"سارة".. عبقرية الشك




د.أيمن محمد الجندى

مصقولة ندية، كالثمرة الناضجة في شعاع الفجر، وكالشيطان! فتنة ماثلة أمام عينيه، جميلة جمالا لا يختلط بملامح النساء، لونها الشهد المصفى يأخذ من محاسن الألوان مسحة واحدة، عيناها نجلاوان، تخفيان الأسرار ولا تكتمان الرغبات، فيها خطفة الصقر ودعة الحمامة، ولها فم الطفل الرضيع، وذقن كطرف الكمثرى الصغيرة، وبضاضة جسم هو الفتنة مجسدة.. حزمة من أعصاب تسمى امرأة، استغرقتها الأنوثة فلعلها أنثى ونصف! ولو تفرقت بين أجسام شتى لطغت الأنوثة على جميع الأجسام، شغلتها جواذب الجسد، وعاشت تنظر إلى الخطايا نظرة المرأة الوثنية قبل الأنبياء، عن نزعة طبيعية فيها، كالطفل يأكل الحلوى خلسة إن لم يأكلها جهرة، ولا لوم عليه في الحالتين، وإنما اللوم على من منعوه.

سارة التي أحبها العقاد، امرأة ليست كسائر النساء، لها آلاف الوجوه والملامح؛ طفلة لاهية وامرأة ماكرة أفنت عمرها في كيد النساء، وعقل أوتي عقول الفلاسفة، وأم تفيض بحنان الأمهات!.. شريدة بوهيمية، خاشعة في محراب الصلاة.. مرحة، كسيرة، فطرية أو عصرية، وفي كل أحوالها الأنثى السرمدية، لا يهمها من رجلها غير الحماية والأمان.

سارة!! كم لك من وجوه يا سارة!!.

مكالمة.. فمجاملة.. فلقاء

كان لقاؤهما الأول في بيت خائطة فرنسية في صباح هادئ من ضحوات الخريف، كانت الشمس تبتهج في هدوء، والهواء يرقص في حنين، ويرق الجو في ارتقاب، وتطرح النفس أعباءها كما تطرح القافلة أحمالها عند الواحات، التقاها العقاد ولم يكن يعرف أنه الحب الكبير..

تم التعارف بالأسماء، ثم مضت وكأنه لم يترك أثرا في نفسها، لذلك فوجئ حينما حادثته هاتفيا: من مجاملة إلى ملاطفة إلى تحية إلى اللقاء الأول.

شعر أنه مخلوق جديد، وإلا فلماذا تمر الساعات خاطفة، وكأن الشمس في سباق؟ وسيارات الأجرة التي يستقلانها لا ريب أنها سيارات سباق! خف كل شيء في الدنيا حتى قانون الجاذبية، وطفقا يتحدثان عن الموت بنفس الخفة التي يتحدثان بها عن الحياة، أحب أن يعرف مدى العلاقة التي ستجمعه بتلك المرأة الجالسة أمامه، فاستدرجها للحديث فحكت كل شيء، من قصة طفولتها إلى زواجها الفاشل، شعر وقتها أنها طفلة بائسة فقدت رحمة الأمومة، ثم أخطأت حظها من الزواج، لم تعذر الدنيا ولم يعذرها أحد.

في لقائه الثاني أدرك أنها فتاته بلا مراء، وأوجس –في نفس الوقت– خيفة مما يلي الغرام حتما من نكبات، بهرته بأشياء غير مفتعلة لم يعهدها من قبل في النساء؛ تحري الدقة في مواعيدها، المرح بغير تكلف، الزينة التي لا تظهر ولا تختفي، ربة بيت هي أول خادمة فيه، وامرأة تستطيع أن تكون إنسانا فلا تستغرق الأنوثة كل وظائفها.

لكن المرأة التي منحته السعادة كلها، سقته الشقاء مقطرا، لم يعصمه عقله الكبير ولا طبعه الجاد من الوقوع في حبالها، وبرغم مقاومته الصادقة فإنها نفذت من مسامه كالهواء، كالمعدن اللطيف. أفلحت في الاستيلاء عليه بغير مدافع أسطول ولا فرق مشاة، وكأنها الطيارة المحلقة، نزواتها القوة الدافعة في الفضاء، وثنية في مقاييس الأخلاق، شديدة الإيمان بضعف الإنسان مع أضعف المغريات، ما نفرت من مذمة عن مبدأ وعقيدة، بل كما ينفر المرء من طعام يعافه، مسألة ذوق ورغبات لا شرف واعتقاد.

كل هذا كان يعرفه عنها، لم يخدع نفسه قط، ولا استطاعت هي أن تخدعه، المشكلة أنه أحبها كما لم يحب في حياته من قبل، هي الحلم والواقع، والجمال والخيال، السعادة التي لم يذق مثلها، نسمة منعشة في الظهيرة، ونجدة الأمان بعد خوف طويل. يلتقيان فينقسم العالم إلى قسمين؛ قسم فيه كل شيء، وقسم ليس فيه شيء، قسم ذاخر وهاج، وآخر مهجور كخرائط الأطفال.

أيام!! ثم جاءت من بعدها أيام.

نار الشك

كانت سارة كتابا مفتوحا قرأه مرارا، ولم تحاول أن تكتم عنه شيئا، اعترفت له بعلاقتين سابقتين، الأولى طويلة متينة، والثانية سريعة هوجاء.. أخبرته بحيلها البارعة وردودها الصالحة لكل موقف، واسترسلت في التفصيلات كأنها تفرغ قلبها بين يدي كاهن، حمد لها وقتها صراحتها ولكنه لم يسلم من الاحتراس منها والتوجس عليها منذ تلك الساعة، ولم يزل على علم أنه لا يأوي إلى حصن حصين.

كان أدرى الناس بها؛ الوعظ لا يستحق عندها إلا الضحك والاستهزاء، ويكبر الناس عندها بقدر ما يخالفون ما يرفعونه من شعارات! تتذوق الكلام وتعطيه درجته العادلة من التأثر، ولا يبعد أن تبكي إذا كان فيه ما يحرك الشجن، لكنها لا تزيد عن ذلك، ولا تخلط بين التقدير والنتائج العملية!..

لم يكن مستعدا لخداع نفسه، ولكنه كان حزينا وآسفا، ولطالما تمنى أن يراها بعين الفخر والإعجاب، هو الرجل الوحيد الذي يرى لها كرامة غير كرامة جسدها، ويحب أن يعرف لها قيمة أكبر من هذه القيمة.

فلما ساورته شبهات الشك فيها توالت أمامه الدلائل من فلتات اللسان، وشوارد الخواطر، وعلامات الزينة والملابس، قرائن هي أصدق عنده من كل شهود، عذاب جهنمي مزق لحمه وأعصابه، كان يحبها حقا، ولم يكن يتصور أن يستغرق في حبها ويسمح لها أن تصل غيره من الرجال. شكوك لا تغسل مرارتها كل أنهار الأرض.. أن تشك ثم لا تصل إلى الحقيقة، ولا تكف عن الشك، ولا تستقر عليه، سجن ينطبق، وأحيانا ينفرج كالهرة اللئيمة، ثم يعاود الانطباق.

هل تخلص له؟ هل تخونه؟ كالمشدود بين حبلين متساويين في القوة والمقدار. يتساوى جانب الاتهام وجانب البراءة؛ فلا تنهض الحجة هنا حتى تنهض هناك، ضاعف من هذه الحالة ذكاؤها وطبيعة ذهنه الذي يخلق الاحتمالات الكثيرة.

ألم لا نظير له بين آلام النفوس، أقرب ما يكون لحيرة الأب المستريب في وليده المنسوب إليه؛ هل هو ابنه أم ابن غيره؟ رمز الحب والوفاء، أم رمز الخيانة والاستغفال؟.. مخدوع في عطفه عليه، أم مخدوع في النفور منه؟

وتمنى وقتها لو كان حبه لها أقل، وماضيه معها أقصر، وشرطه عليها أقرب، إذن لاكتفى منها بما تعطيه؛ لكنه كان يعرف الحقيقة.. الرجل الذي يهب المرأة ساعة من يومه يكتفي منها بساعة، أما حين يهبها أيامه ولياليه، وينسج حولها حاضره وماضيه، ويحجب بيده المستقبل كأنه يطمع في غرام بلا فراق، يستحيل أن يقبل بغير الإخلاص التام، والغيرة حية سامة، والابن إما أن يكون ابنا أو غير ابن، والتحفة النفيسة صحيحة أو زائفة، لا توسط في هذه الأمور.

وهذه المرأة -التي لا امرأة غيرها– إما تحفة نفيسة لا تعادلها كنوز الأرض، أو زائفة لو باعها بدرهم ما كان بخاسر! كل شيء أو لا شيء، لن يبيعها إلا بدرهم، فإذا كانت الأخرى فلا شراء ولا بيع!.. المهم أن يعرف هذا الفارق المهول بين ما يباع بدرهم، وما لا يباع بكنوز الأرض!.

لا يوجد أمامه سوى أن يراقبها !!!.

أمين على الصداقة

أذكر أن الكاتب الكبير أحمد بهجت استهول أن يلجأ رجل في مكانة العقاد إلى مثل هذا الأسلوب، كتب ذلك في جريدة الأهرام منذ سنوات، وصححه له القراء وطالبوه بالعودة إلى الرواية، فاعترف بعدها بأيام بحدوث ذلك، وبدا محرجا مع مقام المفكر الكبير، وعزاه إلى ضعفه البشري الذي لا يخلو منه إنسان.

هل أخطأ العقاد حين طلب من صديقه "أمين" مراقبتها؟ سؤال لا أعرف إجابته، لكن المهم أنه فعل، "أمين" صديقه الذي يؤمن بالواجبات الشعرية أشد من إيمانه بجميع الواجبات الإنسانية، ويعتبر أن خيانة الصديق في العشق كخيانته في أقدس الحرمات، ذو أريحية ومروءة وصدق لسان، يتبعها في الغدوات والروحات، أمينا متربصا مثابرا في عمله.

دامت المراقبة شهورا حافلة بالنوادر والمفارقات، لكنها كانت تقيمه وتقعده، تساءل العقاد فيما بعد: ترى لو شهدنا حوادث الحياة دفعة واحدة هل تهون أم تصعب؟.. تشغلنا الحادثة شهورا فلا نفكر في غيرها، ثم تمضي الأيام فتصبح -عندنا لا عند غيرنا– تسلية نرويها وطرفة نحكيها. ترى هل يكون اجتماع الحوادث فاجعة تضاف إلى الفاجعة، أم بمثابة الشيء يلغي ما بعده؟ كما يذهب الحر بالبرد، والصيف بالشتاء!!.

وسواء هذا أو ذاك، يخطئ من يظن أن عبرة الأيام تعلمنا الاستخفاف بالحاضر كما نستخف بالماضي، وخير ما يتاح لأبناء الفناء أن يقلقوا ثم يضحكوا من هذا القلق.

مبكيات ومضحكات...!!

كان شعورا معقدا يصعب وصفه، يتمنى أن تكون مخلصة، ويتمنى أيضا أن يكتشف خيانتها فيستريح. لم يكن يخفى عليه أن فراقها يرادف عنده توديع الحياة، وإن خبت هذه العاطفة فهي جذوة الغرام الأخير.. من أين له بفتاة تخلفها في ذكائها ونضارتها؟ وإذا وجد الفتاة فمن أين له القلب الذي يخفق وقد استنفده في الغرام؟

متغلغلة في أنحاء النفس والجسد، كألفة المدمن للعقار المخدر، لو سماها حبا فهو صادق، ولو سماها بغضا فهو صادق، يتعاطى العقار وهو راغب فيه، ويتعاطاه وهو ساخط عليه، صعبة جدا مجابهة الحقيقة، وعر حقا طريق المكاشفة. تكلفك تغيير العادات، فيما النفس مولعة بالمراسم والشعائر، والطقوس والعادات.

راحة اليأس

وبعد مفارقات كثيرة، محزنة ومضحكة، انتهت المهمة وبطلت الرقابة واستراح الرقيب، كان أمين موفقا كل التوفيق في مهمته حين زوده بالحجة القاطعة التي يواجه بها غوايته ويجمح بها نكسات ضعفه، عاونته المصادفة حين تتبعها إلى مخدع مريب في بيت عرف اسم صاحبه، وعرف أيضا أنها تغشاه حينا بعد حين.

وكانت راحة اليأس.. لم يزد العقاد أن أغمض عينيه، وكأنه يتحاشى النظر إلى سبة شائنة، أو يتهيأ للنوم بعد سهر طويل، صافح صديقه، وهز يده هزة الشكر والرضا، الرضا بانقطاع الشكوك وتقليم مخالب العذاب، والقدرة على التفريط فيها بغير حسرة ولا ندم، حينما صارت امرأة من سائر النساء سقط عنها سحر الانفراد.

"هونت خطبك جدا، وخلته لن يهونا..
حمدا لكيدك حمدا، حمدا يفيض العيونا
بدلت بالنار بردا، وبالعذاب سكونا.
إني أمنت الفتونا، وأنت، ماذا أمنت؟
قد هنت، والله هنت........"

أشعار سوف يتركها لنا العقاد فيما بعد في تراثه الشعري، وتبقى قصص الحب العظيمة، لشخصيات إنسانية مميزة، رابطة للأخوة الإنسانية، وعلامة على الضعف البشري، يستوي فيه الكبار والصغار، والعظماء والبسطاء، والسادة والخدم، كلهم مجبولون على العشق، مفطورون على الانجذاب للجنس الآخر، بالقلب والروح والجسد، بالضحك والابتسام، واللوعة والفراق، قدرا مقدورا على أبناء الفناء.

0 التعليقات:

إرسال تعليق