بداية مقلقة للرئيس اوباما

بداية مقلقة للرئيس اوباما
عبد الباري عطوان
بدأت ملامح السياسة الخارجية لادارة الرئيس الامريكي الجديد تتبلور بشكل تدريجي، فقد اغلق الملفات السوداء للحرب على الارهاب التي اعلنها سلفه جورج دبليو بوش، مثل معتقل غوانتنامو ومراكز التعذيب السرية المنتشرة في بقاع عديدة من العالم، معظمها في دول عربية للأسف، منهيا أسوأ التجاوزات وانتهاك حقوق الانسان في التاريخ الامريكي الحديث، ولكن الجانب المتعلق بمنطقة الشرق الاوسط، والصراع العربي ـ الاسرائيلي جاء ملتبسا وحافلا بالكثير من الثغرات المقلقة.
صحيح ان الرئيس اوباما طالب بفتح المعابر ليتاح ادخال المساعدات الانسانية والمبادلات التجارية لأبناء قطاع غزة، واظهر تعاطفا مع معاناة ابناء القطاع، ولكنه لم يتطرق مطلقا الى المجازر الاسرائيلية وقتل الاطفال واستخدام القنابل الفسفورية المحرمة دوليا، وتدمير اكثر من ستة آلاف منزل وتشريد اربعة آلاف شخص.
توقعنا من الرئيس الامريكي الجديد موقفا قويا ضد هذا الاجرام الاسرائيلي، خاصة بعد تسلمه مهام منصبه، وهو القادم من رحم المعاناة والفقر والحرمان والتمييز العنصري، حيث كان ممنوعا على والده ان يرتاد معظم المطاعم والنوادي بحكم لونه واصله الافريقي قبل خمسين عاما. توقعنا منه ان يدين هذه الوحشية الاسرائيلية بكلمات واضحة لا لبس فيها او غموض، تؤشر الى بدء مرحلة التغيير الذي وعدنا به، وتترجم اقواله حول التعامل مع المسلمين وفق اسس الاحترام والمصالح المشتركة.
يبدو ان الرئيس اوباما نسي ان الفلسطينيين الذين تطحن عظامهم الدبابات وتحرق اجساد اطفالهم الطرية القنابل الفسفورية هم مسلمون بل وبشر ايضا. فقد ساوى في كلمته التي القاها اثناء تعيينه مبعوثيه الى المنطقة بين الضحايا الاسرائيليين والفلسطينيين عندما قال 'قلقت للغاية للخسائر في ارواح الفلسطينيين والاسرائيليين خلال الايام الاخيرة'.

مثل هذه اللغة يمكن ان نفهمها لو ان الرئيس الامريكي الجديد استخدمها اثناء حملته الانتخابية، او حتى قبل تسلمه مهام منصبه في البيت الابيض، ولكن ان يمسك العصا من الوسط الخطأ، وبهذه الطريقة، مساويا بين الجلاد والضحية، فهذا امر غير مقبول ومستنكر ويكشف عن بداية سيئة.
الضحايا الاسرائيليون في هذه الحرب لم يزيدوا عن ثلاثة من المدنيين، وعشرة من العسكريين بينما استشهد اكثر من 1350 فلسطينيا في القصف الاسرائيلي الوحشي للقطاع معظمهم من الاطفال والمدنيين، فكيف يمكن التعامل مع خسائر الطرفين بالقدر نفسه من القلق والألم، ومن قبل رئيس امريكي يعرف جيداً جذور الصراع وأسبابه، مثلما يعرف جميع مستشاريه، ووزيرة خارجيته على وجه الخصوص، حجم التغول الاسرائيلي لسفك الدماء الفلسطينية بطريقة غير مسبوقة في التاريخ الحديث؟
جميل ان ينهي الرئيس الجديد حرب بلاده على الارهاب، واقراره باستحالة الفوز فيها، وحجم الدمار الذي خلفته على صورة بلاده، والنزيف المالي لاقتصادها وأموالها، ولكن الاجمل ان يلتفت الى الارهاب الاسرائيلي ايضاً، وقد شاهد فظاعاته بعينيه عبر شاشات التلفزة، حيث الصور المتفحمة للأطفال، والأب المكلوم الذي فقد زوجته وخمسة من أطفاله، او الأسر التي ابيدت بكاملها. والصورة لا تكذب مثلما يقول اول درس في الصحافة وعلوم الحروب.
فإذا كان ايهود اولمرت رئيس الوزراء الاسرائيلي اعترف بأنه اجهش بالبكاء لدى مشاهدته استغاثة طبيب فلسطيني خسر اطفاله الثلاثة عبر شاشات التلفزة، فإنه من المتوقع من رئيس امريكي ان يكون أكثر تأثراً بهذه المجازر، وأكثر تعاطفاً مع ضحاياها، مع تسليمنا بكذب اولمرت وكل المسؤولين الاسرائيليين الآخرين من امثاله، الذين يستمتعون بالولوغ في الدم الفلسطيني حتى الارتواء.

لا نريد التعجل في استصدار الاحكام المسبقة على ادارة ما زالت في الايام الاولى لتوليها السلطة، ولكن المقدمات السيئة لا يمكن ان تؤدي الا الى نتائج اكثر سوءاً، ولهذا نجد لزاماً علينا ان نرفع صوتنا محذرين ومنبهين، قبل ان تقع الكارثة ويصعب التراجع عن الأخطاء.
مطالبة حركة 'حماس' بالاعتراف باسرائيل في أول خطاب للرئيس الامريكي لشرح سياسته الخارجية هي احد ابرز الأمثلة على هذه المقدمات الخاطئة،خاصة ان هذه المطالبة تزامنت مع الالتزام الكامل بأمن اسرائيل، ودون توجيه اي لوم لها على افشال العملية السلمية والاستمرار في الاستيطان، وخنق الاقتصاد الفلسطيني، وبناء السور العنصري العازل، وقتل الآلاف من الفلسطينيين العزل، واسر اكثر من عشرة آلاف من خيرة ابنائهم.
فلماذا المساواة في التعاطف مع ضحايا الجانبين، وعدم المساواة في اللوم، وتسمية الاشياء بأسمائها دون لف او دوران؟ فالفلسطينيون لا يحتلون ارض اسرائيل، ولا يرسلون طائرات 'اف 16' ومروحيات الاباتشي الامريكية الصنع لقصف الابرياء في حرب من اتجاه واحد.
انهاء الحرب على 'الارهاب' دون انهاء الارهاب الاسرائيلي المستمر منذ ستين عاماً وبحماية امريكية، سيؤدي الى ظهور 'ارهاب' عربي اسلامي جديد اكثر خطورة وشراسة، لأن هؤلاء الاطفال الذين فقدوا اشقاءهم وامهاتهم وآباءهم، وشاهدوا الطائرات الاسرائيلية تطلق حممها فوق رؤوسهم، هؤلاء سيكونون أكثر شراسة في انتقامهم المشروع والمبرر في كل الشرائع الالهية والوضعية، اذا ما استمروا مشردين دون أمل ودون مستقبل.
فمجازر غزة لم تدمر ثقافة السلام والاعتدال فقط، وانما اعادت إحياء ثقافة المقاومة بشكل أكثر قوة على طول العالم الاسلامي وعرضه، وكشفت السقوط الاخلاقي الغربي، والأمريــــكي بشكل عــــام في أبشع صوره وأشكاله، وإذا لم يعِ الرئيس الأمريكي الجديد وطاقمه هذه الحقيقة الناصعة فإن كل نواياه المعلنة حول اصلاح صورة بلاده البشعة جداً في العالم الاسلامي ستذهب سدى.

ما زلنا نملك بصيص أمل في قدرة الرئيس الأمريكي الجديد على إحداث التغيير المطلوب في سياسة بلاده الخارجية، ليس لأن اسم والده 'حسين'، ولا لانه أفريقي الأصل والملامح، وانما لان الاستمرار في سياسات الادارة السابقة في الضغط على الضحية، وابتزازها، لدفعها إلى تقديم التنازلات تلو التنازلات تحت ذريعة دفع عجلة السلام إلى الأمام سينعكس دماراً على الولايات المتحدة ومصالحها، في وقت هي في حاجة ماسة إلى الأمن والاستقرار لانقاذ اقتصادها المنهار، واستعادة قيادتها للعالم بأسره.
الشعب الفلسطيني ليس بحاجة إلى مؤتمر للدول المانحة لتخصيص الأموال لاعادة الاعمار، وتمويل سلطة فاسدة فاشلة لم تعد تمثل أحداً، وانما بحاجة إلى مؤتمر سلام يستند إلى قرارات الشرعية الدولية، ويقول للاسرائيليين انكم اصبحتم عبئاً اخلاقياً وسياسياً وأمنياً على كاهل الغرب وشعوبه جميعاً، وبتّم مصدر تهديد لأمن العالم واستقراره بجرائمكم الارهابية ضد شعب أعزل، وهي الجرائم التي تغذي التطرف والتشدد، وتجعل من تنظيم 'القاعدة' تنظيماً معتدلاً بالمقارنة بما يمكن ان يظهر من تنظيمات جديدة في المستقبل.

0 التعليقات:

إرسال تعليق