الأمن المركزى والأمن الثقافى

خالد منتصر
ذكرنى مشهد معرض كتاب القاهرة الدولى لهذا العام بمشهد السلطة، فالمعرض إختزال حى ومرئى لما يدور فى تلافيف مخ السلطة فى الخفاء، فالأمن خارج معرض الكتاب وعلى الأبواب الخارجية غاية فى الدقة والإنضباط والحرص والتوجس والتربص وتوقع الخطر وشم رائحته من على بعد الآف الأميال والتنبؤ بزلازل وبراكين المؤامرات التى تحاك فى الظلام والأيدى الخفية التى تدعبس فى دهاليز الأمن القومى، رادار أمنى منضبط لايترك شاردة أو واردة إلا وأحصاها وقاسها وعرف ماضيها وحاضرها و مستقبلها، كل باب عليه ضباط من الرجال من كافة الرتب من الملازم وحتى اللواء لتفتيش الرجال، وأيضاً ضابطات من الجنس اللطيف لتفتيش النساء، وصدرت الأوامر منذ بداية المعرض بأن يوم الجمعة الماضى إستثناء يفتتح فيه المعرض الثانية بعد الظهر حنى لاتحدث المظاهرات الروتينية المعتادة بعد صلاة الجمعة، يعنى المكان محاصر ومنضبط وأمان وزى الفل، ولكن السؤال هل مايفعله الأمن هو الأمان الحقيقى؟، وهل الأمن المركزى يغنى عن الأمن الفكرى والثقافى؟، وهل الحل فى يد وزارة الداخلية أم وزارة الثقافة أم المجتمع بأكمله؟، وهل أبواب المعرض الخارجية هى المهمة والجديرة بالحراسة أم أن مايحدث فى داخل المعرض وبعد إجتياز البوابات هو الأهم؟!!!!!.
عند دخولك الى أجنحة ودروب معرض الكتاب ستلمح مشهداً يلخص لك ماهو حال الثقافة الحقيقية، وسيجيب عن السؤال الحقيقى، ماهو المطلوب حراسته فعلاً؟، هل هو بوابة معرض الكتاب أم عقل مصر؟، ستلمح تيار التتار ينتشر كالجراد باللحى والجلاليب القصيرة فى حركة منتظمة، كراتين وأجولة تحمل أطناناً من كتب التراث الصفراء من عينة زواج الإنس من الجن وعذاب القبر والشجاع الأقرع وفرض النقاب وتكفير البشر....إلى آخر هذه القائمة، والمدهش هو أسعارها الزهيدة بالرغم من طباعتها الفاخرة وتجليدها المذهب وحجمها الضخم!!، أنا لاأطالب بمصادرة، فأنا ضد المصادرة على طول الخط، وإنما أطالب بمعركة متكافئة على الأقل، فأى كتاب من كتب التنوير والعقل فى سراى ألمانيا القاطن فى منطقة نائية فى نهاية معرض الكتاب والذى يضم دور النشر المصرية واللبنانية والسورية........التى تكتب فى المسكوت عنه من التراث بطريقة نقدية، وتتحدث عن العلم والعقل، هذه الكتب أقل سعر لأى كتاب منها يتجاوز المائة جنيه، أى مايعادل نصف مرتب كامل لموظف مصرى فى بداية السلم.
أهل التنوير فى معركة خاسرة، يحاربون بسيف خشبى هزيل أمام ترسانة من القنابل النووية الإعلامية من كتب رخيصة وفضائيات سلفية منتشرة تصرخ وتزيف الوعى وتغسل الأدمغة بفتاويها المتخلفة، أما الدولة فهى مشغولة بحراسة بوابات معرض الكتاب حتى لاتحدث هتافات مضادة للنظام، وبعد إغلاق الأبواب تنام قريرة العين مطمئنة البال أن كل شئ تمام والأمن مستتب.

"صفعة عثمانية" من أردوغان لشيمون بيريز في دافوس


انسحب رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان غاضبا من إحدى جلسات منتدى دافوس الاقتصادي العالمي في سويسرا احتجاجا على عدم إعطائه الفرصة للرد على كلمة مطولة للرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز برر فيها المجزرة الإسرائيلية في قطاع غزة.

ففي جلسة حول غزة بالمنتدى دافوس مساء الخميس، تحدث في البداية أردوغان لمدة 12 دقيقة موجها كلامه للرئيس الإسرائيلي قائلا "ما دمت تقوم بإلقاء القنابل وتتعلل بالصواريخ و(حركة المقاومة الإسلامية) حماس، ماذا فعلت خلال مدة ستة أشهر من التهدئة غير قتل 28 فلسطينيا وقطع الكهرباء والطعام".

وأضاف "نحن كبشر يجب علينا التفكير في هذه المواقف، وأؤكد على عدم وجود أي توجه غير إنساني لموقفي في دعم الناس في غزة، فأنا لست ضد السامية ولا ضد أي دين كان، وذكركم بأنكم تؤخرون المساعدات الإنسانية للهلال الأحمر التركي على المعابر".

وحول اعتقال البرلمانين والوزراء الفلسطينيين، قال أردوغان "طلبت من أولمرت إطلاق سراح البرلمانيين والوزراء, فرد قائلا آنذاك "عباس يغضب لو فعلنا هذا", فقلت له إذن أطلق الأسرى العاديين فقال: إذا تركتهم تعرض محمود عباس لأزمة ثم وجدت بعد هذا اللقاء قتل الناس بدون هوادة في غزة".

كما أعرب عن دهشته من المقارنة بين قوة إسرائيل والفلسطينيين, قائلا "هل هناك أسلحة لدى الفلسطينيين مماثلة لما هو موجود لدى إسرائيل بما فيها أسلحة الدمار الشامل؟ بالطبع الجواب لا، حتى أنهم يضربون مراكز الأمم المتحدة والمدارس والمساجد بالصواريخ والقنابل".

بدوره، تحدث الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز لمدة 25 دقيقة شرع خلالها في عرض مبررات وذرائع للعدوان الإسرائيلي على غزة قائلا: إن حماس هي من دفعت إسرائيل لهذه الحرب، بعد أن أطلقت صواريخها على البلدات الإسرائيلية، وكان بيريز يتكلم بحدة وينظر إلى أردوغان مباشرة بين الحين والآخر.

وحين صفق بعض الحضور بقوة لبيريز على كلمته، بدت علامات الغضب الشديد على وجه أردوغان، فقاطع بيريز وقال بحدة : موجها كلامه للحضور: "عار عليكم أن تصفقوا على عملية أسفرت عن سقوط آلاف الأطفال والنساء على يد الجيش الإسرائيلي في غزة".

"أنتم أدرى الناس بالقتل"

وأضاف رئيس الوزراء التركي موجها كلامه هذه المرة لبيريز: "السيد بيريز، أنت أكبر مني سنا وقد استخدم لغة قوية، وهذا يعنى وجود أزمة نفسية لديك"، وتابع موجها حديثه إلى بيريز بحزم: "أتذكر الأطفال الذين قتلوا على الشاطئ ولم يكن هناك صواريخ تطلق منها.. عندما يتعلق الأمر بالقتل فأنتم أدرى الناس بالقتل".

بينما رد عليه بيريز مشيرا إليه بأصبعهً: "كانوا سيقومون بمثل ما نقوم به لو كانت الصواريخ تسقط على إستانبول"، في إشارة إلى الصواريخ التي تطلقها المقاومة الفلسطينية على البلدات الإسرائيلية دون أن تحدث خسائر تذكر.

واستدرك أردوغان قائلا "أذكرك أن التوراة تمنع القتل وكثير من يهود العالم شجبوا كل هذا القتل واستخدام القوة المفرط".

تدخل أمريكي!

وهنا تدخل منسق الجلسة، ديفد إيغناتيوس، كاتب العمود الشهير بصحيفة واشنطن بوست الأميركية، والمعروف بتوجهاته الداعمة لإسرائيل، ليقاطع أردوغان قائلا إن الوقت انتهى، ثم قاطعه بيديه مرة ثانية فحاول أردوغان الرد عليه بطلب عدم مقاطعته لمنحه فرصه للرد، خصوصا وأن الوقت الذي استغرقته مداخلته (12 دقيقة) لم يكن متوازنا مع الوقت الممنوح لبيريز (25 دقيقة).

وبعد أن وجد أردوغان نفسه في موقف الممنوع من الحديث، انتفض غضبا وجمع أوراقه قائلا: "شكرا أنتم لا تتركون لي فرصة كي أتحدث.. لقد تحدثت نصف مدة بيريز فحسب.. لن أحضر إلى دافوس مرة أخرى".

وبينما قام أردوغان ليغادر القاعة بدا على الرئيس الإسرائيلي الارتباك ملتفتا حوله دون أن ينطق بأي تعليق.

ووقف الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى وصفق بحرارة لأردوغان قبل أن يصافحه فيما غادر أردوغان القاعة وسط تصفيق من بعض الحضور.

وعقب مغادرة أردوغان وقف موسى يتلفت يمينا ويسارا، فأشار له الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون بالجلوس، فأخذ مكانه في الندوة مرة أخرى.

وقال أردوغان خلال موتمر صحفي عقب الندوة مبررا موقفه: "بيريز تحدث لمدة 25 دقيقة، وكان يتكلم بشكل يغلب عليه الحدة وينظر إلي مباشرة بطريقة لا تتلاءم مع الحرية العامة".

وعلق مراقبون أتراك على الواقعة قائلين أن أردوغان وجه "صفعة عثمانية" إلى بيريز، مستندين إلى ما هو معروف في التراث العثماني، فحين يفحم شخص آخر مستندا إلى المنطق والعقل، فيقال أنه وجه إليه "صفعة عثمانية". وتم تكريم أردوغان في ندوة سبقت الجلسة التي شهدت الواقعة بالمنتدى الاقتصادي أمس الخميس، باعتباره أفضل دبلوماسي.


"زاد الطين بلة"

وفي تعليقه على الحادثة أشاد ليث شبيلات، رئيس جمعية مناهضة الصهيونية بالعاصمة الأدرنية عمان، بموقف رئيس الوزراء التركي، قائلا إن: "موقف أردوغان ينبئ بتقدم نحو المواقف المستقلة عن الإرث التركي العلماني".

كما انتقد شبيلات بشدة حضور الأمين العام لجامعة الدول العربية الندوة مع الرئيس الإسرائيلي.

وقال: "كيف يسمح العرب بأن يجلس عمرو موسى هذه الجلسة مع قادة إسرائيل"، مضيفا أن جلوس عمرو موسى بعد خروج أردوغان "زاد الطين بلة"، وقال متحدثا عن الساسة والحكام العرب: "هؤلاء لا يدرون ماذا يفعلون".

وكان أردوغان قد هاجم في وقت سابق أمس الأربعاء العدوان الإسرائيلي على غزة، واعترض على تصنيف حركة المقاومة الإسلامية "حماس" ضمن قائمة "المنظمات الإرهابية"، داعيا في الوقت نفسه الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى إعادة النظر في تعريف المنظمات الموجودة في الشرق الأوسط تحديدا.

محمود عوض .. الممنوع ..!!

سامى كمال الدين

هل محمود عوض ممنوع من الظهور فى تلفزيون مصر ..؟!!
هل محمود عوض ممنوع من الكتابة فى صحافة مصر ..؟!!

أشطب السؤالين السابقين ، وتعالى أحدثك عن محمود عوض ..!!
حاضر الذهن دائما ً.. فى حالة تركيز عالية، منساب بالحكايا، لديه قدرة على الصمت والهدوء رغم أنه يجاور السفارة الاسرائيلية..!!
الكاتب الكبير محمود عوض الذى عاش عصورا ًوجاور عظماء وتخرج فى مدرسة أخبار اليوم ورفض – ومازال – أن يكون للكيان الصهيونى قيد أنملة فى بلادنا، لكى تمر إلى بيته بجوار كوبرى الجيزة لابد أن تقف أمام المعبر أو الكمين الذى يقف عليه مجموعة من الضباط والعساكر لتسأل من أنت و إلى أين ذاهب ؟! ويحتار من هم مثلى لمن يذهبون هناك سوى محمود عوض ..!!
فليس معقولا ًأن تذهب الى السفارة الاسرائيلية مثلا ً، وقد اختار محمود عوض البقاء فى هذا المكان – ليس حبا ًفى علم السفارة المرفرف أعلى البناية المجاورة ولكن إجبارا ًلمن رأوا فى مؤسسة أخبار اليوم أن قلم فى قامته يجب أن يصمت .. فالصمت من شيمة الحكماء ..!!
النظام المصرى أيضا يرى فى محمود عوض ما لا نراه نحن ، يرى أن محمود عوض لا يحب مصر ولا تهمه مصلحتها فى شيئ ، ويرى أن محمود عوض يجب أن يصمت ، فما سيقوله فى التلفزيون المصرى سيضر بالأمن العام ويضر بمصلحة البلد ،..!!
عندهم حق .. هم أحرار فى بلدهم ، ولكن لى عندهم مطلب ، وهو أن يعاملوا محمود عوض مثلما يعاملون جيرانه فى السفارة ، فالنبى وصى على سابع جار ، فلو عاملوا محموض عوض مثلما يعاملون جيرانه ، الرجل سوف يفيدهم كثيرا، ولن يؤذيهم مثلما يفعل جيرانه مع النظام ..!! يحيا محمود عوض الآن فى جريدة عربية بعد ما أصاب سوء النظر العديد من رؤساء تحرير الصحف فى مصر وعدم مقدرتهم على جذب قلم فى قامة محمود عوض، ولا أعرف ما الذى يضايقهم فى قلم بهذا الوزن وهذه القيمة له آلاف القراء الذين يلهثون خلف مقالاته ويسعون إلى تتبع رؤاه وتفكيره خاصة انه كاتب شامل من طراز فريد يكتب فى الأدب وفى السياسة وفى الفن، ويبحر عبر " شخصيات " تمثل أساطين الفكر والأدب العربى ليكشف رؤاها وتفكيرها وحياتها .
محمود عوض الذى يقدم النصيحة للأجيال المختلفة ، ويتبنى العديد من الموهوبين فى بلاط صاحبة الجلالة ، وعلى استعداد لأن يذهب الى الموهبة حتى عقر دارها ويأخذ بيدها الى الطريق الصحيح ، وهو عكس قامة أخرى هى الأستاذ هيكل ، فعلى الرغم من أنهما نفس الجيل ونفس المكانة إلا أن من ينظر الى تجربة كل منهما سوف يتوقف كثيرا وقفات تحتاج الى مقال أخر يفرد لها ..
يميل محمود عوض كثيرا ًإلى البساطة فى أسلوب كتابته والجملة القصيرة والبداية عبر أقصوصة أو حكاية .. إنه القالب الروائى الذى يجعلك مصرا ًعلى الوصول إلى النهاية بأى طريقة، فهو " يجيب رجلك " من أول جملة، فإذا أراد الكتابة عن طه حسين مثلا ًيبدأ كالآتى " لم أكن أنوى الكتابة عن طه حسين .
طلب منى صديق أن أتوسط له عند طه حسين لكى يوافق على أن يسجل للتلفزيون حديثا ًأدبيا ًومناقشة محدودة .
وافق طه حسين .
سألت صديقى : كم من الأجر سيصرفه التليفزيون لطه حسين فيما لو تم تسجيل هذا الحديث ؟
بعد عملية جمع وضرب وقسمة وطرح وخصم، المبلغ هو : 18 جنيها ًو60 مليما ً !
بالصدفة، سألت عما تتقاضاه راقصة مبتدئة عن المدة نفسها . فعلمت أن ماتتقاضاه حضرة الراقصة المبجلة هو 28 جنيها ً.
إننى لم أمتعض، ولم أبتهج . فقد فهمت الدرس بوضوح : إن هز البطن أهم لمجتمعنا كثيرا ً- وكثيرا ًجدا ً- من هز العقل . قلة عقل .
حكاية سمعتها من محمد عبد الوهاب لثالث مرة .." وهنا أنت تلهث مثلى وراء محمود عوض لتعرف الحكاية التى بالتأكيد سوف تكون عن طه حسين، فهو يحكى .. يجذب كما محمد التابعى و إحسان عبد القدوس ومصطفى وعلى أمين وأحمد بهاء الدين .. جيل أنشأ مدارس صحفية لها مكانتها وقاماتها السامقة يلخصه محمود عوض عبر حكايته مع إحسان عبد القدوس والصفحة الأخيرة فى أخبار اليوم .." حدث هذا منذ سنوات .. استدعانى إحسان عبد القدوس، رئيس التحرير الذى أعمل معه فى جريدة "أخبار اليوم"..
وقال لى : ممكن تفكر فى موضوع تكتب عنه فى الصفحة الأخيرة هذا الأسبوع ؟!
سألته مندهشا ً: أى صفحة أخيرة ؟
قال إحسان : الصفحة الأخيرة من " أخبار اليوم " !
قلت محاولا تذكيره : إن كاتبها الثابت هو أنيس منصور .
رد إحسان : أعرف ذلك .. ولكننى أريدك أن تكتبها هذا الأسبوع .. قلت : لماذا ؟
رد إحسان : لأن أنيس اختفى، ولا أدرى أين هو الآن .. ولا متى سيرسل مقاله الأسبوعى ..
قلت له : صحيح أن اليوم هو موعد تسليم مقالات الصفحات الثابتة من الجريدة .. ولكن أنيس دقيق فى مواعيده كساعة سويسرية .. وربما نستطيع انتظار مقال أنيس حتى صباح الجمعة ..
فقد إحسان أعصابه لأول مرة منذ عشر دقائق .. ورد فى عصبية : أنا هنا رئيس عمل، ولست زعيم قبيلة ! أريد مقالا منك للصفحة الأخيرة غدا ً..!
عند كلمة " غدا ً" أحسست أن إحسان وصل إلى النقطة التى يستحيل عندها التفاهم معه ..
بالطبع إحسان رئيس عمل .. ولكنه يتعامل معى بالحب .. وليس بالسلطة !
وبالإضافة إلى ذلك فإن الأفكار لاتأتى للكاتب بقرار من رئيس التحرير .. حتى لو كان هذا الرئيس هو إحسان عبد القدوس ! إن إحسان بالنسبة لنا لم يكن أبدا ً"رئيسا ً" للتحرير . كان إحسان هو الصديق والأخ الأكبر والأب وحامل همومنا والمخفف عن آلامنا . كان واحدا ًينتمى بحكم شهادة الميلاد إلى جيل آخر .. ولكن بحكم المشاعر ينتمى إلى جيلنا .. مضروب مثلنا، متواضع رغم أنفه، غنى بالأمل كأى شاب، فقير فى السلطة كأى كفاءة، مهزوم كأى فنان، الذى يستطيع أن يحرك جبلا .. برقته، وليس بعضلاته !
لقد خرجت من مكتب إحسان مباشرة إلى منزل أم كلثوم !
وفى اليوم التالى عدت لإحسان بمقال عن أم كلثوم، لكى يرسله إلى المطبعة فورا ً، وينشر فى العدد الذى صدر بعد يومين من أخبار اليوم !
فى الأسبوع التالى تكررت نفس القصة...
فى اليوم التالى عدت له بمقال عن طه حسين – وللمرة الثانية – نشره إحسان فى الصفحة الأخيرة .
ثم .. ظهر أنيس منصور، بعد اختفائه فى الإسكندرية لمدة أسبوعين . فى هذه المرة كنت أول من نقل الخبر إلى إحسان .. ثم استدرت خارجا ًمن مكتبه .
نادى إحسان متسائلا : إيه رأيك تكتب فى صفحة عن الشيخ الباقورى ؟
قلت : أى صفحة ؟
رد مبتسما ً: أنت تكتب .. وأنا أنشر !
قلت : ما الذى تريدنى أن أكتبه عن الباقورى ؟
تساءل إحسان فى عصبية : من الذى يكتب، أنا .. أم أنت ؟
كانت عصبية إحسان هى دائما ًمثل جرس المدرسة .. انتهت الحصة نتكلم فى موضوع آخر !
غلب إيه ده يا ربى ؟! هم رؤساء التحرير مالهم ؟ ألم يسمعوا أبدا ً عن اختراع .. اسمه الديمقراطية ؟!
إننى خرجت من مكتب إحسان غير متحمس، لا للكتابة ولا للباقورى . وظل هذا هو حالى إلى حان موعد تقديم المقال .
وبينما أنا فى حالة اختفاء كاملة عن إحسان وعن أخبار اليوم .. عثر على مصور زميل فى الجريدة وصاح متحمسا ًبمجرد أن رآنى: أنت فين ؟ الأستاذ إحسان كلفنى بأن أذهب معك إلى الشيخ الباقورى لكى أصوره بمناسبة المقال الذى ستكتبه هذا الأسبوع !
قلت له : ولكننى لم أكتب شىء ..
رد المصور مذعورا ً: لا تكشفنا مع إحسان وحياة أبوك .. لقد علمت منهم فى الجريدة أنهم حجزوا صفحة خالية تماما ًمن الإعلانات .. لنشر هذا الموضوع .. صفحة غير الأخيرة .
هنا سألته بحماس : تقدر تعمل صورة كبيرة ؟ على خمسة أعمدة أو ستة مثلا ؟
رد : ياريت ..
شرحت للمصور فكرة الصورة، والمعنى الذى أريده منها، قبل أن أفكر حتى فى التحدث تليفونيا ًمع الشيخ أحمد حسن الباقورى .
وذهبنا إلى الباقورى . ونشرت الصفحة بعنوان " اعتذار إلى الله"!
فى هذا اليوم بدأ إحسان اجتماعه الاسبوعى معنا بسؤال من جانبه : مارأيكم فى هذه الصفحة الجديدة ؟ أنا قررت أن تكون بابا ًثابتا ً بعنوان " تحليل شخصيات " .. أو – من باب الاختصار – نسميها " شخصيات " ونظر إلى إحسان ضاحكا ًوهو يقول : الصفحة دى.. عهدتك !
.. وبدأت " عهدتى " ..
وبدأت معها مسئوليتى ..
كان إحسان كبيرا ًفى ثقته، فنانا ًفى أفكاره، رقيقا ًفى لهجته .. إنه لا يطلب، ولكن يقترح . لا يفرض ولكن يثير الحماس . لا يقرر ولكن يوحى . هذا رجل فنان يريد منك أن تسمو وتكتشف !
وبدأت أختار الذين أكتب عنهم ..
كان كل شخص يمثل بالنسبة لى معنى أريد أن أقوله . وبقدر إحساسى بالمعنى .. كان يأتى انفعالى بالشخص . بعضهم كان الانفعال يبدأ معه بالاختلاف .. وبعضهم بالموافقة التى تتحول بعد الفحص إلى اختلاف !
إنها صدمة التوقعات لكل شاب يجد نفسه فجأة وسط غابة نسميها السلطة !
وفى هذه الشخصيات أيضا ًعرفت دروسا ًكثيرة .. وابتسامات أحيانا .
وأنا تعلمت كثيرا من كتب محمود عوض مثل " ممنوع من التداول " ، "وعليكم السلام " ، " بالعربى الجريح " ، " أفكار ضد الرصاص " وشخصيات أم كلثوم التى يعرفها أحد وعبد الوهاب وغيرهم وغيرهم .
أستاذ محمود عوض .. شكرا .

شعب الجبارين


فهمي هويدي
أشهد أن أهل غزة يستحقون منا الحفاوة والإكبار، بأكثر مما يستحقون من الرثاء أو الإعذار.


(1)

أدري أننا مسكونون هذه الأيام بمشاعر اللوعة والحزن، جراء ما شاهدناه علي شاشات التليفزيون من صور سجلت بشاعة البربرية الإسرائيلية التي فتكت بالبشر، وحولت القطاع إلي خرائب وأنقاض. كأن ما جري لم يكن اجتياحاً عسكرياً، وإنما كان حملة انتقام وترويع استهدفت تدمير القطاع، وذبح أهله والتمثيل بهم، حتي يكونوا أمثولة وعبرة لغيرهم ممن يتحدون العجرفة والاستعلاء الإسرائيليين.
أدري أيضًا أن الجرح أكبر من أن يلتئم لأجيال مقبلة. وأن شعورنا بالخزي والعار لا يمكن إنكاره، سواء لأننا لم نستطع إغاثة الفلسطينيين وهم يذبحون، في حين وقفت أنظمتنا متفرجة عليهم، أو لأن بعضنا كان عليهم وليس معهم أو لهم.

ذلك كله صحيح لا ريب. لكن من الصحيح أيضاً أن دماء فلسطينيي غزة التي نزفت وأشلاءهم التي تناثرت وصرخات أطفالهم التي ألهبت ضمائرنا ومازالت أصداؤها تجلجل في أعماقنا، هذه كلها إذا كانت قد سجلت أسطر المأساة، إلا أن وقفة الشعب، وصموده الرائع ومقاومته الباسلة، هذه أيضاً سجلت صفحات مضيئة في تاريخ أمتنا لا ينبغي أن نبخسها حقها. يكفي أن شعب الجبارين هذا رغم كل ما تعرض له من حمم أمطرته بها آلة الحرب الإسرائيلية بكل جبروت وقسوة، ظل رافضاً للركوع والتسليم، وها هو سيل الشهادات التي سمعناها بعد وقف المذبحة علي ألسنة الأطفال والنساء والشيوخ، كلها تجمع علي أن طائر الفينيق التي تحدثت عنه الأسطورة، ذلك الذي يخرج حياً من تحت الرماد، ثبتت رؤيته في غزة.

لأنهم لم يركعوا ولم يرفعوا رايات التسليم فإنهم نجحوا وأفشلوا خطة عدوهم. صحيح أن هذا كلام لا يروق لبعض الساسة والمثقفين من بني جلدتنا ممن يرون أن شرف الأمة لا يستحق أن يموت المرء من أجل الدفاع عنه، إلا أن المعلومة تظل صحيحة، أعجبت أصحابنا هؤلاء أم لا تعجبهم. تشهد بذلك كتابات أغلب المعلقين الإسرائيليين، التي سجلها تقرير نشرته صحيفة «الشرق الأوسط» في 19/1، تضمن خلاصة لتلك الكتابات. منها مثلاً أن رون بن بشاي - المعلق العسكري لصحيفة «يديعوت أحرونوت» - ذكر في النسخة العبرية للصحيفة في (18/1)، أن إسرائيل فشلت بشكل واضح في تحقيق الهدف الرئيسي المعلن للحرب، المتمثل في تغيير البيئة الأمنية في جنوب إسرائيل، وهو ما لم يتحقق حين تبين أن حركة حماس مستمرة في إطلاق صواريخها. وهو المعني نفسه الذي أكده المعلق السياسي الوف بن، وكرره جاكي كوخي - معلق الشئون العربية في صحيفة «معاريف» - الذي قال إن إسرائيل فشلت في توفير صورة النصر في معركة غزة، وأن ما تبقي من هذه الحرب هو صور الأطفال والنساء والقتلي، التي أوصلت إلي عشرات الملايين في العالم رسالة أكدت تدني الحس لدي الجيش الإسرائيلي. منها أيضاً ما قاله يوسي ساريد - الرئيس السابق لحركة ميرتس في مقال نشرته صحيفة «هاآرتس» - أن عملية القتل البشعة التي أنهت بها إسرائيل مهمتها في غزة تدل علي أنها هزمت في هذه المعركة ولم تنتصر. أما المعلق عوفر شيلح فقد ذكر أن القيادة الإسرائيلية حين قررت تدمير غزة فانها تاثرت في ذلك بالنهج الذي اتبعه رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين مع شيشينا وجورجيا، ثم أضاف: «إذا كنا نريد أن نظهر كمنتصرين باستخدام هذا النهج، فويل لنا».

(2)

صحيح أن المقاومة لم تستطع أن تفعل شيئاً يذكر أمام الغارات التي أطلقت فيها إسرائيل أقوي طائراتها النفاثة لأسباب مفهومة، إلا أن معركتها الحقيقة كانت علي الأرض، حيث فاجأت المقاومة خلالها إسرائيل بما لم تتوقعه.

لم تهزم المقاومة القوات الإسرائيلية، لكن كل الشواهد دلت علي أنها صمدت أمام تلك القوات، ووجهت إليها ضربات موجعة، أسهمت في إفشال مهمتها. ولا تنس أن يوفال ديكسين - رئيس المخابرات الداخلية الإسرائيلية - كان قد توقع أن يسقط القطاع خلال 36 ساعة، ولكن بسالة المقاومة أطالت من أجل الحرب، حتي اضطرت إسرائيل إلي وقف إطلاق النار من جانبها في اليوم الثاني والعشرين.

ليلة الاثنين 12/1، والاجتياح في أسبوعه الثاني، فوجئ الجنرال يو آف بيليد - قائد لواء الصفوة (جولاني) - والعشرات من جنوده بأن النيران فتحت عليهم عندما كانوا يقومون بتمشيط المنطقة الريفية التي تقع شرق مخيم «جباليا» للاجئين شمال قطاع غزة. فما كان منه إلا أن اندفع مع جنوده للاحتماء ببيت أحد الفلسطينيين في المنطقة، كان قد تم إخلاؤه من سكانه. لكن ما إن تجمع الجنود والضباط في قلب المنزل، حتي دوي انفجار كبير انهار علي أثره المنزل؛ فقتل ثلاثة جنود وجرح 24 منهم بيليد نفسه، وعرف أن ستة من الجرحي في حالة ميئوس منها. وكانت تلك إحدي صور الاستدراج التي لجأت إليها المقاومة؛ ذلك أن إطلاق النار أريد به دفع الجنود للاحتماء بالمنزل الذي تم تفخيخه بالمتفجرات في وقت سابق.

موقع صحيفة «يديعوت أحرونوت» علي الانترنت تحدث باقتضاب عن قصة ضابط آخر هو الرائد ميكي شربيط، الذي يرقد في أحد المستشفيات للعلاج من إصابته في اشتباك مع رجال المقاومة الفلسطينية في شمال القطاع. هذا الضابط الذي خدم كقائد سرية بسلاح المدرعات في حرب لبنان الثانية، استهجن تجاهل الإعلام الإسرائيلي الإشارة إلي شراسة المقاومة التي واجهتها القوات الإسرائيلية. وفي الحديث الذي أدلي به إلي النسخة العبرية لموقع الصحيفة وصف الحرب الدائرة وقتذاك بأنها «حرب أشباح لا نري فيها مقاتلين بالعين المجردة، لكنهم سرعان ما يندفعون صوبنا من باطن الأرض. لقد كنا نتحرك في الشوارع ونحن ندرك أن أسفل منا مدينة خفية تعج بالشياطين».

فوجئ الإسرائيليون بكل ذلك. واعترف روني دانئيل - المعلق العسكري لقناة التلفزة الإسرائيلية الثانية - بأن قوات الجيش الزاحفة واجهت مقاتلين أشداء، وقال علي الهواء إن الإبداع العسكري الذي يواجه به نشطاء حماس الجيش الإسرائيلي فاجأ قادته بشكل صاعق، ونوّه إلي أنه محظور عليه التحدث عن المفاجآت التي تعرض لها الجنود الإسرائيليون في غزة، التي تفسر عدم قدرة هؤلاء الجنود علي التقدم في كل القطاعات رغم مضي 19 يوماً علي الحملة، ورغم إلقاء الطائرات الإسرائيلية مئات الأطنان من القنابل الفتاكة لتقليص قدرة المقاتلين الفلسطينيين علي المقاومة.

في هذا السياق نقل أليكس فيشمان - المعلق العسكري لصحيفة «يديعوت أحرونوت» - عن عدد من الجنود في ساحة المعركة أن الهاجس الذي سيطر عليهم طول الوقت هو الخوف من الوقوع في الأسر. وأشار هؤلاء إلي أن مقاتلي حماس أعدوا شبكة من الأنفاق للمساعدة في محاولات أسر الجنود.

(3)

هؤلاء المقاومون البواسل لم يهبطوا علي غزة من السماء، ولكنهم أحفاد وأبناء شعب الجبارين، الذي لايزال منذ مائة عام متشبثاً بأرضه التي رواها بدمه. لقد راقبت أبناء غزة الذين ظهروا علي شاشات التليفزيون طوال المذبحة وبعدها، فلم أسمع واحداً منهم أعلن تمرده أو سخطه علي الأوضاع في القطاع. كانوا جميعاً ودون استثناء أكثر نضجاً ونزاهة من كل الأصوات التي حاولت تمييع الموقف وإلقاء تبعة ما جري علي وقف التهدئة تارة أو علي حكومة القطاع تارة أخري. لم يروا إلا عدواً واحداً ومجرماً واحداً هو إسرائيل. وانعقد إجماعهم علي أن حماس ليست الهدف، وإنما رأس المقاومة هو المطلوب وتركيع الفلسطينيين هو الهدف.

رغم الجحيم الذي عاشوا في ظله والمآسي التي لحقت بهم، فإنهم لم يفقدوا صبرهم الأسطوري. وكشفت محنتهم عن معدنهم الحقيقي، بالتحامهم وتكافلهم وإصرارهم علي الاستمرار والثبات علي الأرض. القصص التي تروي عن المدي الذي بلغه الالتحام والتكافل لا تكاد تصدق، وكلها تثير الدهشة والإعجاب، يتحدث القادمون عن الموسرين الذين كانوا يشترون شاحنات الخضار وأكياس الدقيق ويوزعونها علي المعوزين. يتحدثون أيضاً عن البيوت التي فتحت لمن دمرت مساكنهم، وعن الثياب والبطانيات التي جمعت لتوزع علي الذين لاذوا بالخيام احتماء من البرد، وعن السيدات اللاتي أصبحن يخبزن يومياً مئات الأرغفة لجيرانهم، وأخريات كن يتناوبن طبخ العدس والبقول ويبعثن بالوجبات الساخنة إلي أماكن تجمعات الفارين من الجحيم. يتحدثون أيضاً عن الكيروسين الذي كانوا يتقاسمونه فيما بينهم يوماً بيوم، لإشعال المصابيح والمواقد البدائية التي أصبحت تهرب من مصر، بعدما اختفت هناك منذ عقود... إلخ.

الذي لا يقل إدهاشا عن ذلك هو حالة الانضباط الشديد التي مر بها القطاع، فقد كانت أجهزة السلطة تتولي طول الوقت الإشراف علي توزيع الخبز والبطانيات والكيروسين. ورغم أن الدوائر كانت معطلة، فإن رواتب الموظفين كانت تصل إليهم في بيوتهم. ورغم أن القصف المكثف كان يمكن أن يدفع ألوف البشر إلي الاتجاه صوب الحدود المصرية ومحاولة عبورها هرباً من الموت، فإن ذلك لم يحدث، ووقفت شرطة القطاع تحرس الحدود وتؤمنها. وفور إعلان وقف إطلاق النار، سجلت الفضائيات كيف تحركت الأجهزة لضبط المرور وإزالة ركام الأبنية المدمرة، والتخلص من النفايات. وقبل هذا وبعده، رفع الأنقاض بحثاً عن الأحياء وانتشال بقايا الجثث. لقد دبت الحياة في طائر الفينيق.

(4)

لقد كان المقاومون يعرفون جيداً أنهم سيواجهون العدو في واحدة من معارك كسر العظم، لذلك أطلقت كتائب عز الدين القسام علي المعركة اسم «الفرقان»، باعتبارها اشتباكاً مصيرياً يفرق بين الحق والباطل. وحسب مصادر الحركة، فإن المقاومة لم تخسر أكثر من 10% من مقاتليها، في حين أن قدرتها التسليحية مازالت جيدة، وبوسعها أن تواصل إطلاق صواريخها التي تكدر حياة العدو لشهر آخر علي الأقل. بل إنها لم تستخدم الطاقة القصوي لمدي الصواريخ، لأنها أرادت أن تحتفظ به للتوقيت الذي تختاره. وأغلب الظن أن إسرائيل أدركت ذلك جيداً، وذلك هو التفسير الوحيد للوثة التي أصابتها وهي تستنفر أمريكا وأوروبا وبعض العرب لكي يهبوا جميعاً لأجل وقف تهريب السلاح إلي غزة.

غزة لم تهزم، وما حدث في القطاع ليس مأساة ولكنه ملحمة. لكن الهزيمة الحقيقية والمأساة التي يَنْدَي لها جبين الشرفاء، هي من نصيب الواقفين علي الضفة الأخري من المنسوبين إلي الأمة العربية، الذين تقاعسوا وولوا الأدبار حين جد الجد. وهم الذين وصفهم القرآن بأنهم: «يحلفون بالله إنهم لمنكم، وما هم منكم، ولكنهم قوم يَفْرَقوُن».

أكبر كسوف للشمس خلال القرن 21


شاهد العالم صباح الإثنين 26-1-2009 أكبر كسوفا جزئيا للشمس خلال القرن الـ21، وخرج آلاف الأشخاص في تايلاند وسنغافورة وجنوب إفريقيا لمشاهدة الظاهرة التي تحدث عندما يمر القمر بين الشمس والأرض، وبدأ الكسوف عند الساعة 8:06 صباحا، واستمر 7 دقائق و54 ثانية.

ما بعد إسرائيل


أحمد المسلمانى

هذه سطور من مقدمة الطبعة الثانية لكتابى «ما بعد إسرائيل» والتى تصدر عن «دار ميريت» قريباً.

■ كأن الطبعة الأولى لهذا الكتاب قد صدرت قبل قرن من الزمان.. لقد أصبحت الأوضاع فى الشرق الأوسط تمضى أسرع من البصر وأبعد من البصيرة، فلا النظرة كافية للفهم ولا النظرية كافية للعلم.

فى وقت محدود تحول التساؤل عما بعد إسرائيل إلى ما بعد فلسطين.. قبل عشر سنوات كانت إسرائيل تراجع نفسها فى مناسبة مرور نصف قرن على إعلانها، وكان كثيرون فيها يلقون ظلال شك حول الماضى وظلال يأس حول المستقبل. لكن احتفالات إسرائيل بعيدها الستين جاءت وسط مشهد آخر وعالم آخر. كان الظن أن العام الستين هو عام التقاعد لإسرائيل.. هو بداية خريف مفتوح أو غروب قريب.. غير أن ما جاء كان خارج المنطق وخارج التاريخ.

لم يعد الهدف العربى هو حدود الرابع من يونيو، بل صغر الهدف إلى إزالة الجدار الفاصل، ثم ضمر الهدف إلى فتح معبر وإدخال طعام ودواء.

تحولت القضية من الصراع على الأرض إلى الصراع على الضوء.. وكانت أضواء الكاميرات باهرة وشاسعة.. تغطى كل فصيل وكل فسيلة وضعها فصيل! وأصبح لدينا رجال طرب لا رجال سياسة.. وحل الصوت والضوء محل الوطن.

■ فى أثناء الهبوط رحل شاعر فلسطين الكبير محمود درويش.. ليغيب حلم اللغة بمثل ما غاب حلم السياسة.. ليموت القلب بعد أن مات العقل، لتنكسر الروح بعد انكسار الجسد!

وأذكر أننى قابلت الشاعر الكبير قبل الرحيل بعامين.. وكان الرجل بشوشاً مشرقاً يضحك من الأعماق.. وكان يواصل النكتة بالنكتة ولا يستريح من ذكر اللطائف والطرائف.. وقد كنت أعجب لتلك القهقهة الكبرى والابتسامة الفسيحة.

فقد كانت معطيات الساحة الفلسطينية لا تدعو إلى ابتسامة واحدة.. ثم أدرك الرجل ما أدركت.. فقال لى: إننى مثل تلميذ بليد أدى الامتحان ورسب، وقد سكب من البكاء ما يكفى ألف فشل.. ثم فقد البكاء دلالته.. لم تعد الدموع قادرة على غسل الآلام.. فكان الخيار الآخر.. كانت الحركة القاتلة نحو النقيض.. إننى أضحك لأواصل الحياة والبكاء.. ولكننى إذ أضحك وأبكى، أوقن تماماً أن كل شىء قد انتهى.. الأشعار والرجال.. القصيدة والوطن.

■ تقع سطور هذا الكتاب فى نطاق ما وراء البكاء.. هى سطور تؤمن بأن الجهل خيانة واليأس خيانة.. وأنه فى لحظات المصير القاسى.. فإن الأمل يعادل الوطن.

كيف نرسم خرائط المستقبل؟


ستلملم غزة جراحها وتنتظر جولة الإبادة القادمة، والتي سـتأتي - لا ريب - إذا لم يتوحد الصف العربي - «وأقصد الناس وليس الأنظمة» - ليفرض شروطه علي الواقع السياسي لصالح مستقبل مختلف للنظام العربي الذي شاهدناه عبر العقود الماضية ولفظ ألفاظه كنظام، بل صارت عروبته محل نظر بعد مشاركة إيران في قمة قطر «ولو كمراقب»، المستقبل المختلف الذي نحتاج أن نفكر فيه اليوم ليس مستقبلاً لغزة، بل لشعوب المنطقة التي تعاني ما أثمر عجزاً عن الفعل أدي لمشاهدتنا ما تعانيه غزة دون قدرة علي إنقاذها، والفرجة علي مجموع الرؤساء في انقساماتهم و«شبه» مصالحاتهم وهم يأكلون وجباتهم: لحم شعوبهم.


هاتَفَني أخ كريم حثني علي الكتابة في قضايا أساسية هي كما حددها بحماسة وصدق، أولاً: إعادة التأكيد علي ربط الصهيونية بالعنصرية والسير علي المسار القانوني العالمي لإعادة هذه الصلة في الوثائق الدولية بعد أن تم محوها بضغط الولايات المتحدة واللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة وفي أوروبا عبر عمل منظم لعقود. ثانياً: الاستمرار في الجهد الإعلامي والتربوي والسياسي المنظم لفضح الطبيعة العنصرية غير الديمقراطية لقوانين الهجرة في إسرائيل التي تتيح لكل يهودي في العالم أن يستقر بإسرائيل ويستوطنها «مقابل أن يرحل فلسطيني أو يقتل أو تغتصب أرضه»، ولا تتيح حق العودة للفلسطيني في الشتات لوطنه وأرضه، وتعامل الـ20% من عرب 1948 باعتبارهم غرباء مقيمين علي أرضها، يمكن التخلص منهم في أي وقت بأي حيلة مادامت أمريكا قد تعهدت بضمان «يهودية الدولة».. أي صهيونية الكيان الاستيطاني الإمبريالي الذي يمارس نظام فصل عنصري ويمارس جرائم حرب واضحة لا يحاسبه عليها أحد، بل يذهب رؤساء الدول الأوروبية من شرم الشيخ لإسرائيل ليؤكدوا ضمان أمر إسرائيل ولا يتحدثون عن جرائم الإبادة في غزة، وكأن رحلتهم لشرم الشيخ كانت رحلة استجمام، وهي الرحلة التي وصفتها الجرائد المصرية بأنها جاءت نتيجة العلاقات الشخصية الحميمة التي تربط الرئيس حسني مبارك برؤساء الدول الأوروبية!!!

ثالثاً: التفكير في كيفية بناء الدولة الفلسطينية، فالمقاومة لا تعني الانصراف عن التفكير في بناء الدولة، أي ما وراء المقاومة؛ لأن غياب هذا التفكير والاستغراق في لحظة المقاومة حرم الفصائل المقاومة من تقديم تصور واضح لكيفية إدارة تلك الدولة وتحقيق التحالف بين فصائل العمل النضالي حول مشروع لعقد سياسي، وهو ما أودي بالوحدة الفلسطينية للفصائل عندما غيرت الانتخابات الديمقراطية توازنات الحكم والسلطة..ولعل الخبرة الأيرلندية تستحق النظر والدراسة في هذا الصدد، ولعلني أضع علي التوازي مع ذلك دراسة تجارب الخبرات الاستيطانية وكيف انتهت وكيف تحولت النظم وتم إعادة بناء الدولة علي منطق جديد، فبناء الدولة وسقوط الكيان الاستيطاني وجهان لعملة واحدة.

رابعاً: التأكيد علي ملاحقة جرائم الحرب الإسرائيلية، والمبالغ التي وعد بها حكام النفط لإعادة إعمار غزة والتي لا أطمئن لكيفية تحويلها لواقع إذا كان كل الأطراف لا يريدون أن تقع في يد حماس، وهي الفصيل الأقوي في غزة رغم أنوف البعض. أقول لو أن معشار هذه الأموال تم إنفاقه علي ملاحقة مجرمي الحرب الصهاينة لكان خيراً لمستقبل القضية.

خامساً: أهمية استغلال الزخم العاطفي والحركة المدنية التي أبعثت في الواقع العربي كي تستمر تلك الجهود بشكل منظم وندرك أهمية «الجهاد المدني» في دعم الجهاد المشروع ضد قوي الاحتلال.

وقد وعدت هذا الأخ بأن أكتب تلك النقاط وأثير القضايا؛ لأننا بحاجة لرسم خريطة للعمل بدلاً من الدوران في حلقة من ردود الأفعال.

لي ملاحظتان إضافيتان مع اتفاقي مع هذه النقاط تماماً وحركتي بالفعل في تلك الملفات من الناحية الفكرية ومن الناحية المدنية، بل دعماً لتحالف عالمي يتشكل اليوم لملاحقة مجرمي الحرب الصهاينة.

الملاحظة الأولي أنه في خضم هذا الكلام عن المعبر وفتحه وإغلاقه ومصر وحساباتها نسي الغالبية من المحللين المصريين الذين أدمنوا الكلام علي الفضائيات وتدبيج المقالات أن نصيب مصر من حرب إبادة الـ22 يوماً لم يكن شئون وشجون معبر رفح، بل رفح كلها، بل الحدود المصرية التي ضربت، بل سقطت قذائف بالقرب من تجمعات سكنية في رفح المصرية لم تنفجر وتم التعامل معها كما ذكرت «الأهرام». متي نتحدث عن الحدود المصرية وسيناء وما هو مسكوت عنه وما نحن ممنوعون من أن نفتح فمنا بشأنه؟!

الملاحظة الثانية هي أن تلك البيانات والفتاوي التي صدرت عن مئات من العلماء بشأن الجهاد ودور الأنظمة لم نشهد لها مثيلاً في جمعها بين أسماء علماء إخوان وسلفيين وأزهريين ووهابيين، جمعهم الشيخ البعيد الذي «سره باتع» كما يقول المثل الشعبي، لكن لم يجمعهم الهم القريب وهو الفساد السياسي والظلم الاجتماعي الطبقي وجمعتهم «النفرة» من أجل غزة..

تري هل هناك أي صلة بين سقوط فلسطين وتراجع العقل المسلم في تعامله مع قضايا الحريات المدنية والسياسية والعدالة الاجتماعية بالمعني الواسع من قضايا المرأة والأسرة إلي الوحدة الوطنية إلي التجانس الثقافي.

ختاماً.. هل لاحظتم أن الجميع صاروا اليوم يتحدثون عن غزة والضفة وكأن هذه هي «القضية»، فماذا عن القدس.. وفلسطين؟!

ف ل س ط ي ن.

"سارة".. عبقرية الشك




د.أيمن محمد الجندى

مصقولة ندية، كالثمرة الناضجة في شعاع الفجر، وكالشيطان! فتنة ماثلة أمام عينيه، جميلة جمالا لا يختلط بملامح النساء، لونها الشهد المصفى يأخذ من محاسن الألوان مسحة واحدة، عيناها نجلاوان، تخفيان الأسرار ولا تكتمان الرغبات، فيها خطفة الصقر ودعة الحمامة، ولها فم الطفل الرضيع، وذقن كطرف الكمثرى الصغيرة، وبضاضة جسم هو الفتنة مجسدة.. حزمة من أعصاب تسمى امرأة، استغرقتها الأنوثة فلعلها أنثى ونصف! ولو تفرقت بين أجسام شتى لطغت الأنوثة على جميع الأجسام، شغلتها جواذب الجسد، وعاشت تنظر إلى الخطايا نظرة المرأة الوثنية قبل الأنبياء، عن نزعة طبيعية فيها، كالطفل يأكل الحلوى خلسة إن لم يأكلها جهرة، ولا لوم عليه في الحالتين، وإنما اللوم على من منعوه.

سارة التي أحبها العقاد، امرأة ليست كسائر النساء، لها آلاف الوجوه والملامح؛ طفلة لاهية وامرأة ماكرة أفنت عمرها في كيد النساء، وعقل أوتي عقول الفلاسفة، وأم تفيض بحنان الأمهات!.. شريدة بوهيمية، خاشعة في محراب الصلاة.. مرحة، كسيرة، فطرية أو عصرية، وفي كل أحوالها الأنثى السرمدية، لا يهمها من رجلها غير الحماية والأمان.

سارة!! كم لك من وجوه يا سارة!!.

مكالمة.. فمجاملة.. فلقاء

كان لقاؤهما الأول في بيت خائطة فرنسية في صباح هادئ من ضحوات الخريف، كانت الشمس تبتهج في هدوء، والهواء يرقص في حنين، ويرق الجو في ارتقاب، وتطرح النفس أعباءها كما تطرح القافلة أحمالها عند الواحات، التقاها العقاد ولم يكن يعرف أنه الحب الكبير..

تم التعارف بالأسماء، ثم مضت وكأنه لم يترك أثرا في نفسها، لذلك فوجئ حينما حادثته هاتفيا: من مجاملة إلى ملاطفة إلى تحية إلى اللقاء الأول.

شعر أنه مخلوق جديد، وإلا فلماذا تمر الساعات خاطفة، وكأن الشمس في سباق؟ وسيارات الأجرة التي يستقلانها لا ريب أنها سيارات سباق! خف كل شيء في الدنيا حتى قانون الجاذبية، وطفقا يتحدثان عن الموت بنفس الخفة التي يتحدثان بها عن الحياة، أحب أن يعرف مدى العلاقة التي ستجمعه بتلك المرأة الجالسة أمامه، فاستدرجها للحديث فحكت كل شيء، من قصة طفولتها إلى زواجها الفاشل، شعر وقتها أنها طفلة بائسة فقدت رحمة الأمومة، ثم أخطأت حظها من الزواج، لم تعذر الدنيا ولم يعذرها أحد.

في لقائه الثاني أدرك أنها فتاته بلا مراء، وأوجس –في نفس الوقت– خيفة مما يلي الغرام حتما من نكبات، بهرته بأشياء غير مفتعلة لم يعهدها من قبل في النساء؛ تحري الدقة في مواعيدها، المرح بغير تكلف، الزينة التي لا تظهر ولا تختفي، ربة بيت هي أول خادمة فيه، وامرأة تستطيع أن تكون إنسانا فلا تستغرق الأنوثة كل وظائفها.

لكن المرأة التي منحته السعادة كلها، سقته الشقاء مقطرا، لم يعصمه عقله الكبير ولا طبعه الجاد من الوقوع في حبالها، وبرغم مقاومته الصادقة فإنها نفذت من مسامه كالهواء، كالمعدن اللطيف. أفلحت في الاستيلاء عليه بغير مدافع أسطول ولا فرق مشاة، وكأنها الطيارة المحلقة، نزواتها القوة الدافعة في الفضاء، وثنية في مقاييس الأخلاق، شديدة الإيمان بضعف الإنسان مع أضعف المغريات، ما نفرت من مذمة عن مبدأ وعقيدة، بل كما ينفر المرء من طعام يعافه، مسألة ذوق ورغبات لا شرف واعتقاد.

كل هذا كان يعرفه عنها، لم يخدع نفسه قط، ولا استطاعت هي أن تخدعه، المشكلة أنه أحبها كما لم يحب في حياته من قبل، هي الحلم والواقع، والجمال والخيال، السعادة التي لم يذق مثلها، نسمة منعشة في الظهيرة، ونجدة الأمان بعد خوف طويل. يلتقيان فينقسم العالم إلى قسمين؛ قسم فيه كل شيء، وقسم ليس فيه شيء، قسم ذاخر وهاج، وآخر مهجور كخرائط الأطفال.

أيام!! ثم جاءت من بعدها أيام.

نار الشك

كانت سارة كتابا مفتوحا قرأه مرارا، ولم تحاول أن تكتم عنه شيئا، اعترفت له بعلاقتين سابقتين، الأولى طويلة متينة، والثانية سريعة هوجاء.. أخبرته بحيلها البارعة وردودها الصالحة لكل موقف، واسترسلت في التفصيلات كأنها تفرغ قلبها بين يدي كاهن، حمد لها وقتها صراحتها ولكنه لم يسلم من الاحتراس منها والتوجس عليها منذ تلك الساعة، ولم يزل على علم أنه لا يأوي إلى حصن حصين.

كان أدرى الناس بها؛ الوعظ لا يستحق عندها إلا الضحك والاستهزاء، ويكبر الناس عندها بقدر ما يخالفون ما يرفعونه من شعارات! تتذوق الكلام وتعطيه درجته العادلة من التأثر، ولا يبعد أن تبكي إذا كان فيه ما يحرك الشجن، لكنها لا تزيد عن ذلك، ولا تخلط بين التقدير والنتائج العملية!..

لم يكن مستعدا لخداع نفسه، ولكنه كان حزينا وآسفا، ولطالما تمنى أن يراها بعين الفخر والإعجاب، هو الرجل الوحيد الذي يرى لها كرامة غير كرامة جسدها، ويحب أن يعرف لها قيمة أكبر من هذه القيمة.

فلما ساورته شبهات الشك فيها توالت أمامه الدلائل من فلتات اللسان، وشوارد الخواطر، وعلامات الزينة والملابس، قرائن هي أصدق عنده من كل شهود، عذاب جهنمي مزق لحمه وأعصابه، كان يحبها حقا، ولم يكن يتصور أن يستغرق في حبها ويسمح لها أن تصل غيره من الرجال. شكوك لا تغسل مرارتها كل أنهار الأرض.. أن تشك ثم لا تصل إلى الحقيقة، ولا تكف عن الشك، ولا تستقر عليه، سجن ينطبق، وأحيانا ينفرج كالهرة اللئيمة، ثم يعاود الانطباق.

هل تخلص له؟ هل تخونه؟ كالمشدود بين حبلين متساويين في القوة والمقدار. يتساوى جانب الاتهام وجانب البراءة؛ فلا تنهض الحجة هنا حتى تنهض هناك، ضاعف من هذه الحالة ذكاؤها وطبيعة ذهنه الذي يخلق الاحتمالات الكثيرة.

ألم لا نظير له بين آلام النفوس، أقرب ما يكون لحيرة الأب المستريب في وليده المنسوب إليه؛ هل هو ابنه أم ابن غيره؟ رمز الحب والوفاء، أم رمز الخيانة والاستغفال؟.. مخدوع في عطفه عليه، أم مخدوع في النفور منه؟

وتمنى وقتها لو كان حبه لها أقل، وماضيه معها أقصر، وشرطه عليها أقرب، إذن لاكتفى منها بما تعطيه؛ لكنه كان يعرف الحقيقة.. الرجل الذي يهب المرأة ساعة من يومه يكتفي منها بساعة، أما حين يهبها أيامه ولياليه، وينسج حولها حاضره وماضيه، ويحجب بيده المستقبل كأنه يطمع في غرام بلا فراق، يستحيل أن يقبل بغير الإخلاص التام، والغيرة حية سامة، والابن إما أن يكون ابنا أو غير ابن، والتحفة النفيسة صحيحة أو زائفة، لا توسط في هذه الأمور.

وهذه المرأة -التي لا امرأة غيرها– إما تحفة نفيسة لا تعادلها كنوز الأرض، أو زائفة لو باعها بدرهم ما كان بخاسر! كل شيء أو لا شيء، لن يبيعها إلا بدرهم، فإذا كانت الأخرى فلا شراء ولا بيع!.. المهم أن يعرف هذا الفارق المهول بين ما يباع بدرهم، وما لا يباع بكنوز الأرض!.

لا يوجد أمامه سوى أن يراقبها !!!.

أمين على الصداقة

أذكر أن الكاتب الكبير أحمد بهجت استهول أن يلجأ رجل في مكانة العقاد إلى مثل هذا الأسلوب، كتب ذلك في جريدة الأهرام منذ سنوات، وصححه له القراء وطالبوه بالعودة إلى الرواية، فاعترف بعدها بأيام بحدوث ذلك، وبدا محرجا مع مقام المفكر الكبير، وعزاه إلى ضعفه البشري الذي لا يخلو منه إنسان.

هل أخطأ العقاد حين طلب من صديقه "أمين" مراقبتها؟ سؤال لا أعرف إجابته، لكن المهم أنه فعل، "أمين" صديقه الذي يؤمن بالواجبات الشعرية أشد من إيمانه بجميع الواجبات الإنسانية، ويعتبر أن خيانة الصديق في العشق كخيانته في أقدس الحرمات، ذو أريحية ومروءة وصدق لسان، يتبعها في الغدوات والروحات، أمينا متربصا مثابرا في عمله.

دامت المراقبة شهورا حافلة بالنوادر والمفارقات، لكنها كانت تقيمه وتقعده، تساءل العقاد فيما بعد: ترى لو شهدنا حوادث الحياة دفعة واحدة هل تهون أم تصعب؟.. تشغلنا الحادثة شهورا فلا نفكر في غيرها، ثم تمضي الأيام فتصبح -عندنا لا عند غيرنا– تسلية نرويها وطرفة نحكيها. ترى هل يكون اجتماع الحوادث فاجعة تضاف إلى الفاجعة، أم بمثابة الشيء يلغي ما بعده؟ كما يذهب الحر بالبرد، والصيف بالشتاء!!.

وسواء هذا أو ذاك، يخطئ من يظن أن عبرة الأيام تعلمنا الاستخفاف بالحاضر كما نستخف بالماضي، وخير ما يتاح لأبناء الفناء أن يقلقوا ثم يضحكوا من هذا القلق.

مبكيات ومضحكات...!!

كان شعورا معقدا يصعب وصفه، يتمنى أن تكون مخلصة، ويتمنى أيضا أن يكتشف خيانتها فيستريح. لم يكن يخفى عليه أن فراقها يرادف عنده توديع الحياة، وإن خبت هذه العاطفة فهي جذوة الغرام الأخير.. من أين له بفتاة تخلفها في ذكائها ونضارتها؟ وإذا وجد الفتاة فمن أين له القلب الذي يخفق وقد استنفده في الغرام؟

متغلغلة في أنحاء النفس والجسد، كألفة المدمن للعقار المخدر، لو سماها حبا فهو صادق، ولو سماها بغضا فهو صادق، يتعاطى العقار وهو راغب فيه، ويتعاطاه وهو ساخط عليه، صعبة جدا مجابهة الحقيقة، وعر حقا طريق المكاشفة. تكلفك تغيير العادات، فيما النفس مولعة بالمراسم والشعائر، والطقوس والعادات.

راحة اليأس

وبعد مفارقات كثيرة، محزنة ومضحكة، انتهت المهمة وبطلت الرقابة واستراح الرقيب، كان أمين موفقا كل التوفيق في مهمته حين زوده بالحجة القاطعة التي يواجه بها غوايته ويجمح بها نكسات ضعفه، عاونته المصادفة حين تتبعها إلى مخدع مريب في بيت عرف اسم صاحبه، وعرف أيضا أنها تغشاه حينا بعد حين.

وكانت راحة اليأس.. لم يزد العقاد أن أغمض عينيه، وكأنه يتحاشى النظر إلى سبة شائنة، أو يتهيأ للنوم بعد سهر طويل، صافح صديقه، وهز يده هزة الشكر والرضا، الرضا بانقطاع الشكوك وتقليم مخالب العذاب، والقدرة على التفريط فيها بغير حسرة ولا ندم، حينما صارت امرأة من سائر النساء سقط عنها سحر الانفراد.

"هونت خطبك جدا، وخلته لن يهونا..
حمدا لكيدك حمدا، حمدا يفيض العيونا
بدلت بالنار بردا، وبالعذاب سكونا.
إني أمنت الفتونا، وأنت، ماذا أمنت؟
قد هنت، والله هنت........"

أشعار سوف يتركها لنا العقاد فيما بعد في تراثه الشعري، وتبقى قصص الحب العظيمة، لشخصيات إنسانية مميزة، رابطة للأخوة الإنسانية، وعلامة على الضعف البشري، يستوي فيه الكبار والصغار، والعظماء والبسطاء، والسادة والخدم، كلهم مجبولون على العشق، مفطورون على الانجذاب للجنس الآخر، بالقلب والروح والجسد، بالضحك والابتسام، واللوعة والفراق، قدرا مقدورا على أبناء الفناء.

العالمي والغربي في العدوان علي غزة

هيثم مناع
أعاد العدوان علي غزة بهمجيته، وتواطؤ أطراف غربية وعربية بشكل مباشر أو غير مباشر عبر موضوعه "الحرب علي الإرهاب"، وهي المقولة الأكثر خطرا علي الحريات والحقوق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أعاد الصراع بين اتجاه عالمي يعتبر الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي مرجعه الوحيد، واتجاه غربي مُسيطر عليه بشكل أو بآخر من مجموعات الضغط الصهيونية والمؤسسات الحكومية الغربية.
أبرز هذا العدوان من جديد الصراع بين فكرة إعلام موضوعي يسمع أكثر من صوت، وإعلام موجه يسيطر عليه صوت واحد. بين منظمات غربية النشأة دولية التكوين ومنظمات دولية التصور سواء كان تكوينها دولياً أو إقليمياً. بين الحديث عن السلام وحقوق الإنسان ومأسسة الدعم لعدوان عسكري مفضوح علي شعب مُحاصر، بالتأييد المباشر للمجرم أو بإعاقة جهود إدانة المعتدي. ذلك في تغييب جوهري لما كان في صلب نشأة حقوق الإنسان: واقعة أن المقاومة حق والعدوان جريمة.
مجموعات الضغط الموالية لإسرائيل تعمل بكل الوسائل: فهي تسعي للمشاركة والحضور في عدة مؤسسات لتفرمل العمل، تطالب بمقاطعة العديد من التجمعات بدعوي العداء للسامية أو التطرف الديني، تتحرك لاحتكار وسائل الإعلام والتهديد المباشر أو غير المباشر لكل من يتوجه لإسماع الصوت الفلسطيني أو الحقوقي. ومع اشتداد الحملة الشعبية والمدنية لنصرة الشعب الفلسطيني في غزة، جرت عدة تعديلات في أساليب العمل. فمثلا وفي الوقت الذي تتحدث فيه أكثر من 100 منظمة وكونفدرالية غير حكومية وأكثر من ستين نقابة محامين عن ضرورة تحرك المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أوكامبو من تلقاء نفسه، وبطلب من أطراف مصدقة علي ميثاق روما، يتم تحريك أكثر من صهيوني من الأوساط الحقوقية ليقول برفض هكذا مسيرة، ومن الأفضل الذهاب إلي جنيف والحديث أمام مجلس حقوق الإنسان أو الاكتفاء برسالة مفتوحة لتوفر الجهد! وكأن هذا يحُول دون ذاك أو يمنع تعدد المبادرات. لكن الصحافة تأخذ التصريح، فتسمي المنظمات المدنية التطوعية التي تتحرك ضد مجرمي حرب الدولة العبرية "منظمات موالية للفلسطينيين" وتشير لمن يتحرك بالحد الأدني بصفته يمثل منظمة حقوقية متزنة.
هذه المهزلة نفسها نجدها حين يوظف أكثر من صحفي صهيوني وسائل إعلام تابعة للدولة (يدفع المواطن في أوروبا ضريبة الإعلام من مرتبه) بحيث تغدو الإذاعة الفرنسية في خدمة الجيش الإسرائيلي، عبر ما فعله إيفان ليفاي علي راديو "فرانس إنتر" (ثلاثة أيام تضامن مع إسرائيل) أو يفعله فنكلكراوت علي راديو "فرنسا الثقافة" كل يوم سبت. والأنكد، اللجوء إلي ما يسمي بالإضراب السلبي. فحين يزداد القصف علي غزة نجد أكثر من موظف صهيوني في مؤسسة حقوقية يصاب بالمرض لإعاقة بيان أو تحرك، أو يترك العمل لأسباب طارئة. وقد وصلتني شكاوي من عدد من الذين حاولوا إيصال رسالة لمنظمات حقوقية غربية، واعتذرت هذه حتي عن تسلم رسائلهم طالبة إرسالها بالبريد(!). لا يتسع المجال هنا لتعداد مختلف وسائل التحايل والتوظيف والاستعمال من أجل حماية الدولة العبرية. ومع ذلك عندما لا ينجح كل هذا يخرجون آخر سلاح سحري بوجه المطالبين بتحرك تضامني: "ما تقومون به يعزز العداء للسامية في أوروبا"!
لن أنسي في حياتي معركة خضناها كمجموعة من المناضلين الأمميين (ضمت الأمريكي جيمس بول وإرسكين شايلدرز والفرنسي رولان فيل مع أفارقة وأمريكيين لاتينيين)، ضمن نطاق إصلاح ودمقرطة الأمم المتحدة منذ نهاية حرب الخليج الثانية، حول ضرورة توسيع صلاحيات الجمعية العامة، وإلغاء تقليد أصبح يسمي "حق الفيتو" هو ليس بحق في أي مؤسسة تعتبر من وظائفها دمقرطة المؤسسات. وكنت قد طالبتُ في الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان بأن يحتوي بيان الذكري الخمسين للأمم المتحدة هذا المطلب. لكن يومها أعادوني للمأثورة المتداولة "الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا" التي لها في أوساط حقوق الإنسان مدافعون. فقد استنفر أبناء الشمال كلهم باستثناء شخص واحد يحق له التصويت (البريطاني مايكل إيلمان) دفاعا عن حق الفيتو للدول الدائمة العضوية. وتحرك ممثل اللوبي الصهيوني يهمس في أذن هذا ويتمتم لذاك عن خطورة تبني قضية كهذه. وبكل أسف تم التصويت في منظمة لحقوق الإنسان ضد التعرض لحق الفيتو.
نلاحظ أنه يوجد في كل منظمات حقوق الإنسان التي يمسك بمفاصل المسئولية الفعلية فيها عناصر من اللوبي الموالي لإسرائيل، تحفظات أساسية تُذكرنا بالتحفظات البريطانية الأربعة: عدم السماح لأي حملة تمس الدولة العبرية بتجاوز خطوط حمراء، مثل اعتبار الإسرائيلي والفلسطيني في نفس الدرجة كضحية ولكن ليس كطرف سياسي، توزيع المسئولية بين الضحية والجلاد، عدم تقديم مكافأة لفلسطيني دون وضع إسرائيلي بجواره، سد الطريق علي أي تحرك يطالب برفع المنظمات الفلسطينية من قائمة الإرهاب (للعلم هذه النقطة موجودة قبل ولادة حماس وقبل 11 سبتمبر وعانينا منها عندما طالبنا بالتعامل بشكل طبيعي مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي أسسها الدكتور العلماني واليساري جورج حبش وهو من أسرة مسيحية)، تحجيم الوجود الفلسطيني ما أمكن في المنظمات الدولية (وقد نجحنا في كسر هذه السياسة بفرض انتساب المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان كعضو كامل العضوية في الفيدرالية الدولية مثلا بعد شهرين من تأسيسه وكانت سابقة)، تسليم منطقة الشرق الأوسط لصهيوني أو مسئول تحت السيطرة، وتشويه سمعة كل من يحاول إعطاء الانتهاكات المرتكبة من الدولة العبرية بحق الفلسطينيين والعرب حقها، رفض أي عقوبة بحق الدولة العبرية، فمثلا عندما نطالب بإلغاء الاتفاقية الأوروبية الإسرائيلية الموقعة في 8 ديسمبر 2009 يخرج علينا من يقول: نحن نطالب بعدم وضعها موضع التنفيذ إلا عند وقف إطلاق النار، وآخر يقول لا تعزلوا إسرائيل فالاتفاقية مُفيدة للضغط عليها. ثم تخرج الصحافة بالقول "توجد خلافات عميقة بين راديكاليين يطالبون بإلغاء الاتفاقية أمام المحكمة الأوروبية الابتدائية، وأصوات معتدلة ومتعقلة تتحدث عن تأخير تنفيذها لحين وقف إطلاق النار" (كذا). طبعا، بعد نجاح الإعلام الغربي في شيطنة حماس منذ وصولها إلي السلطة في انتخابات ديمقراطية، أصبح من المعتاد اتهام كل من يدافع عن علاقات طبيعية مع الحكومة الفلسطينية، بما في ذلك حكومة الوحدة الفلسطينية، بالتعامل مع منظمة إرهابية. بل جري التعرض، في منظمة تدعي بأنها للعمل الإنساني الخيري، بالنقد لمن ينسق مع وزير الصحة الفلسطيني في غزة باسم نعيم، لأنه "يطبع مع منظمة إرهابية"!
رغم أن منظمات الجنوب تشكل اليوم الأغلبية الكاسحة في كل ما يسمي بالاتحادات والتجمعات الدولية لحقوق الإنسان، فهي ما زالت للأسف مشتتة الأصوات ومخترقة من عرب الخدمات ومتأثرة بالمكاسب السريعة كمنصب هنا أو مساعدة مالية هناك. لذلك نجدها غير قادرة علي إسماع صوت يعبر عن موقف عالمي يشبه ما يتخذ من مواقف عندما يتعلق الأمر برواندا أو كمبوديا أو روسيا مثلا. وما زالت التنظيمات العربية المنخرطة في هذه التجمعات غير قادرة علي تحديد استراتيجية عمل أممية واضحة، تنطلق من مبادئ حقوق الإنسان ومن معرفتها الدقيقة بالمأساة الفلسطينية والجرائم الإسرائيلية. لذا، لن نسمع صوت التجمعات الدولية في الأزمات الفعلية وسنجدها تُستنفر لاعتقال مواطن إيراني أكثر مما تتحرك لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في فلسطين <

حروب غزة التي بدأت ::

د. أحمد عبد الله
سكتت المدافع.. وتوقف قصف الطائرات.. وعاد الجنود إلى ثكناتهم.. وانفض المولد.
شكرا.. عودوا إلى بيوتكم.. مأجورين, تحفكم الملائكة.

لا.. أين تذهبون؟.. ليس بعد.. الحرب لم تنته بعد.. بل هذه الجولة لم تنته بعد.
غزة.. ما تزال محتلة.
غزة.. ما تزال محاصرة.
غزه.. ما زالت طائرات العدو تحلق في سمائها.
غزة.. ما زالت سفن العدو تحاصر بحرها.
غزة.. ما زالت دبابات العدو تربض في أطرافها.
غزة.. لم تلملم جراحها بعد.

نعم.. صمد أهل غزة، وصمدت المقاومة الباسلة بشكل أسطوري مذهل.. وسكت هدير المدافع وقصف الطائرات مؤقتا.. ولكن القصف السياسي ما زال على أشده.. والحرب النفسية زادت، والمؤامرات السياسية صارت أكثر عمقا وقسوة!!

مازال العدو وحلفاؤه وأتباعه يحاولون أن يحصلوا بالسياسة على ما لم يستطيعوا أن يحصلوا عليه بالحرب: الأراجيف والأبواق والأفكار المسمومة، والغثاء والتفاهة، والأكاذيب، وحرب التغطية على المذابح لتمر دون عقاب، والدعاية والإعلام والتلاعب بالعقول.. إنها معارك غزة التي لم تتوقف، بل زادت، وانفتحت فيها جبهات جديدة، لمن يرى ويسمع ويعي!!
إنها معارك غزة التي بدأت وستشتعل، ونحن عنها غافلون لأننا لا ندرك طبيعة المعركة، ولا فلسفة وأنواع القوة، ولا تعدد جبهات الصراع، ولا مرحلية التخطيط والكيد الصهيوني، رغم وضوحه !!.. كم نحن طيبون؟؟ أو سذج!!

عندما كانت قناة "الجزيره" تبث صور قصف غزة بالفوسفور الأبيض, خرج ملايين الناس في أنحاء العالم احتجاجا على العدوان وتضامنا مع أهل غزة، وتعددت أشكال الحراك الشعبي لدعم غزة، وللضغط على صناع القرار للتحرك ضد العدوان. وقد فاجأ حجم ذلك الحراك الشعبي أكثر الناس تفاؤلا، وفاجأ حتى بعض صناع القرار وجعلهم -ولو ظاهريا- يتحركون باتجاه بحث عن حل.

ومن جراء هذا الزخم انعقدت قمم وانطرحت مبادرات وصدرت تصريحات ووعود بمساعدات سخية للإعمار، لا نعرف -وربما نعرف- في أية جيوب ستستقر!!.. لكن.. توقف القصف الآن.. وتوقفت "الجزيرة" عن بث الصور. وبدأت الناس تعود إلى بيوتها راضية بما فعلت بعد أن فرغت بعض شحناتها النفسية.

هنا تكمن الخطورة؛ فعندما تخف الضغوط والجهود الشعبية, عندما ترتخي السواعد والجهود المبذولة لمحاصرة الصهاينة وفضحهم والسعي لعقابهم، وإدانتهم ومقاطعتهم من كل الأطراف التي رأت بشاعة ما حصل، فإن هذا يترك المجال للعدو وحلفائه وأتباعه في حرية الحركة وإحكام الطوق والحصار والبيئة الضاغطة على المقاومة لفرض الشروط المذلة عليها وانتزاع المكاسب السياسية التي لم يستطع تحصيلها في الحرب.
ويبدو أن العدو يراهن على ذلك.

وللأسف الشديد, يمكننا أيضا أن نقول أن الحراك الشعبي العربي الذي حدث, كان أضعف مما ينبغي، وأضعف مما هو مفترض أو متوقع، لكن لا بأس من المراجعة والتطوير.

وعند طرح هذه الإشكاليه, يكثر السؤال عن "ماذا نفعل؟", وغالبا ما يأتي هذا السؤال بشكل استنكاري على أساس أن لم يكن بالإمكان أفضل مما كان, وأن الأنظمة الحاكمة معها القرار وأدوات الفعل, وأنه لا طاقة لنا بجالوت وجنوده.

صحيح أن الأنظمة بيدها القرار وتمتلك أدوات, ولكن هذا جزء من الصورة، وهناك جوانب أخرى, نعم.. هناك مسارات للفعل الجاد المؤثر الفعال.. إنها فلسفة ونظرة مختلفة عما تربينا عليه وتعودنا على انتظار حدوثه من أعلى، رغم أنه لا يحصل أبدا!!

تعودنا على شكل معين للقوة وممارستها، وعلى أفعال محدودة ومحددة، وعلى تفكير بدائي فقير، تاركين الإبداع والابتكار والضغوط والتفكير الخلاق للوبي الصهيوني، ونحن لنا الحسرة والكمد!!
وأنا أطرح من سنوات طويلة أفكارا جديدة وطريقة تفكير مختلفة وطرقا للفعل ومسارا تراكميا يقوم من خلاله الأفراد والتجمعات الصغيرة والهيئات والمؤسسات والمنظمات والأحزاب بفعل يطور من الحالة القائمة، يعمل على تغيير موازيين القوى الآن، وغدا، ودائما خطوة خطوة.

في هذا المسار؛ يقوم الناس بمبادرات كثيرة تساهم في فتح الآفاق والأبواب المغلقة، وحشد الطاقات، وممارسة الضغوط بدأب.. المشكل أننا لم نتعلم هذا المسار، ولا نفهمه ولا نمارسه غالبا، رغم حسرتنا المتواصلة من أن اللوبي الصهيوني يضغط ويحاصر ويؤثر في كل بلد ومساحة!!
وهذه الجهود التي تتنوع وتتراكم لتنتج ليست طلسما ولا لغزا، ولا من يمارسونها أشباح أو متخصصون في السحر والتعاويذ، إنما هي فنون ومهارات ومعارف يمكن لأي إنسان إدراكها وتعلمها واستخدامها.

ودورنا كأفراد ومؤسسات شعبية هو القيام بمبادرات نوعية كثيرة في كل الأماكن المتاحه لتساهم في الدعم المادي والمعنوي لأهل غزة لتساهم في الضغط على العدو ومنعه من تحقيق أهدافه.
أدعوكم لعدم إلقاء السلاح، أو بالأحرى خوض معارك غزة في الأدمغة تصحيحا للمفاهيم، وتصديا للشائعات، وفي الإعلام فهما وانتقاءا ورفضا لما هو سلبي أو كاذب، وفي الفن والثقافة، كما في القانون الدولي الإنساني، ومساعدة الجرحى، ومواساة أهل غزة الصامدين، ودعمهم نفسيا.

إنها معارك الوعي والفعل والذاكرة، معارك الحوار مع أهلنا ذوي الوعي الزائف، والإيمان المخدر في النفوس، والدروشة.. قاتلها الله !!
إنها معارك المقاطعة لإسرائيل وأعوانها اقتصاديا وأكاديميا، ومعارك مواجهة البهتان الصهيوني واللوبي الصهيوني السافر في الخارج، والمستتر في الداخل!!
إنها معارك تدور في صدري وصدرك حين يكون التحدي المتجدد: أيةُ نعيش؟؟
وأية قضايا تشغلنا في أيامنا وليالينا!!
ما أفكارنا؟؟ همومنا؟؟ ترفيهنا؟؟ الكلمات التي نقولها لأولادنا والحكايات التي تحكيها الأمهات، إن كانت الأمهات ما زلن يحكين حكايات للأطفال أصلا!!
إنها أسئلة: ماذا نلبس؟؟ ماذا نأكل؟؟ ماذا نركب؟؟ هل نتعلم ونذاكر؟؟ كيف نستهلك؟؟ من نوالي ومن نعادي؟؟ من وما نحب، وماذا ومن نكره؟؟
معركة التواصل مع أنصار الحرية والإنسان في كل مكان على أرض الله، ونحن عن كتل بشرية وثقافية وحضارية ومتعاطفة معنا جد غافلين!!
(
أتذكرون شافيز؟؟ كم منا يعلم أين تقع فنزويلا؟؟ فضلا عن بوليفيا؟؟)
هذه هي معارك غزة يا سادة، معارك بحجم الحياة وكل مساحاتها، لمن أراد النصرة، أو شاء الخذلان!!

يكفي هذا اليوم، وأرجو لمن شاء المزيد من الفهم لطبيعة المرحلة الآن أن يتابع مدونة بأحاول أفهم، وقد أنهيت للتو قراءة مقال د.عزمي بشارة منه والمعنون: بيان وقف إطلاق النار .

يا الله.. كم نحتاج من الصبر والسلوان والعزم لنواصل الشعور والإحساس وبقية معالم وأعراض وملامح كوننا بشر!!
هل سننسى؟؟

موت الأنظمة.. وعجز الشعوب



أحمد منصور يكتب :

الحكام العرب أعلنوا مواقفهم دون خجل وهي أنهم مع الإسرائيليين والأمريكيين ضد الأمة ومصالحها

وهب الله سبحانه وتعالي نبيه سليمان عليه السلام مُلكاً لن يكون لأحد من بعده حتي يرث الله الأرض ومن عليها، فقد سخر الله له الطير والجان والريح وآتاه الملك والحكمة، فدان له الجميع بأمر ربهم، وكان وعلي رأسهم الجن يتسابقون لإرضاء سليمان عليه السلام طاعة له وخوفاً منه لأنهم يعلمون أنه ليس مجرد ملك أو حاكم ولكنه نبي من عند الله وأنهم مسخرون لطاعته بأمر من الله، وبالتالي فقد كان حق سليمان عليه السلام عليهم أن يهابوه ويعملوا بالليل والنهار ما يأمرهم به، «من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات» دون أن يجرؤ أي منهم علي أن يتثاقل أو يتباطأ أو يتمارض حتي لا يتعرض للتهديد الذي سبق وتعرض له الهدهد حينما تفقد سليمان الطير فلم يجده وقال قولته المشهورة «لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين» وكان هذا التهديد كفيلاً بأن يستقيم كل من يعمل في مملكة سليمان عليه السلام وعلي رأسهم الجن الذين هم أشد بطشاً وأكثر قوة وبأساً من الإنس، وسري علي سليمان عليه السلام ما يسري علي البشر فقد توفاه الله وهو علي كرسي عرشه متوكئ علي عصاه، لكن الجن كانت تعتقد أن سليمان حي وأنه كعادته متوكئ علي عصاه دون أن يدركوا أنه قد مات لذلك بقوا علي خوفهم منه ينفذون أوامره في العمل الشاق دون أن يجرؤ أي منهم علي التراخي فبطش سليمان أكبر من قوتهم فإذا رفع رأسه في أي لحظة وأدرك أن أيا منهم يتباطأ أو يتقاعس أو يتأخر عن تنفيذ ما أمر به فإن عذابه سيكون عذاباً أليماً.

لذلك استمروا في العذاب المهين ـ حسب الوصف القرآني ـ حتي أرسل الله حشرة صغيرة من الأرض لا ندري كم بقيت من الأيام والأسابيع وربما الأشهر والسنوات تمخر في عصا سليمان حتي نجحت بعد المدة التي قدرها الله أن تتآكل العصا ويسقط سليمان عليه السلام علي الأرض ويكتشف الجميع أنه قد توفي منذ مدة طويلة حينها صاح الجن صيحته التي سجلها القرآن لتكون عبرة علي مدار الزمان «فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين»

ولله المثل الأعلي في كل ما سبق لكننا لو حاولنا فقط أن نقف عند حد عصا سليمان عليه السلام ونقلنا المشهد إلي عصرنا الحالي لوجدنا الصورة فيها بعض التشابه مع الفارق، فمعظم الشعوب العربية أو كلها لابثة في العذاب المهين من قبل الأنظمة التي تحكمها حيث يبدو ظاهر هذه الأنظمة أنها تملك البطش والقوة والتهديد والوعيد لكل من يخالفها، لكن حقيقتها أنها غير ذلك تماماً، فهي أنظمة هشة ومتآكلة من داخلها، ولدت من رحم الاحتلال البريطاني والفرنسي والإيطالي والإسباني والأمريكي ولم تولد من رحم هذه الشعوب أو دماء هذه الأمة، لذلك فقد كانت ولادتها من رحم الاستعمار من الأصل ولادة ميتة لكن هذه الأنظمة الميتة بقيت تستمد مظاهر وجودها من اتكائها علي عصا الأنظمة الاستعمارية التي صنعتها، وإلا فما هو النظام العربي الذي جاء من خلال خيار شعبي أو انتخابات نزيهة أو ثورة شعبية أفرزت قياداته وقوانينه وأنظمته من كل تلك الأنظمة؟ علاوة علي ذلك فإن هناك خطأ كبيراً في الفهم من قبل معظم منتقدي الأنظمة العربية الذين يتحدثون علي شاشات التلفزة ووسائل الإعلام عن العجز العربي والتقاعس العربي والتواطؤ العربي، لأن هذا تسمية للأشياء بغير مسمياتها فالعجز والتقاعس يكون عن رغبة وإرادة مع وجود قوة، لكن الأنظمة الميتة أو التي تتكئ علي عصا الأستعمار الأمريكي أوالبريطاني أو الإسرائيلي أو غيره ليس لها وجود من الأساس حتي يكون لديها رغبة أو إرادة لأن وجودها في الحقيقة هو وجود من صنعها ومنحها العصا التي تتكئ عليها.

ولذلك يشعر الإنسان بالأسي حينما يجد بعض الواهمين حتي للأسف من الكبراء والعلماء والمفكرين يوجهون نداءات لحكام عرب أعلنوا مواقفهم صريحة علي شاشات التلفزة دون مواربة أو خجل وهي أنهم يقفون مع الإسرائيليين والأمريكيين ضد الأمة ومصالحها وأمنها وأبنائها لأن العصا التي يتكئون عليها هي عصا هؤلاء وليست عصا الشعوب العربية، ثم نجد من يسمون بالنخبة يظلون يوجهون نداءات لهؤلاء.

إذن نحن أمام مشهد يجب أن نراه علي حقيقته وليس علي الوهم الذي مازال يروج له البعض ويحاول الكثيرون أن يخادعوا به أنفسهم ولا يريدون تصديقه، نحن أمام شعوب عاجزة وأؤكد مقولة شعوب عاجزة لأن لديها القدرة لكن ليس لديها الرغبة في التضحية لاسترداد حريتها وإرادتها ضحت ضد الاستعمار لكنها لم تضح ضد صنيعة الاستعمار، أما الأنظمة فإنها أنظمة ميتة لأنها تستمد وجودها من اتكائها علي عصا أعداء الأمة.

وأيضا هذا المشهد الحقيقي لهذا الواقع الذي نعيشه والذي لا يراه علي حقيقته يكون إما أعمي وإما مخادعاً لنفسه وأمته، لذلك فإن النداء والصراخ والاستجداء من هؤلاء الموتي الذين يتكئون علي عصا أمريكا وإسرائيل أو غيرهما لن يجد أي صدي لأنه لا حياة لمن تنادي، ويبقي السؤال المهم هنا كم سيطول هذا الاتكاء علي تلك العصا وهذه الحياة الزائفة لتلك الأنظمة؟ وأيضا هذا العجز القائم لتلك الشعوب؟ ربما أياماً أو شهوراً أو سنوات أو عقوداً هذا في علم الله لأن الأمر متعلق بأمرين الأول هو دابة الأرض التي تمخر في تلك العصا التي تتكئ عليها هذه الأنظمة حتي تسقطها، والثاني هو تلك الشعوب التي تواطأت مع هؤلاء الحكام وسايرتهم طوال العقود الماضية حتي تكف عن تواطئها وتثوب إلي رشدها وتستعيد إرادتها وهوية أمتها.

إذن في ظل هذا العجز الشعبي والموت الرسمي فلينتظر الجميع دابة الأرض التي تمخر في عصا الاستعمار التي تتكئ عليها هذه الأنظمة حتي تنتهي من مهمتها وتسقطها، في نفس الوقت لننتظر يقظة تلك الشعوب النائمة الغافلة حتي تفيق من سباتها، ولكن متي تنتهي هذه الدابة من مهمتها وتفيق هذه الشعوب من سباتها؟ قل يعلم الله وأقداره ولن يتأتي هذا دون أن يسعي أصحاب الهمم الكبري في الأمة ليتحملوا مسئولياتهم وأن يتجهوا لبناء النفوس والعقول وأن يكفوا عن توجيه النداءات الفارغة للزعماء الأموات حينئذ يقولون متي هو؟ قل عسي أن يكون قريباً.

في انتظار أوباما

في انتظار أوباما
فهمى هويدى



هذه المبالغة من جانبنا في تعليق الآمال علي قدوم الرئيس الأمريكي الجديد «باراك أوباما» لا تفسير لها سوي أنها تعبير عن اليأس والعجز.. من حق الأمريكيين أن يحتفوا به وأن يروا فيه مُخلِّصا من وطأة السنوات العجاف التي خلَّفها له سلفه، لكنه بالنسبة لنا له فضيلة واحدة حتي الآن، هي أنه ليس جورج بوش. ولعلي أذهب إلي أن أحد أسباب الترحيب بالرئيس الأمريكي الجديد في العالم العربي أن الناس في بلادنا كرهوا السيد بوش إلي حد جعلهم مقتنعين بأن أي شخص آخر يأتي إلي البيت الأبيض سيكون أفضل منه.

صحيح أن الرئيس أوباما بعث إلينا في خطاب تنصيبه رسالة أراحت كثيرين منا، حين تذكر العالم الإسلامي، وقال إنه في تعامله معنا سوف يتبني خطاباً جديداً يرتكز علي المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل، وهو كلام طيب لا ريب، لكنه يظل كلاماً يُقدر ولا ينبغي أن نحكم عليه إلا بعد أن يُختبر.

لقد تلقيت أكثر من اتصال هاتفي من بعض الزملاء الصحفيين في أعقاب إذاعة كلمة الرئيس الأمريكي وطلبوا مني تعليقاً حول إشارته الإيجابية إلي العالم الإسلامي. ومن الأسئلة التي سمعتها أدركت أننا فهمنا الرسالة خطأ، وحملّناها بأكثر مما تحتمل. وكان تحليلي أن اليأس والإحباط تمكنا منا، بحيث أصبحنا ننتظر مُخلّصاً من خارج بلادنا، بعدما فقدنا الأمل في أن يأتينا الخلاص علي يد أحد من القائمين علي أمرنا. وإضافة إلي أن أوباما ليس بوش. فإنه حين عبّر عن احترامه لنا، يبدو أنه لمس وتراً حساساً ورفع من سقف توقعاتنا منه لأننا بالخبرة لاحظنا أن كلمة الاحترام لم تكن واردة في قاموس العلاقات العربية الأمريكية.

في كل حوار دار حول الموضوع كنت أركز علي النقاط التالية:

> إن الولايات المتحدة بلد كبير له مؤسساته القوية ومراكز الضغط المتعددة، وهي ليست مما تتغير سياساته بسهولة إذا ما تغير الرئيس.

> إن مشكلات الشرق الأوسط ليست من أولويات الرئيس الجديد، لكنه معني أولاً بالأزمة الاقتصادية في بلاده، وبانسحاب القوات الأمريكية من العراق.

> إن الانحياز إلي إسرائيل هو أحد ثوابت السياسة الأمريكية، في الأجل المنتظر علي الأقل. وهذا ما عبّر عنه صراحة بعض أعضاء فريقه للسياسة الخارجية الذين زاروا المنطقة قبل انتخابه، ومما قالته السيدة مادلين أولبرايت - وزيرة الخارجية الأسبق - التي كانت ضمن الفريق: انتظروا منه أي شيء إلا في الموضوع الإسرائيلي، بالتالي فلا تتوقعوا منه تغييراً في الموقف الأساسي «النوع» ولكنه قد يغير من الأسلوب والدرجة فقط.

> في هذه الحالة فإن أوباما سيقترب من ملف الشرق الأوسط بالقدر الذي تفرضه المصالح الإسرائيلية، الأمر الذي سيدفعه إلي الاهتمام بمعالجة الملف النووي الإيراني، الذي هو مطلب إسرائيلي بالأساس.

> إن أي رئيس أمريكي يظل في ولايته الأولي حريصاً علي كسب تأييد إسرائيل وأنصارها الأقوياء في الولايات المتحدة، لأن عينه ستظل مصوبة نحو أمله في الاستمرار للولاية الثانية.

> إن اختياره لوزير الدفاع السابق جيتس لينضم إلي إدارته وللسيدة هيلاري كلينتون للخارجية يعني أنه سلّم الملفين إلي شخصيتين قويتين لكي يركز اهتمامه علي الشأن الداخلي. وهو ما يعني أنه لن يكون هناك تغيير جوهري في السياسة الدفاعية وأن موقفه بخصوص الشرق الأوسط سيكون امتداداً للسياسة التي اتبعها الرئيس الأسبق كلينتون.

> إن كلامه الإيجابي عن العالم الإسلامي لن يعني سوي أنه قد يغير من الوسائل لكن الأهداف والاستراتيجية ستظل كما هي بغير تغيير.

> إن العالم العربي يمكن أن يشهد وضعاً أفضل في حالة واحدة، هي ما إذا استخدم عناصر قوته في الدفاع عن قضاياه ومصالحه العليا، لكن أغلب نظمه الآن تفضّل التجاوب مع السياسة الأمريكية علي التجاوب مع أشواق شعوبها، ونموذج غزة ماثل تحت أعيننا، فإذا كانت الدول العربية المؤثرة تنفذ بالضبط ما تريده الولايات المتحدة وإسرائيل فكيف يمكن أن نطالب الرئيس الأمريكي الجديد بتغيير سياسة بلده إزاءها؟!

أصل المشكلة: صفقة


الكاتب الكبير محمود عوض يكتب: أصل المشكلة: صفقة

لو كان المجتمع الدولى قد عاقب إسرائيل لارتكابها مذبحة قانا فى سنة 1996 لما جرأت على ارتكاب مذبحة جنين فى أبريل 2002، ولو كان قد عاقبها على مذبحة جنين لما جرأت على القيام بمجزرة رفح فى مايو 2004، ولو كان عاقبها على مجزرة رفح لما جرأت على مجزرة جباليا فى أكتوبر 2004، ولو كانت إسرائيل قد عوقبت بعد جباليا لما جرأت فى سياق حربها الأخيرة فى غزة على قصف مدرسة فى غزة ترفع علم الأمم المتحدة. ولو كانت قد عوقبت على قصف المدرسة لما جرأت بعدها بأيام على قصف المقر الرئيسى لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين التابعة للأمم المتحدة.. وبالضبط فى نفس اليوم الذى كان يقوم فيه السكرتير العام للأمم المتحدة بزيارة إسرائيل للتباحث مع قادتها مناشدا لهم قبول وقف إطلاق النار الصادر به قرار من مجلس الأمن، هذا بحد ذاته دفع رجب طيب أردوغان، رئيس وزراء تركيا، إلى التحدث بغضب قائلا:إن هذا القصف الإسرائيلى لمقر وكالة غوث وتشغيل اللاجئين هو تحد من إسرائيل للعالم، لايجب السكوت عنه. والحالات المحدودة التى اخترتها سابقا لمذابح ارتكبتها إسرائيل اخترتها لأنها جميعا موثقة بالصوت والصورة، ولأن العالم كله تابع ضحاياها من الأطفال والنساء والشيوخ. واخترتها أيضا لأن ما يجمع بينها كذلك هو احتشاد أمريكا فى كل مرة، داخل مجلس الأمن الدولى وخارجه، لمنع أى توجه لإدانة إسرائيل.

إسرائيل بحد ذاتها لاتنطلق فى العربدة والبلطجة والاستئساد لأنها شمشون الجبار، مع أن أمريكا تكفل لها بعض ذلك بكل السبل. هى تقوم بدور البلطجى فى المنطقة لأن أمريكا هى التى تصرح لها بذلك، بل وتشجعها على ذلك، وحينما ذهب وزراء خارجية سبع دول عربية إلى نيويورك فى الخامس من يناير 2008 لاستصدار قرار من مجلس الأمن الدولى بوقف حرب إسرائيل الجديدة ضد كل أهالى قطاع غزة وليس مجرد منظمة حماس، فإن كوندوليزا رايس وزيرة خارجية أمريكا استمرت تناورهم وترفض مشروعهم، بما فى ذلك النص على أن قطاع غزة جزء لا يتجزأ من الدولة الفلسطينية، بعدها تولى وزير خارجية فرنسا مناورة الوزراء العرب بالأصالة عن فرنسا وبالوكالة عن أمريكا، بعدها تطوع وزير خارجية بريطانيا، العضو الآخر فى الثلاثى، بتقديم مشروع متواضع من صياغته، وعند هذا الحد قالت الوزيرة الأمريكية للوزراء العرب إنهم لو قبلوا بالمشروع الذى صاغته بريطانيا فإنها تتعهد لهم بأن تصوت أمريكا لصالحه، فيصدر عن المجلس بالإجماع. وهكذا كان.. إلا مفاجأة صغيرة، فعند التصويت اختارت الوزيرة الأمريكية أن تسجل امتناع بلدها عن التصويت، بينما صوّت لصالح القرار باقى أعضاء المجلس الأربعة عشر، لم يكن العرب هم وحدهم الذين فوجئوا ولكن كل أعضاء مجلس الأمن، حيث هم أيضا قيل لهم إن أمريكا ستصوت لصالح القرار.

كان هذا سلوكا شاذا وغير مألوف بالمرة فى سياق الدبلوماسية الدولية بمجلس الأمن والأمم المتحدة، ولم نعرف السر إلا بعدها بأيام قليلة حينما نقلت صحيفة «ديلى ميل» البريطانية عن إيهود أولمرت رئيس وزراء إسرائيل تصريحات كان قد أدلى بها فى خطاب له قبلها بليلة، وقال فيها: «إنه أنب وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس بشدة لأنها كانت ترغب فى التصويت لصالح قرار وقف إطلاق النار الذى صدر عن مجلس الأمن، وأرغمها على التراجع والامتناع عن التصويت»، ونقلت الصحيفة عن أولمرت إن «رايس رغبت فى التصويت مع القرار لأسباب لا نعرفها».. مضيفا القول إنه علم بالأمر قبل عشر دقائق فقط من التصويت على القرار.. فأسرع إلى الاتصال بالرئيس جورج بوش الذى يعتبره أولمرت «صديقاً لإسرائيل لا مثيل له»، وحينما قيل لأولمرت إن الرئيس بوش موجود فى فيلادلفيا لإلقاء خطاب مقرر له هناك قال أولمرت للمسئولين فى البيت الأبيض الذين تحدثوا معه «لا يهمنى ذلك، أريد أن أتحدث معه الآن»، وأضاف أولمرت فى روايته: «لقد أنزلوا بوش من منصة الخطابة وأدخلوه إلى غرفة جانبية وتحدثت إليه وقلت له: لا يمكنك التصويت لمصلحة هذا القرار» فرد عليه بوش «اسمعنى، أنا لا أدرى أى شىء عن هذا الموضوع، لم أر هذا القرار، ولست مطلعا على صيغته».. فرد أولمرت: «أنا مطلع عليه، لا يمكنك التصويت لصالح القرار».

ومضى رئيس وزراء إسرائيل فى روايته قائلا إن جورج بوش: «أمر وزيرة الخارجية فلم تصوّت لمصلحة القرار، الذى طبخته وصاغته ورتبته وناورت من أجله»، وأضاف: «هكذا انتهت رايس مهانة، وامتنعت عن التصويت على القرار الذى أعدته». بعد نشر تلك الرواية فى الصحيفة البريطانية، ونقلتها عنها صحف ووكالات أخرى، لم نسمع عن رد فعل من أمريكا إلا بصوتين، فوكالة رويترز نقلت فى 13/1/2009 عن الناطق باسم البيت الأبيض جوردون جوندرو قوله: «رأيت هذه التقارير الصحفية وهى غير دقيقة»، فلنتأمل الصياغة هنا: «غير دقيقة»، أما الناطق باسم وزارة الخارجية شون ماكروماك، فقد بدا محرجا أمام محاصرة الصحفيين له بأسئلتهم عن رواية رئيس وزراء إسرائيل فقال لهم بحدة: «أقواله تلك مائة بالمائة، تماما، وعلى الإطلاق.. غير صحيحة».

لم يكن رئيس حكومة إسرائيل، وشريان حياتها تستمده من أمريكا، ليجرؤ على اختراع تلك القصة بالكامل عن الرئيس الأمريكى ووزيرة خارجيته، بالطبع هو يوظفها سياسيا لمصلحته داخلياً، لكنه بالتأكيد لم يخترعها، ومن ناحية أخرى فإن تلك القصة لا تعنى بالمرة أن إسرائيل هى التى تحدد لأمريكا خياراتها السياسية فى المنطقة لأن هذا يجعلنا أمام مهزلة، وليس أمام علاقة بين قوة عظمى وطرف إقليمى توظفه هى لحسابها.

وإذا أردت هنا أن أجتهد فسأقول إن جرأة رئيس وزراء إسرائيل قد ترجع إلى أن حرب إسرائيل فى غزة، بقدر ما هى تخطيط إسرائيلى، هى بالأساس مهمة أمريكية، فتحويل قضية فلسطين من قضية أرض محتلة واستقلال وطنى إلى قضية لها طابع دينى، وبالذات إسلامى، هو بالتأكيد تطور يخدم مصلحة أمريكا وإسرائيل معا بعد أن روجت إدارة جورج بوش طوال سبع سنوات لفكرة «صدام الحضارات»، وبعد أن اختفى أيمن الظواهرى وأسامه بن لادن طويلا عادت تسجيلاتهما الصوتية تذاع فجأة من قناة الجزيرة للإيحاء ضمنيا بأن منظمة حماس فى فلسطين هى امتداد لتنظيم «القاعدة» فى أفغانستان، ولا ننسى هنا أن الانتخابات التى جرت فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، وضمنها قطاع غزة، فى 2006 كانت أساسا بإلحاح أمريكى تحت غطاء نشر الديمقراطية فى المنطقة، وفى حينها كانت كل الأطراف المعنية تعرف أن منظمة حماس ستفوز تأكيدا فى أى انتخابات.. ليس إيمانا بها بالضرورة، بقدر ماهو كفر بمنظمة فتح وفسادها الذى جعل السلطة الفلسطينية تصبح عمليا مافيا من المنتفعين والمرتزقة، وكل ذلك كان بتشجيع من إسرائيل وغطاء من اتفاق أوسلو.

أصل اتفاق أوسلو هذا فى سبتمبر 1993 كان صفقة سرية فاجأ بها ياسر عرفات وجماعته العالم كله، بما فيه مصر وكل الدول العربية، فى حينها كانت هناك مفاوضات معلنة منذ مؤتمر مدريد فى 1991 بين وفد إسرائيلى وآخر فلسطينى برئاسة حيدر عبد الشافى، وعضوية حنان عشراوى وفيصل الحسينى وآخرين، وكلهم اختارهم عرفات نفسه باعتبارهم من الأراضى المحتلة، وبتلك الصفة كانت لهم جذورهم الشعبية فى الضفة الغربية وقطاع غزة، كما أنهم خبروا أكثر من غيرهم أساليب إسرائيل وحيلها. تلك المفاوضات كانت تجرى جولة بعد جولة، بإصرار من ذلك الوفد الفلسطينى على عدم التنازل قيد أنملة عن الحد الأدنى المتفق عليه من الحقوق الفلسطينية.

فجأة عرف ذلك الوفد الفلسطينى، ومعه العالم كله، أن عرفات كان له وفد آخر يتفاوض سراً مع وفد إسرائيلى غير معلن، والمفاوضات كانت تجرى فى أوسلو عاصمة النرويج وبرعاية من حكومتها وإصرار من الطرفين إسرائيل وعرفات، على التكتم والسرية إلى أن يتم التوصل إلى اتفاق، وجاء الإعلان المفاجئ عن ذلك الاتفاق قنبلة مدوية، أما الصفقة التى جسدها الاتفاق فكانت مائة قنبلة مدوية لأنها أنذرت بدخول قضية فلسطين فى نفق من التنازلات الجوهرية غير القابلة للارتداد، وقبل أن يفيق العالم، وبالذات العالم العربى، لهول الصدمة فى قضية تحمّل جيلان على الأقل من مواطنيه عبأها وتضحياتها.. أعلن الرئيس الأمريكى بيل كلينتون عن احتفال ضخم فى البيت الأبيض يوقع فيه الاتفاق كل من إسحاق رابين رئيس وزراء إسرائيل وشيمون بيريز الوزير بحكومته.. وعن منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات ومحمود عباس، لقد احتشدت الآلة الأمريكية للترويج للاتفاق حول العالم باعتباره بشيرا بتسوية صراع ممتد لعقود بعد عقود.

فى الأيام الفاصلة بين الإعلان المفاجئ عن صفقة عرفات وعباس مع إسرائيل وبين يوم الاحتفال بالتوقيع عليها فى البيت الأبيض، جاء إلى القاهرة روبرت بيللترو، وكيل وزارة الخارجية الأمريكية لشئون الشرق الأوسط، فى مهمة استطلاعية بالمنطقة تبدأ بمصر وجوهرها قياس ردود الأفعال بالنسبة لصفقة أوسلو تلك. ووجدت نفسى مدعوا إلى الغداء مع بيللترو برفقة أربعة زملاء آخرين من الكتاب والمحللين. الغداء أساسه أن هذا المبعوث الأمريكى يرجو الاستماع إلى تقييم المدعوين نحن الخمسة فى جلسة لغير النشر.

يومها لم أجد مانعا من تلبية الدعوة لأن روبرت بيللترو كان قبلها سفيرا لبلاده فى مصر، وبتلك الصفة بدا أداؤه رصينا وإحاطته بالقضايا الجارية عميقة من خلال متابعتى لما ينشر عنه، والأهم من هذا كله هو حقيقة انتمائه للعمل الدبلوماسى بالاحتراف، وبالتالى فهو لم يصل إلى ما وصل إليه من مناصب لمجرد تبرعه بالأموال لصالح الحزب الحاكم على ما هى العادة فى أمريكا.

فى الغداء طرح روبرت بيللترو من جديد، وبحياد كامل وموضوعية، بنود اتفاق أوسلو، مقررا أنه اختارنا نحن الخمسة لمعرفته بخبرتنا بالقضية ومتابعتنا لتطوراتها، وهى معرفة استمدها أساسا من متابعاته طوال إقامته السابقة فى القاهرة كسفير لبلاده، وهو يأمل من هذه الجلسة الضيقة أن يكون تبادل الآراء صريحا وموضوعيا، ولغير النشر، كالتزام أدبى حسب العرف المهنى الذى نعرفه.

وكما هو المألوف غالبا فى كل نقاش لموضوع مهم، يتبلور النقاش فى النهاية عن اتجاهين بارزين ومختلفين، مع تأرجح أى أطراف أخرى بين هذا وذاك، وخلال الساعة الثانية وجدت نفسى أمثل أحد الاتجاهين، بينما فى الساعة الأولى أصبح أحد الزملاء وهو كاتب بارز ومهموم هو الآخر بالشأن العام مناصرا على طول الخط لصفقة أوسلو السرية تلك بين ياسر عرفات ومحمود عباس وجماعتهما فى منظمة فتح، وبين إسرائيل.

حرصت على الاستماع بكل تركيز إلى تقييم الزميل الكريم لاتفاق أوسلو وحججه فى تأييده وتوقعه المؤكد لنجاحه فى تسوية الصراع العربى الإسرائيلى نهائياً، ومن البداية يرى الزميل المتحدث أن تبنى أمريكا صفقة أوسلو بتلك السرعة وعلى مستوى البيت الأبيض هو توجه مماثل لتبنيها السريع فى سنة 1977 مبادرة أنور السادات، خصوصا أن مبادرة السادات اعتمدت أيضا على مفاوضات سرية مباشرة بين مندوب عن السادات ومندوب عن حكومة إسرائيل، وهى التى جرت فى المغرب تحت رعاية الملك الحسن ولم يكشف عنها النقاب إلا بعد شهور من إعلان السادات مبادرته.

الزميل الكريم قال أيضا إن عودة القضية الفلسطينية إلى أصحابها يحرر ياسر عرفات من وصاية الدول العربية، ويوفر له حرية الحركة مع إسرائيل برعاية أمريكية، ويساعد الدول العربية الأخرى على الالتفات إلى همومها الداخلية، لكن لكى يتم ذلك يجب على أمريكا أن توفر لاتفاق أوسلو إمكانيات النجاح. فإذا كان تطبيق الاتفاق سيبدأ بقطاع غزة، فعلى أمريكا أن تعلن من البداية أنها تضمن إسرائيل فى أن تجعل قطاع غزة يصبح هو «سنغافورة الشرق الأوسط»، الإشارة هنا إلى سنغافورة باعتبارها صغيرة المساحة (639 كيلومتراً مربعاً) وقليلة السكان (أقل من أربعة ملايين) وعملتها الدولار السنغافورى وحجم اقتصادها تضاعف عدة مرات بعد أن نقلت شركات أمريكية كبرى بعض نشاطاتها الإنتاجية إليها، بما جعل نهضة سنغافورة الاقتصادية تقوم على التصنيع والخدمات. وأضاف الزميل المتحدث أن مهمة أمريكا وإسرائيل فى قطاع غزة ستكون أسهل لأن مساحته لا تتجاوز كثيرا نصف مساحة سنغافورة، وسكانه أقل قليلا من نصف سكان سنغافورة، بذلك تصبح مهمة تحويل قطاع غزة إلى نموذج للطفرة المالية الاقتصادية السريعة ممكنة فى سنوات محدودة، والنجاح فيها سيجعل قطاع غزة نموذجا مغريا ومتجددا أمام باقى الشعب الفلسطينى فى الضفة الغربية المحتلة فيتطلعون لسلوك نفس الطريق تاليا، بل وحتى مغريا بدرجة كافية لدول عربية أخرى للدخول فى علاقات مماثلة مع إسرائيل وأمريكا.

كان المبعوث الأمريكى روبرت بيللترو يتابع الحديث المتدفق من زميلنا الكريم بكل اهتمام، والزملاء الثلاثة الآخرون انتقل إليهم الحماس من تدفق الزميل المتحدث بحججه وتنظيراته المتتابعة، بينما المستشار الإعلامى الأمريكى الذى يجرى الغداء بمنزله يسجل بين وقت وآخر ملاحظات ما فى ورقة صغيرة أمامه. ومن ناحيتى كنت أنا الآخر مستغرقا فى الاستماع بعد أن اختار زملاء ثلاثة التعبير عن رؤيتهم باقتضاب مفسحين المجال للزميل صاحب التنظير المتدفق، وقد بدا كأنه قضى العمر كله فى استذكار اتفاق أوسلو.. حتى من قبل أن يتم الإعلان المفاجئ عن صفقته السرية، وكان يبدو جادا أكثر وأكثر فى قوله الختامى للمبعوث الأمريكى روبرت بيللترو: إن كل ما أدعو إليه هو أن ترفعوا أنتم كأمريكا فكرة تلحون بها إعلاميا، وهى أن هذا الاتفاق سيحول قطاع غزة سريعا إلى أن يصبح نسخة عربية من سنغافورة ماليا واقتصاديا، فتجذب لتقليدها باقى الدول العربية، وقتها ستشهدون إلى أى حد سيحظى الاتفاق بدعم شعبى، ليس فقط فى قطاع غزة وإنما فى العالم العربى كله، الحكاية كلها كذا مائة مليون دولار تكفل لكم أن يخرج الفلسطينيون من حالة الصراع ضد إسرائيل إلى حالة التعاون معها.

حاولت فقط أن أعبر عن اختلافى الكامل والجذرى مع كل الرؤية التى طرحها الزميل الكريم، ولكن باقتضاب متعللا بالوقت. إنما السيد/ بيللترو كان حريصا على رؤية تفصيلية أرى بها آفاق اتفاق أوسلو هذا. حسنا. قلت إن هذا الاتفاق يقلب جذريا كل أسس القضية الفلسطينية. فبدل أن يأخذ بأسس التسوية وجوهرها انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضى المحتلة وعودة اللاجئين الفلسطينيين طبقا لقرارات سابقة باسم الشرعية الدولية، يؤجل الاتفاق أى حديث عن التسوية ويستبدله بالانشغال بفتافيت تستهلك الوقت والجهد، وبعد أن يعزل الاتفاق القضية الفلسطينية عن محيطها العربى الذى ساندها وضحى من أجلها، فإنه يعزل قطاع غزة عن الضفة الغربية ليمضى كل من طريق.. علما بأننا نعرف جميعا من البداية أن أطماع إسرائيل هى فى الضفة الغربية أساسا. وهذا الاتفاق يسحب القضية الفلسطينية لتنفصل بعيدا عن الشرعية الدولية وقراراتها السابقة ويستبدلها بمفاوضات مباشرة بين طرفين لا يوجد أى توازن للقوى بينهما.

بعدها يسحب الاتفاق القضية أيضا عن الدعم العربى بحجة أن الفلسطينيين هم أصحاب الشأن فى تقرير مستقبلهم، وواقع الاتفاق ينقل السلطة الفلسطينية البازغة لتصبح تحت وصاية إسرائيل ورقابتها بالكامل وهى التى تمنحها أو تحجب عنها شهادات حسن السير والسلوك فى كل مرة، هذا نذير سيئ يعنى إدخال القضية الفلسطينية فى سجن جديد فوق سجن الاحتلال، فإذا كان يجرى تمرير ذلك الاتفاق تحت عنوان التحرك نحو السلام، فإننى أجزم بأننا بعد هذا الاتفاق /الصفقة سنصبح أبعد عن السلام من أى وقت مضى و.. و.. و..
فى انصراف كل منا إلى سيارته جاءنى الزميل الكريم صاحب رؤية «سنغافورة الشرق الأوسط» وقال لى بعد تردد: تصدق إنك عبرت عن كل ما كنت أحب أن أقوله؟
أخذتنى كلماته بالمفاجأة الكاملة فقلت له مستغربا: يا رجل حرام عليك.. كيف هذا وما قلته أنا عكس رؤيتك على طول الخط..؟
قال لى بشىء من التردد: أصل بينى وبينك.. أنا قلت لنفسى إنه ربما الأفضل أن أقول لهذا المبعوث الأمريكى ما يود هو أن يسمعه، بدل أن أفاجئه بما يغضبه.. لكننى فوجئت به يستمع للحجة وعكسها بروح رياضية!.

هذا إذن هو المغزى من تجربة ذاتية أتذكرها كثيراً، خصوصا أن خسائرنا تضاعفت من كل أولئك الذين يقولون لأمريكا ما تود هى أن تسمعه بدلا عن مصارحتها بالحقيقة المجردة، خصوصا أن قضايانا نحن هى التى توجد على المحك، وحتى لو كانت أمريكا ستغضب.. إذن لتغضب. هذا أفضل من أن نفرط اليوم لكى نعانى من العواقب غدا، لقد تحول اتفاق أوسلو فى أرض الواقع إلى مصائب لا حدود لها، مصائب تجاوزت حتى ما كنت أخشى من حدوثه وعبرت عنه فى مقالاتى المنتظمة بجريدة «الحياة» وفى تعليقات عديدة بإذاعة مونت كارلو وحوارات مع إذاعة «بى. بى. سى».

ومنذ ذلك الاتفاق فى 1993 اصطنعت إسرائيل لافتة مضيئة اسمها السلطة الوطنية الفلسطينية ومن تحتها حولت الواقع الفلسطينى إلى جحيم، والفريق الواحد صاحب القضية تحول إلى قبائل تتصارع فيما بينها على فتافيت، أما إسرائيل التى تحتل الأرض فلم تعد تدهش أحداً بمذابحها المروعة ضد الشعب الفلسطينى تحت الاحتلال، وبعد حماية أمريكا لها ولكل جرائمها لم يلتفت أحد إلى صورة رئيس البرازيل معبراً عن غضبه يوم السبت 17 يناير قائلاً: إن استمرار أمريكا فى احتكار قضية السلام فى الشرق الأوسط أصبح جريمة ضد البشرية.
المستشار طارق البشري يكتب هذه إمارة شرم الشيخ.. فأين دولة مصر؟
لكي نفهم ما يجري في بلدنا وما تنتهجه السياسة الرسمية لدينا، علينا أن نستحضر نص خطاب ذكره السيد رئيس
الجمهورية فيما ذكر، أمام الهيئة البرلمانية للحزب الوطني الديمقراطي، وهو الحزب الحاكم لأكثر من ثلاثين سنة مضت، وذلك بمناسبة بدء الدورة البرلمانية لمجلسي الشعب والشوري في سنة 2003 - 2004.

جاء هذا الخطاب في 11 نوفمبر سنة 2003 وأذاعه السيد صفوت الشريف الامين العام للحزب بصحيفة الأهرام في 12 نوفمبر في الصفحتين الأولي والثالثة.

تحدث رئيس الجمهورية عن زيادة السكان في مصر ونبه إلي مخاطرها بقوله: «إننا لا نريد يوماً أن نصل إلي تلك الدول التي لا تهتم سوي بنسبة 10% من سكانها، وتترك الآخرين في العشوائيات دون رعاية أو تعليم، نريد أن نحافظ علي مقومات هذا البلد وزيادة مواردنا.. وكان من عناوين الصفحة الثالثة، «.. ولا نريد
الوصول إلي مستوي دول لا تهتم سوي بنسبة 10% من سكانها وتترك الآخرين في العشوائيات».


وهكذا، وضعت الحكومة ضمن بدائلها السياسية التي تطرحها أمام نفسها بوصفها القوامة علي شئون المجتمع ألا تهتم بأكثر من 10% من «سكان مصر» وتترك الباقي بغير رعاية، لأن «السكان» أنجبوا كثيرا، وكان مما يتلاءم مع هذا الأمر أن يشار إلي المصريين باعتبارهم «سكاناً»، لأن وصف المواطنة لن يعني في هذه السياسة إلا نسبة 10% فقط.

ونحن في الحقيقة لم يصل إلي معارفنا أن أي حكومة أعلنت لشعبها هكذا جهارا أنها لن تهتم إلا بنسبة 10% وأن تترك باقيهم «بغير رعاية»، ولكن هذا ما حدث وقد أعلن السكان المصريون بهذا الأمر علي صفحات الجرائد واسعة الانتشار وفي عناوين صدر الصفحات.

وبعد ذلك بقي «السكان» يتساءلون في دهشة عجيبة: لماذا تصنع الحكومة كذا ولا تصنع الحكومة كذا ولا تصنع كذا، ولماذا تتخذ هذه السياسة ولا تتخذ سياسة أخري متاحة وممكنة؟ وذلك دون أن يتفكروا في سؤال آخر، وهو هل هذا الصنيع أو هذه السياسة مما ينتج عن اختيار بديل الـ 10%، ومن ثم يتحول أمر 10% من بديل محتمل إلي اختيار تم وينفذ فعلاً، وإلي واقع يجري عملاً.

وعلينا أن نتأمل هذا التصور في التطبيق وفي واقع الحال الذي يدور حولنا، وذلك عندما
ننظر في التعليم مثلاً وكيف ترك التعليم العام الذي تديره الحكومة يتهدم ويستشري فيه فساد الدروس الخصوصية، وهو التعليم المعد للشعب المصري بطبقاته الوسطي، ثم ظهرت مدارس خاصة أجنبية لأبناء صفوة الصفوة في المجتمع بمصروفات بالغة الارتفاع لا يقدر عليها أبناء طبقة المهنيين الذين تتكون منهم أجهزة إدارة الدولة ولا فئات ذوي الدخل المحدود من أصحاب الرواتب والأجور والمهايا، وكذلك عندما ننظر في أمر التعليم الجامعي وتهدم أركان الجامعات المصرية ذات التاريخ والشموخ العلمي والرصانة الفكرية، ونشوء أكثر من ست عشرة جامعة أجنبية بمصروفاتها الباهظة، وكذلك الشأن في الصحة ونفقات العلاج، وكذلك عندما تنظر في أسلوب تعامل الحكومة مع حادث مثل غرق العبارة، فإن كل خسائر العبارة من أرواح إنما ينتمي لا إلي نسبة 10%، ولكن إلي غيرهم من السكان، فلم يكن ثمة اهتمام بالأمر يتناسب مع ما ظننا أنه يستأهله وكذلك الشأن بالنسبة لحادث صخرة الدويقة التي ردمت تحتها من أجساد البشر أفراداً وأسراً بكاملها مالم يعتن أحد حتي بإحصائهم، ثم مسألة الخبز نوعا وجودة وشحا ووجودا، وهل هو مما يناسب غذاء البشر أم يقف عند حدود علف البهائم، وهذا كله وغيره من تطبيقات «ترك الآخرين في العشوائيات دون رعاية»، لأن الحكومة يمكن أن تكتفي بنسبة 10% من السكان كما أعلنت.

لسنا في مجال متابعة التطور التاريخي للدولة المصرية وتصوراتها علي مدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين والعشر الأوائل من القرن الحالي، ولكن يمكن القول بإيجاز شديد إن وضع الدولة المصرية الآن وبعد تردد شديد وأخذ وجذب متتالتين علي مدي الثمانينيات والتسعينيات، حُسمت الأوضاع بداخلها لصالح هذا البديل، بديل الاكتفاء باهتمام الدولة بنسبة 10% من «السكان»، وذلك من نهايات سنة 1999 بالتعديل الوزاري الذي جري في أكتوبر 1999 وتعيين الدكتور عاطف عبيد رئيساً للوزراء، وهو كان مسيطراً علي قطاع الأعمال العام منذ 1991 عندما صدر القانون رقم 203 لسنة 1991، وسيطر علي أكثر من ثلاثمائة شركة إنتاج صناعي وزراعي وتجاري وسياحي وغيره، وأدت سياسته المنفذة غير المعلنة إلي ما أصاب هذا القطاع من توقف الأعمال وف
قد العمالة الماهرة والخروج من الأسواق وتراكم المديونيات وغير ذلك وكان تولي الوزارة منبئاً عن سيادة هذا الاتجاه السياسي في إدارة شئون البلاد توطئة للبيع وإكمال تفكيك الأبنية الإدارية للهيئات والمؤسسات والشركات وغيرها.

وجاء خطاب الهيئة البرلمانية سالف الذكر في 11 نوفمبر 2003 في ظل هذا الوضع الذي ساد وسيطر وحده في قمة الدولة، ثم تلاه بعد ثمانية أشهر تعديل وزاري رأس فيه الوزارة الدكتور أحمد نظيف في 10 يوليو سنة 2004 ومعه الطاقم الذي نشهده حالياً، والذي قام ويقوم بتنفيذ هذه السياسة التي تبلورت علي مدي السنوات الأربع السابقة منذ 2000 وأعلنت في 2003.

وقد طرحت للتنفيذ الفعلي والسريع هذا المشروع، ومارست وتمارس ما أظنه مفاصلة تامة مع ما لا يقل عن نسبة 90% من «السكان»، أو بعبارة أدق أنها تمارس سياسة لا تفهم إلا علي أساس أنها تتبع هذه المفا
صلة، وطرحت ما سمته ببيع أصول مصر، من شركات ومصانع سبق توقيفها ومرافق سبق تعطيلها وأراض ومستشفيات وفنادق كان لحقها البوار، وذلك لتدخل الملكية العامة الثابتة بنسبة 90% من «السكان» في نطاق المال المملوك للجماعة السياسية الجديدة، جماعة نسبة 10% أو أقل حسبما قرر هذا الوضع الجديد.

وهكذا يجري الأمر، فرز وتجنيب ثم مفاصلة، ونحن لا نعرف حقيقة النسب، وهل هي 10% أو أقل؟ ومن يقدر علي إجراء الفرز يستطيع أن يحدد ما يريد وما يحتمل من نسب قد تكون أقل، ومن لم يخش من 90% لن يخشي أيضا من 95% من «السكان».

ولكننا هنا نقيد أنفسنا بما قيل عيانا جهارا بياناً نهاراً لندرك كيف يفكر المسئولون وبأي تصور سياسي يديرون الأمور؟

لقد كان من أهم العقبات التي تواجه تنفيذ هذا التصور هو التركيب العضوي لجهاز إدارة الدولة، المدني وال
خدمي والاقتصادي والعسكري والأمني، لأن جهاز إدارة الدولة في مصر إنما يتكون من عينة مصرية لا تميز أهل إقليم علي آخر ولا أهل طائفة علي أخري ولا أهل مذهب ولا أهل قبيلة أو أسرة، لما تتمتع به مصر من امتزاج شعبي نادر الحدوث في مجتمعات أخري كثيرة، وما يدعو للتساؤل هو كيف يجري الإعداد العضوي والثقافي والطبقي لجماعة محدودة تدير شأن هذه النسبة المتصورة للجماعة السياسية المصغرة المختارة نسبة الـ 10%، ولكي تنمحي النظرة الشاملة التي اعتادها العاملون بجهاز إدارة الدولة وتحل محلها نظرة محصورة لجماعة محصورة في هذا النطاق الضيق.

لقد جري ذلك عبر التسعينيات من القرن العشرين، وكنت أشرت إليه في كتابات سابقة، وذلك بتفكيك المجتمع وجهاز إدارة الدولة، فلم يعد أي مكون من مكونات المجتمع أو جهاز الدولة قادرا علي معارضة سلطات رئيس الدولة بوصفه فردا يتربع في أعلي السلطة، ولا قادرا علي الممانعة لأي سياسة تتخذ حتي إن كانت ضد هيئات الدولة ومؤسساتها ذاتها.


ذلك إنه أعيدت هيكلة نظم التوظيف في الدولة في بدايات التسعينيات بحيث صارت وكأن جميع القيادات في الدولة وظائف مؤقتة تمد سنة بسنة أو سنتين أو ثلاث بمثل مدتها، وسواء في ذلك الوظائف القيادية في أجهزة الدولة المعنية المتعلقة بالسيادة وبالخدمات، وأجهزتها في قطاع الأعمال الاقتصادي أو في الجيش أو في الشرطة، وأدي ذلك إلي أن تحول أي من هذه القيادات من ذوي مركز قانوني يكفل لهم قدرا من الضمانات في البقاء في عملهم وقدرا من الاستغلال في اتخاذ القرار وإبداء الرأي الفني والمهني، تحولوا من ذلك إلي مجرد تابعين لمن يعلونهم سواء وزيراً أو رئيس جمهورية، إن لم يأتمروا بالأوامر فسيسقطون كأوراق الشجر الذابلة بغير حاجة إلي فصل.

يضاف إلي ذلك أن أجر أي وظيفة كان يكفي صاحبها، كفالة لضرورياته هو وأسرته وفق المستوي الاجتماعي للشريحة الاجتماعية التي تحيط به، وكان لوظيفته ولأجره منها من الضمانات القانونية والقضائية ما يكفل تأمين العامل، ثم حدث أن زادت الأسعار علي مدي العقدين الماضيين بما يفوق زيادة الرواتب أضعافا مضاعفة، فلم يعد أي راتب يكفي صاحبه وأسرته ضرورات عيشهم، وألجأ هذا الوضع العاملين إلي البحث عن مورد آخر مكمل، فانحرفت قلة ووجدت في الفساد وأساليبه مغنما، والأغلبية بحث أفرادها عن عمل آخر إضافي مكمل، فتوزع انتماؤهم بين عملهم الأصلي وعملهم
الإضافي، ولأن العمل المكمل يكون لقاء أجر غير ثابت بغير ضمانات قانونية، فقد صار هو ما يخشي عليه العامل ويوليه اهتمامه الأكبر، وذلك علي حساب عمله الأصلي، وشيوع هذا الأمر بين العاملين من شأنه انهيار المؤسسة الأصلية التي يعملون بها لانصراف العاملين فيها عن مدِّها بالقدر الأهم من أنشطتهم واهتماماتهم.

يضاف إلي ذلك أن أي مؤسسة إنما تنشأ بوصفها تشكيلاً نظامياً يضم من الخبرات والمهارات ما يتفق مع نوع نشاطها، وهي في عملها تكتسب خبرات متزايدة بما يضاف إلي رجالها من تجارب وما يؤدونه من أعمال، فإذا توقفت فقد فقدت هذا النبع من الخبرات ولحقها من الصدأ ما يلحق الآلات التي لا تعمل، والحاصل أن كثيرا من الأجهزة والمؤسسات في الدولة وقطاع الأعمال قد توقف عن أداء عمله المنوط به في هذين العقدين الأخيرين، لأنه لم يعد ثمة خطة اقتصادية تتبع ولا مشروعاً وطنياً ينفذ ولا خدمة اجتماعية تؤدي بجدية ولا مالاً ينفق بما يكفي أيا من ذلك.


وانصرف العاملون ذوو الخبرة عن أعمالهم، وكذلك الشأن إذا ارتبط بأي مؤسسة ما يجاوز أصل تخصصها وما أعدت من أجله.

هذا من ناحية تفكك أجهزة إدارة الدولة ومؤسساتها، أما من ناحية هيئات المجتمع الأهلي مثل النقابات والاتحادات وغيرها، أو الهيئات الرسمية ذات الاستقلال الذاتي كالجامعات، فقد جرت في كل ذلك تعديلات في القوانين بما يفقد أيا منها درجة استقلاله الذاتي مثلما حدث بالنسبة للجامعات، وكذلك صدرت قوانين واتبعث إجراءات كان من شأنها تفكيك الهيئات ذات التماسك كالنقابات المهنية أو السيطرة الكاملة الأمنية علي الهيئات الأخري كالنقابات العمالية واتحادات الطلبة، ولا أريد أن استطرد في ذكر التفاصيل حرصاً علي الوقت والمساحة، وحرصاً علي سرعة بلوغ المسألة التي أريد إيضاحها.

والحال أن القوة الاجتماعية والسياسية ترد من العمل الجماعي لا من الجهود الفردية، وهي ترد من العمل الجمعي المشمول بتشكيل تنظيمي، ولا فعل إلا بقوة ولا رد فعل إلا بقوة، ولا تأثير إلا بقوة ولا ممانعة إلا بقوة، والحال أيضا أن الحركة الاجتماعية والسياسية لا تنفذ بآثارها إلا بهذه القوة الجماعية المنظمة، وأن أي حراك شعبي أو جمعي من أي نوع وفي أي مجال يرد بغير قوة منظمة وإنما يكون حراكا عشوائيا ما يلبث أن يتفرق شعاعاً وأن يتشتت بددًا لا يبقي له أثر يذكر، لذلك فإن التنظيم هو ما يكون عليه المعول في حساب القوي وإدراك الآثار المتفاعلة في المجتمع للجماعات والفرق المختلفة.

ومن هنا ندرك مغزي ما سبق ذكره عن التفكك الحادث، وندرك أي خسارة فادحة لحقتنا من جراء هذه السياسة التي اتبعت منذ التسعينيات بشكل منظم وآتت بنتائجها المدمرة من نهاية التسعينيات حتي اليوم، إذا ننظر إلي أنفسنا اليوم فنجد أنفسنا ساخطين دون همة، وغاضبين دون عزم، وأن السخط والغضب يأتي منهما الوعي بالسوء والقبح والفساد، أما الهمة والحزم فيأتي بهما التشكيل التنظيمي للساخطين والغاضبين، وأنا لا أقصد هنا فقط انفكاك التنظيمات الشعبية والأهلية، ولكن أقصد أيضاً انفكاك تنظيمات الدولة فيما عدا ما يقوم علي الأمن السياسي للنظام الحاكم، ومن هنا نلحظ هذا الوهن العجيب، فننظر إلي الجماعة الحاكمة فنراها لا تعرف كيف تحكم ونراها واهنة العزم خائرة القوة إلا فيما يتعلق بمنع المظاهرات، ثم ننظر إلي المعارضة فنراها تقف عند حدود التعبير الكلامي عن المواقف وعند حدود الإدراك الصحيح الصائب لما يتعين أن يقوم، ولكنها لا تستطيع أن تحول هذه الرؤية إلي قدرة تغيير فعلي.


لقد حدث في مصر علي مدي الثلاثين سنة الماضية ما حدث في العراق علي مدي السنوات الخمس الماضية، نحن دائماً في مصر نجري التغييرات بالأسلوب «السلمي المشروع البطيء» والتعديلات الهيكلية الجزئية البطيئة التي تتراكم، وهم دائماً في العراق تجري التغييرات بالأسلوب العنيف السريع، سواء كان التغيير للأحسن أو للأسوأ.

في مصر خضعت الإرادة الوطنية للدولة لإملاء الهيمنة الأمريكية عليها، خضعت بالتدريج وكمل ذلك علي مدي عشر سنوات أو أكثر، وفي العراق أجري ذلك بعملية احتلال عسكري أمريكي سريع وتعيين حكومة موالية «للأمريكيين».

في مصر تحطم النظام الاقتصادي الوطني المستقل علي مدي ربع القرن وصار إلي التبعية للهيمنة الدولية، وفي العراق جري هذا التحول في أشهر قليلة بعد الاحتلال العسكري الأمريكي، وفي مصر تعطلت المصانع ــ مصانع القطاع
العام ــ بالترك العمد والإهمال المقصود علي مدي نحو خمس عشرة سنة وفي العراق جري ذلك في شهور أيضاً، وبالنسبة لجهاز إدارة الدولة في مصر فقد جري تفكيكه وجرت العملية من أوائل التسعينيات، وتمت ذات العملية بالتدمير السريع في العراق فور دخول القوات الأمريكية، أما من حيث الخسائر البشرية فهي في العراق تحدث بالرصاص والتفجيرات، وفي مصر تحدث بغرق العبارات وتصادم القطارات والحافلات وسقوط الصخر علي البشر أي بالطريق السلمي المشروع، والنتيجة أن المجتمع مفكك والدولة مفككة وأن القوة النظامية الوحيدة وهي شرطة الأمن السياسي، لم تعد حافظة لحكومة القلة فقط، ولكنها حافظة أيضاً لوضع التفكك الذي يضمن بقاء هذه القلة. وقد شكلت أجهزة الإدارة التي تناسب المجتمع الجديد المصغر، فتفتق الحزب الوطني عن لجنة السياسات، وجرت السيطرة علي بنوك القطاع العام بطاقته التمويلية عن طريق كوادر جديدة، ومع تغير الوزارة، نشأت حول كل مجموعة شباب، اختير بغير خبرة سابقة في أجهزة الدولة وبرواتب ضخمة جدا، وكل ذلك بعقود مؤقتة حلت محل الوظائف الثابتة حتي لا يكون لأحد قدرة علي الاعتراض.

هذا هو الوضع السياسي والاجتماعي والتنظيمي الذي يتناسب مع تحقيق مجتمع الــ 10% المعلن عنه، وقد يعمل العاملون علي تخفيفه بنسبة أقل من ذلك كثيرا، فنحن لا نعرف النوايا، ولكن المهم هو الإشارة إلي ما هي خصائص هذا المجتمع التي يمكن أن نستقرئها من الواقع الحالي ومن متابعة الأحداث الجارية. فنحن نلحظ مثلاً أن القاهرة لم تعد هي المدينة التي تمارس فيها فعلاً حكومة البلاد ولم تعد مقرًا لحاكم مصر الفرد القائم علي أزمة أمور البلد والمقرر لسياستها فيما كبر أو صغر من الشئون، صار مقره الدائم أو الذي يقيم فيه عادة هو مدينة شرم الشيخ علي شاطئ خليج العقبة جنوب شبه جزيرة سيناء وصارت هي المقر الذي يقابل فيه رجال الدولة ويعقد فيه اجتماعاته مع رؤساء وممثلي الدول الأجنبية وهو مكان عقد فيه ما يسمي بلقاءات القمة وبلغ من اطراد هذا الأمر والاعتياد عليه أن المؤتمر الدولي للاتحاد الأفريقي الذي ينعقد بحضور رؤساء الدول الأفريقية كان انعقاده الأخير السنة الماضية في شرم الشيخ رغم أن شرم الشيخ في آسيا وليست في أفريقيا بما يعني أن مؤتمر قمة الاتحاد الأفريقي لم تجد له حكومة مصر في أرضها الأفريقية الفسيحة مكانا لانعقاده فانعقد في آسيا.

وأن شرم الشيخ التي تمارس فيها وظائف العاصمة هي في الجزء الشرقي من سيناء وهو الجزء منزوع السلاح المصري بنص الاتفاقية المصرية - الإسرائيلية وهي ليست تحت سيطرة القوات المسلحة المصرية فمحظور علي مصر بموجب هذه الاتفاقية أن تتواجد فيها قوة من قوات مصر المسلحة، وهذا يعني أن أقرب القوات المسلحة لشرم الشيخ بحكم التواجد وبحكم إمكان التواجد الدولي المتاح هي القوات المسلحة الإسرائيلية براً وجواً وبحراً وهذا يذكرنا تاريخياً بوضع السلطان «محمد وحيد الدين» سلطان الدولة العثمانية الأخير بعد الحرب العالمية الأولي إذ كانت إقامته في اسطنبول وكانت تحيط به القوات الأجنبية المنتصرة علي تركيا في تلك الحرب وهذا ما من أجله نقل «كمال أتاتورك» العاصمة إلي أنقرة في قلب بلده وفي وسط الأناضول.

إن كان هذا هو شأن المدينة التي تمارس فيها الدولة مهام العاصمة في هذا الوضع الجديد وهي بعيدة عن وادي النيل الذي يسكنه ما جري التعبير عنه بأنه 90% من السكان فما هو شأن التمويل إننا نعلم أن ميزانية الدولة تمول بمصادر إيراد يرد من شئون المصريين كلهم، مما ينتج عن الزراعة في وادي النيل وعن المصانع التي تنتشر علي طول مدن الوادي وأرضه ومن عمل العاملين المصريين عمالاً وموظفين ومهنيين وحرفيين ومن ضرائب استهلاك هؤلاء جميعاً فكيف يمكن الاستغناء «بقدر الإمكان» عن هؤلاء بوصفهم مصادر إنتاج واستهلاك وعمل وغيره، إن تمويل هذه الإدارة الجديدة للدولة في وضعها المصغر يمكن أن يأتي من دخل البترول والغاز وهو مبلغ يدور حول 9 مليارات ودخل قناة السويس وهو يدور 4 مليارات وعوائد المصريين المقيمين بالخارج وهو يدور حول 6 مليارات ثم السياحة وهي تدور حول 8 مليارات وكل هذه الدخول لا تحتاج إلي وادي النيل في مصر وهو موطن أكثر من 90% من السكان ولا تنتج في الأساس عن أنشطة إنتاجية خاصة بسكان هذا الوادي وهم يزيدون علي 90% من السكان وحتي النشاط السياحي صار جزءاً غالباً فيه يرد من سياحة شواطئ البحر الأحمر وليس من أرض الوادي ولا من آثار هذا الوادي.

ونحن هنا أمام مداخيل اقتصادية تتشابه إلي حد ما مع مداخيل إمارات الخليج العربي وأن الاعتماد الأساسي عليها في تشكيل دولة الــ 10% يحيل الدولة إلي إمارة شبه خليجية والفارق أن إمارة شرم الشيخ تقع علي الشاطئ الغربي للجزيرة العربية بينما تقع قريناتها علي الشاطئ الشرقي لشبه الجزيرة وإماراتنا قد تحتاج إلي بعض عمالة تأتيها من وادي النيل، خاصة في شأن الخدمات وفي شأن حفظ الأمن وهذا من الصفات الشبيهة بصفات تجدها في إمارات الخليج التي تعتمد علي عمالة تأتيها من خارجها ولأنها إمارة تعتمد علي الدخل الريعي وليس الدخل الإنتاجي فهي لا تحتاج إلي فلاحين ولا إلي عمال، يكفيها خبراء في الإدارة وموظفين صغار وخدمة كما يكفيها من القوات الحامية لها قوة الشرطة علي أن تكون هذه القوة شديدة البأس صعبة المراس ذات بطش وقسوة.

وأن نظرية الأمن القومي لهذه الإمارة لابد أن تكون مختلفة تماماً عن مثيلاتها الخاصة بمصر التي نعرفها أو بعبارة أخري عن باقي مصر الذي نعرفه وهذا الباقي من مصر الذي يشكل 90% أو أكثر هو أرض وادي النيل والذي لم يعد وطناً مشمولاً بالرعاية وما عليه من بشر هم سكان وليسوا شعباً بالمعني الذي يعرفه القانون الدولي العام، إن ثمة إمارة انسلخت من الدولة الأم وأخذت اسمها ووصفها القانوني ومركزها الدولي وأن أي دولة منسلخة تختلف نظرتها إلي أمنها القومي عن النظرية السائدة لدي الدولة الأم بل هي تكون ضد هذه النظرية لذلك فإن الجزء المنسلخ يعتبر الدولة الأم عدوه الأول والأكبر ومصدر الخطر الدائم عليه ومتي تعين العدو الأول، فقد تعين أيضاً الحليف الأول وهو عدو العدو، والإمارة المنسلخة في هذا التصور لا تجد حليفاً لها إلا من كان يخشاه الوطن الأم ويعتبره خصماً له وخطرا عليه، من هنا نفهم الموقف الأخير الذي كشفت عنه أحداث غزة الأخيرة في ديسمبر 2008، كما نفهم هذه السياسة التي قامت وهي سياسة تمارس وتطبق ضمنا وعلانية وسراً وجهراً وهي أن ثمة تحالفاً استراتيجياً يقوم بين الحكومة الحاضرة والولايات المتحدة الأمريكية وليس من الممكن فهم هذه السياسة إذا نظرنا إلي الأمر بوصفه علاقة بين مصر والولايات المتحدة، لأن الولايات المتحدة ومعها إسرائيل شنت علي هذه المنطقة من الحروب ولا تزال تفعل ما يجعلنا نراها عدوانا مستمراً من الجانب الأمريكي الصهيوني علينا.

إنما يُفهم الأمر إذا نظرنا إليه باعتباره وصفاً للعلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة وبين الإمارة المنسلخة من مصر، إمارة الــ 10% أو أقل من السكان، من جهة أخري.

أمامنا مهمة كبيرة، أن نعيد مصر إلي الوجود بإذن الله تعالي فنجمع ما تفرق ونركب ما تفكك وأن نرمم أبنيتها الإدارية المتصدعة وأن نجبر ما تكسر من عظامها هذا بالنسبة لأجهزة إدارة الدولة، أما بالنسبة للتنظيمات الشعبية والأهلية فأمامنا مهمة الإعداد الجديد لتنظيمات جديدة علي كل مستويات العمل الشعبي والأهلي النقابي وغير النقابي والجمعيات والاتحادات وغيرها.