المصالحة العربية قبل الفلسطينية



المصالحة العربية قبل الفلسطينية

كتب : فهمى هويدى  30/12/2008

لا يستطيع المرء أن يخفي قلقًا مضاعفًا علي مصر في العام الجديد. مرة بسبب الهم الاقتصادي الذي نسأل الله أن يلطف بنا فيه. ومرة بسبب تداعيات الانفعالات التي نتمني علي أهل السياسة أن يكبحوا جماحها ويسعوا إلي ترشيدها. وإذا كان العالم يشهد الآن مراجعات أساسية لقواعد الأداء الاقتصادي بعد صدمة الانهيار الذي شهده سوق المال في الولايات المتحدة. فأحسب أننا بحاجة إلي إجراء مراجعة مماثلة لمسار الأداء السياسي بعد الانقضاض الإسرائيلي الوحشي علي غزة.

أدري أن البعض في مصر يئسوا من إجراء تلك المراجعة المنشودة لأسباب أتفهمها، لكنني أنبه إلي أن الأداء السياسي المصري خلال العام الذي نودعه لم يخل من بعض الومضات التي تفسح المجال للأمل في إمكانية إصلاح العطب الذي أصاب بوصلة التحرك السياسي. تمثلت تلك الومضات في مؤشرات الحضور السياسي المصري علي الصعيد الإقليمي، في لبنان والسودان ومسعي المصالحة الوطنية الفلسطينية (الذي لم يحالفه التوفيق) والدعوة إلي اجتماع الدول المطلة علي البحر الأحمر للنظر في مكافحة القرصنة التي نشطت علي الحدود الصومالية.

 

هذا النشاط المحدود أثار انتباه بعض المعلقين، خصوصًا أولئك الذين يفتقدون دور مصر ويتمنون أن تستعيد دورها ومكانتها. من هؤلاء كان الأستاذ «رغيد الصلح» المثقف اللبناني البارز الذي نشرت له صحيفة «الحياة» الللندنية في 27/11 مقالاً تحت عنوان: «كيف تستطيع مصر استعادة ثقلها العربي؟»، في هذا المقال قال الكاتب: إنه إذا كان من الصعب أن تسترد مكانة حازت عليها خلال القرن الفائت، عندما كانت أولي دول المنطقة في الثروة والنظام الديمقراطي البرلماني والتحرر الوطني والريادة الثقافية والفكرية، أي علي كل صعيد من أصعدة التقدم، فإنه ليس هناك ما يحول دون تنمية مكانتها العربية، بحيث تكون علي الأقل أولي بين متساويين. وذكر أن القوة الإقليمية التي ينبغي أن تسعي اليها مصر هي تلك التي تستمد من دعم دول المنطقة وشعوبها وتضامنها معها، وتعبر عن مواقفها ومصالحها في المجتمع الدولي. وبعد أن استعرض الكاتب بعضًا من معالم التحرك المصري الإقليمي علي مدار العالم تساءل عما إذا كان التحرك مجرد ممارسات محكومة بأوانها، أم أنها تعبر عن استراتيجية واضحة المعالم والأهداف؟


2

خلال الشهر الذي أعقب نشر المقال شهدت الساحة المصرية تطورات شككت في الإجابة عن السؤال، إذ بدت القاهرة منفعلة ومتجهة إلي التصعيد والتسخين علي ثلاث جبهات هي: حماس وحكومة غزة، وسوريا وإيران. وهذا التسخين عبر عنه الإعلام الرسمي والصحف القومية بصورة خرجت علي المألوف. وبصرف النظر عن تقييم مواقف تلك الأطراف، فإن الحوار النقدي الذي عبرت عنه وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية في مصر - ولا يجادل أحد في أنه صدي للموقف السياسي- بدا واضحًا فيه أنه متجه إلي الصدام والقطع، وليس إلي التصويب والوصل- وللأسف فإن الأسلوب الذي استخدمته بعض الأقلام المحسوبة علي السلطة لم يهبط بمستوي الحوار النقدي فحسب، وإنما أساء إلي صورة بلد كبير كمصر يتوقع الآخرون منه حواراً أرقي، ورؤية أكثر نضجاً تتحري المصالح العليا، وتفرق بين العدو والشقيق أو الصديق، وبين تناقضات أساسية ينبغي الانتباه إليها، وتناقضات ثانوية ينبغي تجاوزها والاستعلاء فوقها.

إن أخطر ما في المبالغات التي عبر عنها الإعلام الرسمي والقومي في مصر، أنها صورت الاختلاف في المواقف والاجتهادات السياسية مع هذه الأطراف الثلاثة بحسبانه تناقضاً أساسياً، وتجاهلت أن التناقض الأساسي الحقيقي هو بين هذه الأطراف جميعاً وبين إسرائيل بالدرجة الأولي. الأمر الذي أوقع بعض المشاركين في حملة التحريض والتهييج في أخطاء مشينة، كان من بينها مثلا أن أحدهم اعتبر أن حصار غزة مسئولية إيرانية وسورية بأكثر منه مسئولية إسرائيلية.

ولا أريد أن أسترسل في عرض أمثال تلك النماذج المخجلة، حتي لا يظن أنها تعبر عن مواقف المثقفين المصريين، لأنها في حقيقة الأمر لا تعبر إلا عن مواقف الذين اختارتهم السلطة بمواصفات معينة ليكونوا أبواقاً لها في ظرف تاريخي خاص.

المدهش في الأمر أن الإعلام المصري يصعِّد الاشتباك مع هذه الأطراف الثلاثة، في حين يزداد التعاطف الأوروبي مع المحاصرين في غزة، وتتحدث الإدارة الأمريكية الجديدة عن حوار مباشر مع إيران وسوريا. وتمد فرنسا جسورها مع سوريا بما مكنها من أن تقوم بدور الوساطة بينها وبين لبنان. أما الغريب وما يتعذر تصديقه، فهو ما نشرته صحيفة «الحياة» اللندنية في العناوين الرئيسية للصفحة الأولي من عدد 25/12، من أن الرئيس مبارك أبدي تحفظاً علي الوساطة الفرنسية بين سوريا ولبنان. ونقلت عن مصدر تابع زيارة رئيس الوزراء الفرنسي فرنسوا فيون لمصر، أن الرئيس مبارك قال له إن فرنسا تخطئ إذا اعتقدت أن سوريا تسعي لاستقرار لبنان، لأنها تريد السيطرة عليه. ورغم خطورة التصريح الذي تشتم منه رائحة التحريض المصري علي سوريا، فإن أحداً لم يكذبه من القاهرة.


3

سألت أكثر من واحد من الدبلوماسيين المخضرمين والخبراء في مصر: إلي أين يذهب هذا التصعيد؟!، ووجدت أن حيرتهم لا تختلف كثيراً عن حيرتي، إذ لم يستطع أحد منهم أن يتنبأ بنهاية ذلك المطاف. لكن واحداً فقط قال إنه يمكن أن ينتهي بوضع خطوط فاصلة بين معسكري «الاعتدال» والتطرف في العالم العربي، بحيث يصطف الموالون لأمريكا وإسرائيل في جانب والمعارضون في جانب آخر. ومعروف أن وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس كانت قد أطلقت هذا التصنيف لأول مرة في شهادة لها أمام الكونجرس عام 2007، ثم اختبرت الفكرة بنجاح نسبي في عام 2008، وقد تدخل حيز التنفيذ بحيث تصبح جزءاً من الخريطة السياسية للمنطقة في العام الجديد (2009).

الآخرون أبدوا تحفظاً علي تأييد هذا التقييم، ومنهم من حذر من استباق الأحداث قائلاً بأنه من الحكمة انتظار وضوح موقف الإدارة الأمريكية الجديدة، التي تبني رئيسها فكرة الحوار المباشر مع إيران وسوريا (لتأمين الانسحاب من العراق) الأمر الذي إذا تحقق فقد يسفر عن نتائج تغير من الخرائط المطروحة في الوقت الراهن.

رغم الحيرة في التنبؤ بمصير التصعيد الراهن، فالقدر الثابت أن الأمور وصلت إلي درجة تورث شعوراً قوياً بالخزي والخجل. ذلك أن الجسور تقطعت في العالم العربي، والمعايير انقلبت بحيث أصبح من السهل أن تجئ تسيبي ليفني وزيرة الخارجية الإسرائيلية إلي القاهرة وتطلق منها تهديداً بتدمير الفلسطينيين (لا يعلق عليه وزير الخارجية المصري!)، في حين يبدو من الصعب في ظل التسخين الراهن أن يتبادل وزيرًا الخارجية المصري والسعودي الزيارات مع وزير الخارجية السوري.

هذه اللقطة الأخيرة تستدعي إلي أذهاننا مشهداً مماثلاً في الساحة الفلسطينية. ذلك أن السيد أبو مازن له خطوطه المفتوحة ولقاءاته المستمرة مع القادة الإسرائيليين، لكنه لا يزال يرفض بشدة أن يجتمع مع قادة حركة حماس الذين انتخبهم الشعب الفلسطيني. ولا يبدو أن مثل هذا اللقاء بين الإخوة الأعداء يمكن أن يتم في الأجل القريب.

إذا دققت في الحالتين فستجد أن الموقف فيهما واحد، بمقتضاه انقلبت الآية، بحيث أصبح الغريب قريباً والقريب غريباً، ولم يخل الأمر من الاستعانة بالغريب علي القريب. وهي حالة ليست شاذة في التاريخ العربي والإسلامي. فقد شهدت بلاد الشام والأندلس قبل سقوطهما تقاطعات بين الولاة المسلمين أوصلت بعضهم إلي الاستعانة بالصليبيين والفرنجة ضد إخوانهم المسلمين، الأمر الذي انتهي بهزيمة الجميع واندثارهم.


4

في أكثر من خطبة ألقاها الرئيس مبارك هذا الشهر تكرر نداؤه للفلسطينيين داعياً إياهم إلي التصالح وإنهاء الانقسام فيما بينهم. كما أن الخطاب السياسي العربي باختلاف مصادره ما برح يردد هذه الدعوة، حتي قال أمين الجامعة العربية السيد عمرو موسي وأكثر من مسئول ومعلق عربي بأن الانقسام الراهن من شأنه أن يصيب القضية في مقتل، بما يؤدي إلي تصفيتها في نهاية المطاف. رغم أن أحداً لا يستطيع أن يعبر عن سعادته بالانقسام - باستثناء الإسرائيليين وغيرهم من المنتفعين به بطبيعة الحال- إلا أنني أزعم بأن ما يهدد القضية الفلسطينية حقاً هو الانقسام العربي قبل الانقسام الفلسطيني، وأن العواصم والأصوات العربية التي ما برحت تصيح منددة بالانقسام الفلسطيني وخطره علي القضية يريد بعضها علي الأقل أن يغطي بعلو الصوت الانسحاب من القضية والتفريط فيها.

إن الانقسام وارد دائماً في صفوف الحركات الوطنية وحركات المقاومة بوجه أخص. والصراع بين الأجنحة المنقسمة له تاريخ طويل في أوساط المناضلين والساحة الفلسطينية ليست استثناء في ذلك، إذ عرفت الانقسام منذ الثلاثينيات في مواجهة الاحتلال البريطاني، خصوصاً بين جماعة النشاشيبي والحسيني. بل إن أسرة النشاشيبي شكلت وقتذاك جناحاً مسلحاً باسم «فصائل السلام»، كانت تلاحق الثوار من أتباع الحسيني وتسلمهم إلي الإنجليز، بمقتضي «التنسيق الأمني» معهم، إذا استخدمنا مصطلحات هذا الزمن!. ومن ذلك الحين تتابعت الانشقاقات التي أفرزت في السبعينيات حالة دموية مثلها صبري البنا (أبونضال) الذي قتل العشرات من الشخصيات الفلسطينية.

طوال تلك التقلبات ظلت حرمة القضية مصونة لا تمس لسبب جوهري، هو أنه كان هناك سياج عربي ظل مسانداً للتحرير والمقاومة طوال الوقت. صحيح أنه كان هناك تمايز في المواقف والاجتهادات، لكن أياً منها لم يمس صلب القضية وثوابتها، حتي في ظل هزيمة يونيو عام 67، ومنذ وقعت اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل في عام 1979حدث أول اختراق في السياج العربي، الذي كان بداية لانفراط الإجماع حول القضية، وانفتاح الأبواب حول الاجتهاد حتي في ثوابتها، حتي وجدنا قيادة فلسطينية تصف العمليات الاستشهادية بأنها «حقيرة»، ووجدنا آخرين يساومون علي الأرض وعلي حق العودة. كما وجدنا دولاً عربية تسهم في بناء الجدار العازل وتوفر النفط والغاز لآلة الحرب الإسرائيلية، التي تسحق الفلسطينيين.

حين انهار السياج العربي انهار البيت الفلسطيني وأصبح التفريط في ثوابت القضية والمساومة عليها يتم جهاراً نهاراً أمام كل الأعين. الذي لا يقل أهمية عن ذلك وخطورة أن الشقاق العربي صار سنداً للتشرذم الفلسطيني ونقطة الضعف الحقيقية في ملف القضية. الأمر الذي يدعونا إلي القول بأن الانقسام الفلسطيني لن يلتئم عقده إلا إذا تصالح العرب أولاً، خصوصاً محور «القاهرة - الرياض - دمشق»، وهو المثلث الذهبي الذي باتصال أضلاعه يؤمن السياج للقضية، وبانفصالها تصبح القضية في مهب الريح، وذلك هو الحاصل الآن.

0 التعليقات:

إرسال تعليق