتمع علي أنه «جاهلي» وأن الفئة المؤمنة التي استطاع هو تكوينها في ما يسمي «بتنظيم 65» هي التي ستحاول إعادة هذه المجتمع فاتحا بابا شديد الخطورة حتي يومنا هو «تكفير المجتمعات» والذي اتخذته الجماعات الإسلامية زريعة لاستخدامها السلاح والعنف في وجه الحكومات والشعوب في العالم الإسلامي، لنجد أن أفكار سيد قطب قد خالفت المنهج المتدرج لحسن البنا بل خالفت قاعدة أساسية وضعها في أصوله العشرين «لانكفر مسلما نطق بالشهادتين» فكانت أحداث وأفكار إخوان 54 و65 ضربة قاسية لأفكار البنا الذي أستشهد وماتت أفكاره السمحه في هذه الفترة، إلا أن الفكرة الطيبة لا تزول فقد سعي المرشد الثاني للجماعة حسن الهضيبي تصحيح مسار هذا النهج المخالف من خلال الوثيقة الهامة التي أصدرها عقلاء الجماعة داخل سجون عبدالناصر في كتاب «دعاة لا قضاة» والتأكيد علي أن التكفير والعمل العنيف والإنقلاب ليس من أدبيات الإخوان ومن يخالف ذلك يعتد خارجا عن الجماعة.
وهنا يقول العريان: «صدور كتاب» دعاة لا قضاة «الذي كانت عليه مفاصلة تامة لإعادة الاعتبار إلي نهج حسن البنا المعتدل والوسطي وفاء للإمام ولفكره الواضح في الحكم علي المسلمين والحكام وغيرهم».
لقد وضع البنا أسسا لمشروعه الفكري الإسلامي الوسطي السلمي من خلال تأكيده علي البعد عن مواطن الخلاف وخاصة الفقهي حيث أكد أن الإختلاف موجود منذ عهد الرسول صلي الله عليه وسلم وعهد صحابته الكرام وهي سنة كونية لكنه دعا الإخوان لنبذ التعصب للرأي والحجر علي عقول الناس وآرائهم، لذلك رفض البنا أن يختار للجماعة آراءا فقهية بعينها تاركا الباب مفتوحا حسب الأصول العامة للإسلام وهو ما أكد عليه أيضا من خلال الأصول العشرين التي تركها لتكون أشبه بميثاق فكري للإخوان ولأي حركة إسلامية تنشد الوسطية.
رؤية البنا لشمولية الإسلام لم تمنعه من التأكيد علي مدنية إدارة الدولة ورفضه للمفهوم الثيوقراطي مؤكدا أن الإخوان وفق فهمهم للإسلام يرون الحكومة ركنا من أركان الإسلام، وهنا يؤكد أن دور المصلحون أو الدعاة وفق هذه الرؤية تدعيم الحكومة من خلال اصلاحها وألا يكتفوا بالنصح ووالوعظ.
بل وضع البنا أسس نظريته الشاملة وفق متطلبات العصر حين أكد أن أن نظام الحكم الدستوري هو أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلي الإسلام ويشرح نظريته قائلاً: «أن الباحث حين ينظر إلي مبادئ الحكم الدستوري التي تتلخص في المحافظة علي الحرية الشخصية بكل أنواعها، وعلي الشوري واستمداد السلطة من الأمة وعلي مسئولية الحكام أمام الشعب ومحاسبتهم علي ما يعملون من أعمال، وبيان حدود كل سلطة من السلطات هذه الأصول كلها يتجلي للباحث أنها تنطبق كل الانطباق علي تعاليم الإسلام ونظمه وقواعده في شكل الحكم.
لم يترك البنا مجالا تتسع من خلاله رقعة الدعوة إلا وخاضه حتي الفن رأي أنه سيسهم في هذه الفكرة الشاملة وأسس مسرحا للإخوان أشرف عليه شقيقه عبدالرحمن وتخرج منه عددا من الأسماء التي لمعت في سماء الفن وكانت أول مسرحية قدمها الإخوان هي «جميل بثينة» قد شارك في التمثيل فيها حسب دراسة الباحث أحمد زين عددا من الأسماء الكبيرة مثل جورج أبيض وأحمد علام وعباس فارس ومحمود المليجي وأيضا من العناصر النسائية فاطمة رشدي وعزيزة أمير.
البنا حاول أن يقدم مشروعا حضاريا متكاملا جمع فيه العناصر المختلفة التي لم تستطع أن تجتمع مع بعضها إلا في حياته، ورغم أن الإخوان لا يرغبون في ممارسة مراجعة فكرية لمشروع الجماعة الذي تخطت الثمانين عاما فهم بحاجة لدراسة عميقة وواسعة لمشروع حسن البنا ومراجعة آدائهم السياسي والدعوي الحالي بهذا المشروع الذي تخطي وفقا لزمنه آداء ونشاط الجماعة وتراجعها في ثوب التنظيم أكثر من عباءة المدرسة الفكرية لذلك وجدنا عددا غير قليل نفر من ثوب التنظيم الضيق متشحا بعباءة المدرسة الفكرية الواسعة والتي انتشرت وتخطت الحدود والبحار لتكون رغم قدمها أساس العمل الإسلامي الوسطي في العالم.

لا صوفية ولا صوفيون



من أول السطر
إبراهيم عيسى

حينما يتصارع المتصوفون (أو الذين يقولون عن أنفسهم إنهم كذلك) علي المناصب فمن المفترض أن نسحب منهم الصفة مع المنصب!

من علامات الساعة المصرية هو هذا المشهد الصوفي الحاصل الآن الذي يعبر عن تناقض حاد وفصام عميق بين الصوفية الحقيقية وبين هذا التكالب الذي نراه من وبين مشايخ الصوفيين علي مقعد ومنصب ونفوذ والذي منه.

الصوفية الحقَّة هي التسليم لله والزهد في إغراءات الدنيا والتعفف عن الإقبال علي مكاسبها وامتيازاتها، الصوفية الحقة هي الوصل بين العبد وربه والقطع بين العبد وانجراره لشهوته في المال والنفوذ والجاه والسلطان، الصوفية الحقة هي أبعد ما تكون عن هذه المأساة الدائرة والكاشفة عن تحول الجماعات الصوفية - كما كل المجتمع المصري - إلي أنهم يقولون ما لا يفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون، المجتمع يزعم الإيمان والتقوي وتنتشر فيه ظاهرة الحجاب وإطالة اللحي وارتداء النقاب واقتناء «السبح» والحرص علي الطقوس الدينية والإلحاح في الكلام عن الحرام والحلال وإنتاج واستهلاك الفتاوي، والثرثرة حول الأخلاق في الوقت الذي تنتشر فيه الرشوة في كل مكتب ومصلحة في مصر وفي الوقت الذي تسيطر فيه قيم الفهلوة والعشوائية والعمولات والسمسرة والسكوت علي الظلم والقتل الوحشي والتحلل الجنسي، مفهوم أن تعيش المجتمعات أحيانًا في منحني حضاري هابط، لكن المؤسف أن هذا يجري تحت غطاء التدين القشري والإسلام الشكلي والتمسح في الدين والتظاهر بالورع بينما كل هذا دهان ودخان للتغطية علي صعود وتمكن وتمكين أسوأ ما فينا وأسوأ من فينا علي حياتنا وما فيها!

كثير مِمَّن يتمسَّحون بحبهم لآل البيت النبوي الشريف ويدَّعون أنهم من نسل الأشراف تجدهم خدامًا عند معاوية، وضمن خدم الاستبداد، وتجد ممن يمارس التعذيب أو التزوير أو متورط في قضايا فساد سياسي ومالي ينسب نفسه للأشراف أو يزعم حبًا لآل البيت، وهم ساكتون عن الحق متواطئون مع الفسدة ممالئون ومنافقون للسلطة وماسحو جوخ فكيف يكون الصوفي أو محب آل البيت ضمن آلة الديكتاتورية ومنظومة الاستبداد ومن حماة الفساد والفَسَدة بصمتهم أو بتواطئهم أو بتورطهم مع نظام حكم آخر ما يمكن أن نصفه به هو التصوف؟! فإذا كان حاكم من حكامنا يتمتع بذرة من روح المتصوفة لَخَشَع للرحمن وتذلل للواحد القهار والْتزم العدل وخضع قلبه واستغني عن مقعده وعافه وتعفف عنه وبرَّأ أبناءه وأقاربه من ذنب الجلوس علي مقاعد السلطة وصرف المحيطين به عن اكتناز الذهب والفضة وتراكم الثروات. المفارقة المحزنة والمخزية أن يكون الصوفي بلا صوفية وأن يكون الصوفي درعًا حاميًا وجدارًا واقيًا للاستبداد والفساد، الصوفي الحق هو الذي لا يخشي إلا الله ولا يلهث وراء السلطة ولا خلف ذوي السلطة، بل يجعل السلطة امتحانًا ومحنة ويجعل من نفسه ضميرًا رقيبًا حسيبًا علي كل حاكم ومسئول؛ لأن الصوفي الحق - بزهده وتعففه - أقوي من أي سلطة أو سلطان، أهم من أي حاكم أو محكوم، المؤسف أنه في كل مؤتمر سياسي أو انتخابي للحزب الحاكم تجد المحسوبين علي مشايخ الصوفية يتقدمون صفوف المدح والدعم والتأييد والنفاق، وكأن الصوفية قد تم اختطافها لمداهني سلطة وممالئي حاكم ومنافقي حكم، وهي التي تترفع زاهدة وترتفع عالية وترقي محلقة فوق دنايا الدنيا، (قطعًا لا تخلو الحركة الصوفية من روعة شيوخنا من أبي حامد الشاذلي وحتي شيخنا صالح أبو خليل).

الصوفية ليست ملابس خشنة أو مرقعة ولكنها ليست بِدَلاً إيطالية الصنع كذلك، الصوفية سماحة، لكن ليست تهاونا، الصوفية ليست زهدا مطلقا ولكنها تعفف مؤكد، الصوفية تسليم ولكنه تسليم لله وليست استسلاما لسلطان وحاكم، الصوفية ليست حركة معارضة، لكنها ليست حركة منافقة بَكْماء صمَّاء عن الظلم والاستبداد، الصوفية ليست فقرًا وفاقة لكنها ليست ترفًا وسفهًا، الصوفية ليست مجموعات للهروب من الواقع، بل جماعات لمواجهة الواقع بالحب والوجد لله والانتصار للمستضعفين والاستعلاء علي غرائز الدنيا وغواياتها، الصوفية ليست جماعات تأييد ومبايعة، بل جماعات لإطلاق الأمل وإشراق البركات والمدد، إن نافق الكل لا يجب أن ينافق الصوفي؛ فالوصل مع الله يقطع الوصولية مع البشر، وإن استسلم الجميع لا يستسلم الصوفي؛ فهو يعلم أن نصر الله قادم مع مدده، ومهما استحكمت العتْمة فإن نور الله يسطع في قلب الصوفي فلا يضل، هذا هو الصوفي الحقيقي، بينما ما يسود مجتمعنا هو الزور ذاته الذي زيَّف كل شيء حتي الصوفية والتصوف.. هذا البلد في حاجة فعلا إلي المدد!

مُذلون مُهانون.. مسروقون!


عزت القمحاوى
لا أقوى على مغادرة مغتربى المصرى إلى مغترب جديد، من دون صحبة جيدة أو سند من العظماء الكبار: ماركيز، بورخيس، فلوبير، أو دستويفسكى.
حتى الغربة لا نستطيع أن نغيرها بغربة جديدة إلا مع رفقة تعيننا على قطع المسافات. وقد كان الدور على دستويفسكى هذه المرة، وكنت غارقاً مع بطله الإشكالى «اليوشا» فى رواية «مذلون مهانون» عندما فتحت الكمبيوتر لإطلالة ضرورية على أرض غربتى الأصلية، ورأيت اسم نبيل البوشى المتهم فى قضية توظيف الأموال الجديدة. لم أدقق جيداً على البنط الصغير للخبر، البوشى أم اليوشى؟! الاسم الذى أقرؤه للمرة الأولى يبدو غير مصرى، تصورت والله أنه قفز من صفحات الرواية إلى شاشة الكمبيوتر، اليوشى ليس بعيداً عن أليوشا الاسم الذى يفضله دستويفسكى ولا تخلو منه رواية من رواياته. وحتى بعد تدقيق الاسم لم أتأكد بعد من مصريته، وهذا ليس مهماً على أية حال، فالمهم هو أن شيئاً ما وقع (لن نجازف بتسميته جريمة وإن سميناه علينا أن نحدد المتهم بدقة). هى مجرد قضية جديدة، وعلينا كمصريين أن نتذكر واحدة من أهم فضائلنا، وهى القدرة على الضحك والتنكيت حتى مع جرائم القتل والنصب، كى لا نلحق بالضحايا كمداً. ولابد أن القراء يذكرون، من بين النكات التى انتشرت بعد إعلان اتهام هشام طلعت مصطفى فى قضية سوزان تميم، نكتة تقول إن المطربة المقتولة عندما صعدت وجدت الأميرة ديانا والمطربة ذكرى فى انتظارها، وبادرتاها باللوم: «مش قلنا بلاش رجال أعمال مصريين»؟! غداً إذا ما عاد نبيل البوشى المتهم فى قضية التوظيف الجديدة وقابل المتهمين بقتل سوزان فى الحبس هل يعاتبانه: مش قلنا بلاش دبى؟! دبى مقبرة رجال الأعمال اللى مش ولابد (أعنى الأعمال لا الرجال) فهل هى مصادفة، أم أن هذا التكرار يرسم خريطة المال اللعوب بين القاهرة والإمارة الخليجية؟ قد لا يكون هذا هو السؤال المهم الآن، لكن الربط بين جرائم القتل وجرائم النصب فى البورصة والتوظيف ليس فيه أى اعتساف؛ فالخسارات المفاجئة تقود إلى القتل فى حالات كثيرة. ونحن لم ننس بعد صدمة المهندس المضحوك عليه فى البورصة، الذى قتل أسرته لينقذها من فقر فرضه عليه النصابون. الذى يهمنا الآن، هو السؤال عن سر التكرار البليد لقضايا النصب، التى تنتهى عادة باتهام الضحايا بالطمع! الطمع، هو التهمة التى أطلقها محامى رجل الأعمال الهارب من رواية عن روسيا القيصرية إلى مصر الجمهورية، وهى ذات التهمة التى أطلقت فى أزمة توظيف مدينة نصر، وقد لاقت التهمة استحسان الإعلام: حقاً، لا نصاب بدون طماع! لم نعرف كيف انتهت أزمة نصاب مدينة نصر، ولم تدع لنا الكوارث المتلاحقة فرصة لنتذكرها، حتى جاءنا البوشى. لكننا على الأقل نتذكر أن الأول كان مدعوماً بابن وزير، والثانى مدعوم بوزير، أو أن الوزير دعمه قبل أن نستوزره. وإذا كانت الحكومة لم تستح وتصدر توضيحاً لتبرئة ابن الوزير أو إدانته ومعاقبة أبيه، فمن غير المنتظر أن تهتم بتحديد صلة وزير الزراعة بالبوشى. ومن غير المتوقع أن تستحى من استمرار شركات التوظيف فى ممارسة أنشطتها وكوارثها بكل هذا الاطمئنان. ولن تعترف أنها المسؤولة عن استمرار الظاهرة، بسبب طردها الأموال الصغيرة من السوق، وهو ما تناولته فى مقال سابق هنا، حيث لا يوجد مجال آمن لاستثمار أموال التكنوقراط، سواء جمعوها من الداخل أو الخارج، وأموال الشباب قليلى الخبرة العائدين من غربة قاسية. ما لا تستبيحه الحكومة من أموال هؤلاء بالبلطجة (بزعم المصلحة العامة) أو بالتعويق والإرغام على الخسارة، لا يهرب من رمضائها إلا إلى نار التوظيف. والمجد للقياصرة على حجر السلطة أو فى السجون المكيفة، والموت للمذلين المخدوعين والطماعين فى عش للمجرمين يدعى وطن أحياناً.

شعب الله المختار.. وشعب الله المحتار!


د. هبة رؤوف عزت

ذكرت في مقال سابق أن فضح الصهيونية وإعادة ربطها بالعنصرية، بل الوحشية في جميع المنتديات العالمية مسألة غاية في الأهمية في جهادنا المدني في الأوساط الاجتماعية والنقابية والأدبية والثقافية في العالم، ولا أقصد بالعالم أوروبا وأمريكا كما نفعل دوماً بل أمريكا اللاتينية وأفريقيا جنوب الصحراء وآسيا بكل أنحائها، وأستراليا ونيوزيلندا وكل الجزر من الكناري..للكاريبي.


الفكرة ببساطة هي جمع التواريخ حتي لا تنسي الشعوب ما حدث في الشعب الفلسطيني، والتأكيد علي فكرة أن الحقوق لا تسقط بالتقادم، فاليوم كل الشعوب والقبائل التي تم استعمارها تطالب بحقها في الأرض وفي اللغة وفي المشاركة السياسية من السكان الأصليين في القارتين أمريكا الشمالية والجنوبية إلي شعب الصحراء في جمهوريته العربية جنوب المغرب وغجر أوروبا الشرقية وأصحاب الأقليات اللغوية في إسبانيا، والتاميل وكشمير وغيرها من أنحاء العالم التي تظهر بها حركات تقرير المصير، أو نضالات الاستقلال الذاتي. الذاكرة مسألة غاية في الأهمية، لذا نثمًّن كثيراً الجهد الذي يقوم به الدكتور سلمان أبو ستة المفكر الفلسطيني في التوثيق لحق الفلسطينيين في الأرض وجمع حُجج الأوقاف وعقود البيوت والأراضي التي تثبت حق أهل فلسطين في العودة لوطن قررت الدول الغربية أن تمنحه مجاناً للعصابات الصهيونية لتدمر تحت سمع وبصر العالم الغربي النسيج الاجتماعي والإنساني لشعب فلسطين وتقتل وتهجًّر ملايين البشر لتقيم دولتها كـ"شعب الله المختار»!.

ومسألة شعب الله المختار هذه تحتاج لبيان وكشف، فقد انشغلنا بما ألقته إلينا نظريات الاستشراق واتهامات حملات تشويه الإسلام من شبهات وأخذنا دور المدافع عن الإسلام، ولم نلتفت لنضال مهم هو النضال ضد فكرة شعب الله المختار التي تبناها اليهود واستبطنتها الصهيونية والتي تجعل باقي البشر «أغياراً» لا يتمتعون بنفس الحرمة ولا الذمة ولا الكرامة.

لم يدهشني أن يكون رد فعل القيادات الإسرائيلية علي تحقيق قاض إسباني في انتهاكات حقوق الإنسان الإسرائيلية، أم تهدد تلك الأصوات وتتوعد إسبانيا أن لديها ملفات لانتهاكات قامت بها في البلقان، وبالتالي تصبح القاعدة: اسكت عن جرائمي وأنا أسكت عن جرائمك، وهكذا نعيش في عالم صامت يحكمه مجموعة من المجرمين المتواطئين علي جرائمهم جميعاً!!!

لم تكلف إسرائيل نفسها بنفي الجرائم، ولا دفعت بعدم اختصاص القاضي، بل تسير إسرائيل دوماً من مذبحة لأخري مرفوعة الرأس ويدها ملطخة بالدماء، لأنها تعلم أنها تستطيع ابتزاز الجميع بملفات جاهزة لجرائمهم الجماعية أو الفردية «الابتزاز الفردي بعد التوريط في جرائم شرف أو جرائم عرض حيلة مخابراتية معروفة».

تسير إسرائيل وهي تنظر للباقين من سكان الدنيا باحتقار، وتنظر للفلسطينيين باعتبارهم أكواماً بشرية تستحق الإبادة ولا تجد في فعلها الوحشي أي غضاضة!

يعود الجندي الأمريكي من فيتنام في العقود الخالية وقد أصابه اكتئاب من جرائمه فينتحر، أو يبقي في مصحة نفسية فترات طويلة، في حين يعود الجندي الإسرائيلي من مذبحة غزة وقد أطلق الرصاص مباشرة علي أطفال رُضَّع وبهائم رُتَّع وقد استوي عنده القتل في الحالتين، فالأغيار كالدواب خلقهم الله لخدمة اليهودي، فإن ضايقوه أو أقلقوه حُقَّ عليهم التدمير..ولا مشكلة..ولا ذنب..ولا عقاب!

يحرفون الكلم عن مواضعه، ويسمون الأشياء بغير أسمائها ولا يرقبون في مؤمن - مسيحياً كان أو مسلماً- عهداً ولا ذمة.

لذا من الأهمية بمكان تحرير المفاهيم وتحرير العقول وتحرير الألسنة في التعامل مع جرائم الإبادة التي ترتكبها إسرائيل.

اللعبة كلها في اللغة، من يقول ماذا وماذا نسمي ماذا، وللغرب ولإسرائيل سجل حافل في تسمية الاستعمار: تنويراً وتبشيراً، وتسمية المذبحة أزمة، وتسمية المجرم رجلاً سياسياً محنكاً لدولة صديقة، وتسمية العدوان: حماية للحدود، وتسمية تجويع الشعوب بالحصار: ضرر لا يمكن تجنبه، وبالطبع تسمية حرب التحرير إرهاباً، والهوية الثقافية تخلفاً، والاجتياح الاستهلاكي:عولمة، والهيمنة:تحويل العالم لقرية صغيرة.

لكن هناك واجب موازٍ هو متابعة كل الجرائم التي يرتكبها أنصار إسرائيل أيضا، فالجيش الأمريكي له سجل من الجرائم، من رفض مثول جنوده أمام المحكمة الجنائية الدولية لانتهاك أبسط قواعد الحرب بضرب المدنيين في العراق وأفغانستان لجرائم شخصية مارسها جنود الاحتلال الأمريكي من قتل وسطو وانتهاك أعراض آخرها علامات الاستفهام حول نتائج تحقيق في جرائم اغتصاب تحت تأثير مخدرات مارسها رئيس مكتب المخابرات الأمريكية في الجزائر والذي قضي بعض الوقت من خدمته أيضاً في القاهرة (!). أما جرائم القوات الدولية في البلقان فلن ننساها.

في عالم واسع ينبغي أن نفضح شعب الله المختار ، وندعم شعب الله المحتار، هذا الشعب العربي الذي «غُلُب حماره» مع قياداته من الأسود عليه وفي الحروب نعامة كما يقول الشاعر، والذي احتار في المثقفين الذين اختاروا الدولة علي الشعب واحتار في المعممين الذين اختاروا الدولة علي الدين.

لن يهزم شعب الله المحتار من يزعمون أنهم شعب الله المختار- فيسعون في الأرض فساداً - وهو حائر في تدبير لقمة عيشه.. لا لضيق في الموارد، بل لنهب البلاد من جانب النخب، وهو المحتار في توفير احتياجاته التعليمية والصحية والسكن.. لا لضعف في الكوادر، بل لفساد في الذمم وترد في أداء الخدمات العامة، أو وهو محتار في كيفية التغيير وسبيل النهضة بعد أن سُدَّت كل منافذ التعبير والعمل المدني الحقيقي الذي يكفل بناء مجتمع حر قوي، وتم إغلاق منافذ المشاركة السياسية بقرارات سيادية أو قوانين همايونية أو تعديلات دستورية أشبه بالقنابل الفسفورية تحرق كل معاني العدل والحرية والمواطنة.

وإلي أن نكف عن هذه الحيرة ونتوافق علي جبهة ديمقراطية تقودها قوي جديدة شابة بأفكار طازجة معاصرة حية ضد نظام تسوده -كما تسود قوي المعارضة- شيخوخة العمر والفكر والمقولات، فسنظل علي حيرتنا وتظل إسرائيل علي غطرستها، تهدد أمننا القومي وتستعرض قوتها في حين صارت التصريحات الرسمية النارية هي الوسيلة الوحيدة للرد بدلاً من الردع.

والفارق بين الرد والردع..عين.. عين!

الفيل والتنين «4»


من أول السطر
إبراهيم عيسي

تحكي النكتة عن مسئول مصري رفيع المستوي زار الصين فاستقبله الرئيس الصيني الذي أخذ يروي متفاخراً إنجازات الصين فقال له المسئول المصري إن دولته كانت يمكن أن تفعل ذلك لولا عدد السكان فأسرَّها الرئيس الصيني في نفسه، حيث إن عدد سكان الصين قارب علي المليار ونصف المليار نسمة فليس هناك عدد سكان في الأرض أكثر منها، ومع ذلك تقدمت وتفوقت علي العالم كله
لكن الرئيس الصيني - احتراماً لضيفه - لم يعلق واستمر يروي إنجازات الصناعة الصينية فعاجله المسئول المصري بأن دولته كانت يمكن أن تفعل ذلك لولا عدد السكان، أمسك الرئيس الصيني أعصابه وتماسك خشية الانفلات وكرر الكلام عن منجزات الصين العلمية فأصر المسئول المصري علي نفس جملته «أن دولته كانت يمكن أن تفعل ذلك لولا عدد السكان»، هنا لم يتمالك الرئيس الصيني نفسه وسأله: هُوَّ عدد سكان مصر كام؟ فرد المسئول المصري تمانين مليون نسمة، فابتسم الرئيس الصيني وقال له : بس.. يا راجل ومجبتهمش معاك ليه!!

بعد أن شرحنا كيفية تطور وتحول الهند والصين من «طور» الدول النامية التعسة والمفلسة والفقيرة إلي «دور» الدول الكبري والعظمي اقتصادياً وصناعياً في أقل من عشرين عاماً، مازلنا نسأل : لماذا لم تتحول مصر مبارك إلي كيان اقتصادي وصناعي عالمي وهائل مثل هاتين الدولتين، خصوصاً أن حجة الرئيس التي يرددها عن زيادة السكان تتبخر تماماً أمام الزيادة السكانية الرهيبة للهند والصين، طبعاً حجج نظام مبارك لا تتوقف ولا تتعطل، فالحاصل أن هذا الحكم المستمر منذ 28عاماً علي عرش مصر لم يعد متميزاً في شيء إلا في التحجج، ولم ينجح هذا النظام في شيء إلا في الفشل!

المهم أن الهند والصين (الفيل والتنين) نجحتا في الانتقال الرائع ومصر لم تبرح مكانها في الدول النامية النائمة؛ لأنه قد غاب عنا ما حضر في نيودلهي وبكين، التخطيط والنزاهة!

نعم هذا هو العمود الفقري لأي نجاح اقتصادي لأي دولة في العالم، التخطيط الذي هو وضع خطط علمية ومدروسة ومحترمة وهذا التخطيط قد يقوم به نظام مستبد وديكتاتوري لا يعرف الديمقراطية ولا يعرف ربنا حتي مثل نظام بكين، لكنه يعرف احترام التخطيط والخطط، يعتمد علي الخبراء وأصحاب الكفاءة والعلماء ذوي الدراية، لا يجمع حوله وداخله الأفاقين والمنافقين الذين يرفعون شعار أحلامك أوامر يا أفندم، نظام مستبد وديكتاتوري لكنه علمي ومنهجي لا يتعامل مع الرئيس الحكيم الذي يفهم كل شيء في الزراعة والصناعة والتجارة وبناء الكباري وخطط مباريات المنتخب، نظام مستبد لكنه لا يعبد الرئيس ولا يقدس سيادته ومن ثم فهو يرفع من قيمة العقل والمنطق والعلم وليس لديه جوقة من المحبظاتية من ترزية القوانين والخطط حسب الكيف ورقبتي ياريس، الصين تعيش تحت حكم ديكتاتوري وحزب واحد محتكر للسلطة لكنه ليس حزب العشوائية والفهلوة وشيل ده من ده يرتاح ده عن ده، حزب محتكر للسلطة ولكنه ليس محتكرً للحقيقة ولا للفهم ولا للعلم ثم ليس فيه رجال أعمال ومليارديرات خطتهم الوحيدة هي نفخ ثرواتهم، حزب مستبد لكنه علي الأقل لا يضع رجل أعمال متهماً بالاحتكار مسئولاً عن الخطة والموازنة، إذن يمكن أن يلتزم بالتخطيط حزب ديكتاتوري ولكنه يملك عقيدة وطنية لتطوير بلده وليس لإثراء أعضائه كما أنه لا يقوم علي تقديس رئيسه ولا تأليه زعيمه (ليس غريباً أن هذا التفوق يظهر بعد رحيل الزعيم الصيني المؤله ماوتسي تونج) والتخطيط كذلك قد يصدر عن حكومة منتخبة ديمقراطياً مثل حكومة الهند التي تملك عقلاً وطنياً ووعياً قومياً ومسئولية تجاه مجتمعها وشعبها فتخطط لبلدها مستعينة برجال العلم والخبرة والكفاءة وبدقة وبالتزام وأمانة لأنها تعرف أن الشعب سوف يسائلها ويحاسبها وأنها لن تبقي للأبد في الحكم وأنها جزء من هذا الوطن وليست هي الوطن وغيرها خونة وعملاء، التخطيط هو بداية وأساس أي تطور وتقدم اقتصادي وتنموي سواء جاء عن حكومة ديمقراطية كالهند أو ديكتاتورية كالصين.

نأتي للحتمية الثانية لأي تطور وهو النزاهة، طهارة اليد شرط نجاح تنفيذ أي خطط، وهذه النزاهة قد تتحقق كما في الصين عبر توفر شفافية داخلية في حزب محتكر وسلطوي ولديه قدرات عالية علي المحاسبة والرقابة علي مسئوليه ولا يتهاونون في أي فساد أو إفساد إلي حد تنفيذ عقوبات الإعدام في المرتشين والفسدة ثم هو حزب محتكر للسلطة لكن يتم داخله تداول للسلطة وصعود وإبعاد لقياداته ومن ثم يحقق هذا التداول الشفافية الواجبة والرقابة الذاتية ومسئولية المحاسبة، وليس هو الحزب الذي يركن إلي قيادات مستقرة في مقاعدها لا تغير ولا تتغير وتأبي المحاسبة وتتحصن بمقاعدها فتفسد وتُفسد كما شاءت وساءت، وقد تتحقق النزاهة عبر نظام ديمقراطي كالهند يملك برلماناً محترما وفاعلا بلا موافقين ومصفقين وانتقال لجدول الأعمال، برلمان قادر علي محاكمة وزراء وسحب ثقة من حكام وصحافة حرة نابهة ومتعددة الرؤي والمصالح ومجتمع مفتوح ورأي عام قادر علي مراقبة ومحاسبة حكومته والعصف بها إن أراد!

عند الفيل والتنين في الهند والصين تخطيط ونزاهة وفي مصر رمز الجمل تخبيط وتخليط.. ونزيهة!

قارن إذن بيننا وبينهم وتحسر وتحسبن.. حسبي الله ونعم الوكيل!

الفيل والتنين 3


من أول السطر


قبل أن أقول لك لماذا لم تصبح مصر مثل الهند والصين؟

لماذا لم تتحول مصر خلال عشرين عاماً أو أقل مثلما تحولت الهند والصين من دولة نامية يأكل الفقر نصف سكانها ومفلسة تقريباً إلي دولة عظمي تتصدر العالم في التصنيع والتصدير وتشكل قوة اقتصادية كبري تغير موازين الكون ويعمل لها العالم ألف حساب؟

قبل أن أقول لك لماذا؟ (علي الأقل من وجهة نظري) تعال نتأمل الرموز التي يتم استخدامها في جميع أنحاء الدنيا لوصف تلك الدولتين، أما الهند فهي الفيل، وكما نعرف فالهند دولة تعيش وتنتشر فيها الأفيال ولكن قارة أفريقيا كذلك تشتهر بالأفيال لكنها لم تستخدم في وصف أفريقيا اللهم إلا في لقب فريق كوت ديفوار في كرة القدم، ويبدو السبب أن الأفيال وسيلة نقل في أماكن كثيرة بالهند في وقت من الأوقات ولم تكن حيواناً للترفيه أو للعيش في الغابات، ثم هي استطاعت ترويض هذه الأفيال وتحويلها إلي حيوانات صديقة وأليفة ولها كذلك احترامها الواجب بين أفراد الشعب كما أن في الهند شبهاً بالفيل فعلاً فهي ضخمة العدد واسعة المساحة ثقيلة وقوية وبعيدًا عن الهزار السخيف الذي يردده المصريون عن المهراجا والفيل الأزرق والألماظة وهذا الحشد من البلاهات فإن الفيل رمز صادق للهند.

أما التنين الذي يرمزون للصين به فهو كائن أسطوري كما حضارة الصين الأسطورية القديمة كما أنه أخطبوطي التكوين كما الصين المترامية والغامضة، ثم هي دولة تمكنت من مزاحمة وممازحة الوحوش الكامنة في تاريخها، ما يشكل التنين جزءاً أصيلاً من تراثها في الحكايات والمهرجانات الشعبية!

ومن ثم يأتي السؤال منطقياً ومفاجئاً في الوقت نفسه : بماذا يمكن ان نشبه مصر؟ ما الحيوان أو الطائر الذي يمكن أن نرمز به لمصر؟

ممكن يبقي النسر؟ حيثيات هذا الاختيار هو ان النسر أهم شيء في التعامل اليومي والإداري في مصر فلا أعرف من أين استوحي الموظف المصري النسر علي علم مصر الوطني (قبل أن يصبح الصقر) وكيف تحول النسر إلي ختم وشعار الجمهورية الذي لا تتم مكاتبة ولا تصدر وثيقة إلا ممهورة ومختومة بختم النسر؟ فالحقيقة أن 99%من المصريين لم يشاهدوا نسراً في حياتهم ولا مصر معروفة بالنسور ولا تجد في ثقافتها حكاية واحدة عن نسر ولا في حواديت الجدات، فضلاً عن أن مصر بلد لا يشتهر بعلاقة كبيرة بالطيران مثلا حتي يكون النسر بطلاً أو رمزًا وأقرب الطيور إلينا هي الحمامة وسيجد المصريون عيباً كبيراً في وصف مصر بالحمامة علي اعتبار أن مصر لا يمكن أن تبيض فهي بلد ولادة وليست بلداً بياضة!

أو ربما يكون رمز مصر هو الجمل حيث إن الجمل هو رمز الحزب الوطني الحاكم في الانتخابات وهو الذي تمارس حكومتنا أكبر عملية تزوير من أجل إنجاحه وفوزه بالانتخابات، ومن هنا فهو الحيوان الأهم والمتحكم في مصيرنا وأمورنا وهو كذلك سفينة الصحراء وأنت تعرف أن مصر في هذا العصر سفينة غارقة فهي في أمس الحاجة إلي سفينة أخري، ثم إن البلد كله يعاني الأمرِّين بين الجمل والجمَّال.

إذا لم يكن النسر أو الجمل هو نظير الفيل والتنين عندنا فما البديل؟ هل هو الحمار؟ فالحمار هو أشهر حيوان في مصر وهو جزء أصيل من منظومة العمل اليومية وهو صديق الفلاح ورأسماله وهو وسيلة النقل الأشهر وله في ثقافتنا عشرات القصص والحكايات وهو كذلك مثل ومسبة وطرفة ونكتة في حياتنا، فضلاً عن أن شبهاً ما يحوم بين الحمار وواقعنا فنحن نصف العامل بهمة بأنه حمار شغل، ويصف بعضنا بعضاً بالحمير التي تعمل وهي راضية بقليل من الطعام والغذاء والتي تشقي دون أن تحصل علي مكافأتها من الدنيا وهي صبورة وغلبانة وهي طيبة وربما غبية وهي حمولة وحمالة وهي تأخذ علقة لم يأخذها حمار في مطلع، ثم إن شعار مصر كلها «اربط الحمار مطرح ما عايزه صاحبه»، ونحن شعب لا يفعل في الحياة شيئاً أكثر من ربط الحمار مطرح ما صاحبه عايزه!!


الفيل والتنين 2


من أول السطر
إبراهيم عيسي

حين نعرف كيف نجح الآخرون سنعرف لماذا فشلنا نحن؟
لقد دفع اليأس الهند إلي التغيير الاقتصادي بالسرعة التي حدث بها في الصين، لكن بعد أكثر من عقد وفي شكل مختلف تماما، في عام 1991 كانت الهند مفلسة تماما، ألقت المقادير خلال عامي 90و91 فقط بمائة وعشرين مليون هندي إلي حضيض الفقر، وأدي التضخم - الذي بلغ 17 في المائة إلي تآكل الدخول المنخفضة - وبحلول العام 1991، أصبح 330 مليون نسمة أو( اثنان من بين كل خمسة هنود) يعيشون تحت خط الفقر، وانهارت الموارد المالية للحكومة، وأضحت الهند أمام كارثة محققة.
كان البلد مفلساً، أوقفت المصارف الإقراض للهند، كما ألغت بطاقة الائتمان لعدم السداد، وهبط احتياطي الصرف الأجنبي إلي مستويات تكاد لا تفي إلا بتكلفة أسبوعين من واردات النفط. وطارت حمولة طائرة بأكملها من احتياطي الذهب الهندي إلي لندن تم دفعها رهانا مقابل ضمان قروض قصيرة الأجل من الغرب، خلال هذه الأعوام ماذا حدث للهند بعد أن قررت النهوض؟

نما الاقتصاد بأسرع مما كان علي مدي عقود، وبدأت الشركات تشغيل العاطلين، وانخفض حجم التضخم من أكثر من عشرة إلي ما دون العشرة، بحيث يمكن التحكم فيه، وانخفض الدَّين، كما تم استرداد احتياطي الصرف الأجنبي النفيس، وتجنبت الهند الأزمة، وظلت الأضواء مشتعلة لم تنطفئ في أعظم بلاد الدنيا في هندسة الكمبيوتر وأكبر عدد مهندسي البرمجيات في العالم.

أما الصين عندما تولي «هسياو دنج» مقاليد الأمور زار في نوفمبر 1978 بانكوك وكوالامبور وسنغافورة، وصل «دنج» إلي سنغافورة مرتديا البدلة الصينية (هي تقريبا البدلة الصيفي الشهيرة للموظف المصري )، وقام بجولة في أنحاء سنغافورة، ووجد في البلد نموذجا حديثا متقدما تكنولوجيا جديرا بأن تقتدي به الصين لتطوير نفسها، وقال السيد لي بعد ذلك بعقود: «كانت هذه الرحلة بمنزلة جرعة استنفار ونقطة تحول»، وكانت كذلك حقا سواء بالنسبة إلي دنج شخصيا أو إلي كل الصين، ولقد كانت ولا تزال سنغافورة - التي هي دولة صينية عرقيا - مشهورة علي نطاق العالم بما تتمتع به من استقرار، وأنها خاضعة لحكم الحزب الواحد، وتفتقر إلي الحريات واشتهرت كذلك بتحولها السريع والمثير من بلد نام إلي بلد حديث ورأسمالي، وتتدخل الدولة بقوة في عملية التخطيط الاقتصادي في سنغافورة، كذلك تقوم بإقامة بنية أساسية حديثة وجذب الاستثمار الأجنبي.، وبينما كان دنج يحاول في العام 1992 الإسراع في الإصلاحات، أرسل ما لا يقل عن أربعمائة وفد صيني متفرقين - من المحافظين ورؤساء البلديات وسكرتارية الحزب وغيرهم من الرسميين - إلي سنغافورة خلال سنة واحدة ليشاهدوا- في تعجب- الصورة التي يمكن أن تكون عليها الصين بعد التحديث. والنتيجة علي سبيل المثال في سنة 2000 كانت الصين تُصَدِّر 30 في المائة من لعب الأطفال في العالم، وبعد خمس سنوات كانت الصين تُصَنِّع 75 في المائة من كل اللعب الجديدة في العالم!

وأصبحت الصين علي مدي العشر سنوات الأخيرة صانع الأحذية العالمي، وتُصَدِّر زوجا من بين كل ثلاثة أزواج أحذية في العالم، وصدّرت الصين في العام 2001 ما قيمته 3.1 مليار دولار قطع غيار للسيارات، ووصل الرقم إلي 9 مليارات دولار خلال السنوات الأربع التالية، وصدرت الصين في العام 1996 ما قيمته 20 مليار دولار أجهزة كمبيوتر وهواتف خلوية وأجهزة تسجيل «سي دي» وغيرها من الأجهزة الإلكترونية، وبحلول العام 2004 صدّرت الصين أكثر من أي بلد آخر ما قيمته 180 مليار دولارأي حوالي تسعة أضعاف، وتصدر الصين الآن في اليوم الواحد أكثر ما كانت تبيعه في الخارج علي مدي عام 1978 وقتما شرعت في الانفتاح الاقتصادي!

نجحت الصين والتي هي سلطة ديكتاتورية ونجحت الهند وهي دولة ديمقراطية حكامها ملزمون بالمحاسبة أمام البرلمان وأمام صحافة حرة (جدا)، فلماذا لم نفلح نحن في مصر؟ أخذنا من الصين ديكتاتوريتها ولم نأخذ تقدمها؟ ولم نأخذ من الهند لا تقدمها ولا ديمقراطيتها!

ليه؟

أقولك ليه !..

الفيل والتنين


من أول السطر

إبراهيم عيسى
كي تعرف أن نظام الرئيس مبارك الذي يستمر منذ 28 عامًا فشل في أن يصنع من مصر شيئًا كبيرًا وعظيمًا بين الأمم، وكي تدرك أن ما نعيشه من ظروف اقتصادية بائسة إنما هي بفعل فشل هذا النظام في إدارته للبلد، تعال نذهب معًا إلي الفيل والتنين أو الهند والصين وكيف نجحت هاتان الدولتان في الصعود إلي قمة العالم الاقتصادية والانتقال بشعبيهما من درك الإفلاس والفقر الدكر إلي أن يتحولوا إلي ذكور العالم الاقتصادية، كيف تغير الهند والصين مصيريهما؟ وكيف تغيران - بفضل هذا كله - مصير العالم، وتنتقلان من بين صفوف بلدان العالم النامي لتحتلا موقع القوي العظمي؟ هذه ليست قصة نجاح الصين والهند بقدر ما هي ملحمة فشل مصر، ففي خلال أقل من عشرين عامًا حدثت المعجزة الآسيوية في الهند والصين!

سأستند في معلوماتي هنا إلي كتاب (الفيل والتنين) لكاتبة أمريكية متخصصة هي روبين ميريديث (صدر عن سلسلة عالم المعرفة من ترجمة الكبير شوقي جلال) لم ترد فيه كلمة واحدة عن مصر لكن في كل سطر فيه يقفز في وجهك السؤال: إشمعني إحنا؟ لماذا لم نصبح في عصر مبارك الطويل مثل هاتين الدولتين، لقد كسر (أو بالأحري حطم) الصعود الصيني والهندي كل الأوهام التي يروجها لنا نظام الرئيس مبارك كمبررات للوضع الاقتصادي الهزيل والمخجل الذي تجد مصر فيه نفسها بين دول العالم؛ حيث تقبع في قاع الدول المصدرة والمصنعة أو المكتفية ذاتيًا أو المؤثرة اقتصاديا، فضلاً عن وجود 44% من الشعب المصري تحت خط الفقر، ناهيك عن الانتشار الهائل للبطالة والتي تصل نسبتها حسب بعض الخبراء إلي 18% ويمكن لأي قارئ كريم أن يتكرم ويضيف لهذا المقال مزيدًا من الأمثلة علي حال الشعب المصري، فالكاتب ليس أعلم من المكتوب له. لكن لنركز الآن في الأوهام التي عاش عليها النظام المصري، الوهم الأول الذي ضربه النجاح الهندي والصيني وَهْم أعملكوا إيه وأجيب لكم منين؟وهذا الكلام الذي تسمعه من كبير مسئوليك، فالدرس الصيني هو أنك يمكن أن تنجح! نعم، فالفشل ليس قَدَرًا والتأخر والتدهور الاقتصادي ليس قضاء محتومًا ونقدر نعمل حاجة وحاجة كبيرة مش علي طريقة أجيبلكوا منين؟.. الوهم الثاني الذي تحطم هو أن التقدم والنجاح الاقتصادي المذهل حِكْرٌ علي الغرب سواء أوروبا أو أمريكا. أبدًا أي بلد عفي في أي مكان في العالم يمكن أن يفعلها. الوهم الثالث الذي تم نسفه نسفًا هو التحجج الملح والمخجل بأن الزيادة السكنية هي سبب استنزاف الثروة؛ حيث الهند والصين أعلي بلاد العالم كثافة وزيادة سكانية. الوهم الرابع هو الجملة الرزلة والممجوجة التي يرددها كل مسئول من عام 81 وحتي الآن وهي عنق الزجاجة التي يمر بها اقتصادنا، أو سخف الحديث عن إصلاح اقتصادي لمدة 28عامًا، فهل يصدق عاقل أو حتي مخبول أن اقتصادًا يتم إصلاحه 28عامًا ولا ينصلح أبدًا، إلا إذا كان الذين يصلحونه إنما هم مفسدون؟ في الهند والصين يتحقق إصلاح وتطور ونقلة هائلة في أقل من عشرين سنة تجعل من دولة نامية موشكة علي الإفلاس تتحول إلي دولة عظمي اقتصاديًا. الهند تحركت ببطء لكن في ثبات مطرد، علي عكس الصين التي صعدت بسرعة الصاروخ. ومع ذلك الهند بدأت نهضتها سنة 1991وهوب في السما، أما الصين فقد بدأت من 78 وسبقت أسرع وارتفعت أعلي، رغم أن الهند والصين، من نواح أخري كثيرة، متعارضتان؛ الهند ديمقراطية والصين تتبع نظام حكم ديكتاتوري، والهند أمة فيها مائة مِلَّة ويتحدث شعبها أكثر من ثلاثين لغة مختلفة، بينما الصين لغة واحدة وملة واحدة لكن ثمة شيئًا واحدًا فقط مشتركٌ بين البلدين الآن؛ الهند والصين أسرع الاقتصادات الكبري نموًا علي ظهر الكوكب، وفجأة أصبح كل منهما أرضا خصبة لأصحاب الأعمال والعاملين والعملاء والمنافسين، واستطاع المديرون التنفيذيون في مجالس إدارات الشركات من نيويورك إلي طوكيو ومن لندن إلي فرانكفورت التقاط حمي الهند الآن مثلما التقطوا منذ عقد مضي حمي الصين، وها هم كبار أصحاب مشروعات الأعمال يتحركون جيئة وذهابًا في سفريات مكوكية حول العالم؛ لأن الأمتين الصاعدتين تحققان نموًّا سريعًا للغاية، بحيث جعلتا اقتصادات الولايات المتحدة وأوروبا واليابان تبدو كأنها اقتصادات راكدة، وفجأة أيضًا أصبحت إقامة مشروعات الأعمال في الهند والصين الأمل الوحيد للشركات الغربية التي قررت الإسراع لكسب عملاء جدد.. مرة أخري تخيل أن الصين بدأت كل هذه النهضة منذ عام 1978فقط حيث كانت وقتها مبددة وضائعة تقريبًا، بينما الهند بدأت صعودها المدوي منذ حوالي 17عامًا فقط.. إزاي؟

أقولك إزاي!