علمه عند أولمرت


علمه عند أولمرت
عزت القمحاوى



الإجرام فاق كل التوقعات. بعد أن تأكدت إسرائيل أنها اللاعب الوحيد في مجتمع دولي صامت، ونظام عربي متداع، بلبه ولبابه. واللب لم يكن يوماً معطوباً بهذا القدر، وجاءت هذه المحنة لتقشر وتكشف عن لونه ورائحته.
منذ ولدت القضية الفلسطينية صار التغيير في مصر مرتبطاً بنتائج المواجهة مع العصابة الصهيونية.
لكنها المرة الثانية بعد النكبة التي تتشابك فيها خطوط الإحباط على الجبهة الفلسطينية مع الإحباط الداخلي، في مجتمع يشبه مجتمع عشية النكبة (مجتمع النصف في المئة).
بدا الربط واضحاً لدى كثير من المعلقين كتابة وشفاهة، من خلال مقارنتين أساسيتين، أولاهما مقارنة عدد شهداء 'الحرب' على غزة بعدد شهداء العباّرة 'السلام' التي راح ضحيتها 1030 مصرياً. أما الثانية فتتعلق بمقارنة مساحة غزة بمساحة الأرض التي أهدتها الدولة لأقل من عشرة أفراد أبرزهم هشام طلعت مصطفى، المحبوس بتهمة قتل سوزان تميم.
والمقارنتان الموجعتان تردان في سياقات مختلفة، في إطار الجدل حول مسؤولية حماس، أو الجدل حول الفساد الذي صار أقسى من الاحتلال، لتنتهي المناقشة في صالح المقاومة، حيث بالإمكان تحمل مثل هذه الخسائر في حرب وطنية، مادام العدد نفسه يروح عبثاً من دون حرب.
المقارنتان تؤكدان على وعي الغاضبين بحقيقة تشابك الفساد الداخلي مع الهزيمة الخارجية وتقلص خيارات الدولة المصرية على الجبهة القومية.
وعلى الرغم من أن مسيرة تقليص العدالة في المجتمع المصري قد بدأت في منتصف السبعينيات، إلا أن الحجم المحدود للمشروعات التي ولدت على أيدي الانفتاحيين الأوائل ومستويات الفساد في ذلك الوقت، وكفاءة الأداء في جهاز الدولة وحجم الخدمات التي تقدمها للأغلبية، كل هذا لم يصل بالمجتمع المصري إلى الانقسام الحاد الذي تجسد في الثماني سنوات الأخيرة، من بداية الألفية الثالثة.
كانت أشهر محاكمات ما بعد عصر السادات، هي محاكمة شقيقه عصمت بتهمة الإتجار في الحشيش. وهي تهمة تثير الشفقة اليوم، لأن تجارة الحشيش عمل شاق، ويتضمن الكثير من الهدر، بما يصل بالربح إلى ما فوق ربح البقالة بقليل، بينما استقرت في السنوات الأخيرة عادة منح آلاف الأفدنة لشخص واحد، تترجم إلى مليارات في يديه فوراً. وعندما يتهم في جريمة قتل، يقال إنها محاولة لتدمير 'إمبراطورية اقتصادية'.. متى بنيت هذه الامبراطورية وكيف، لا أحد يعلم!
هذا التوزيع المجاني للثروة جرى من قبل في بدايات القرن الثامن عشر على يدي محمد علي، لكن ضمن فلسفة بناء دولة، فأقطع شيوخ قبائل البدو لتوطينهم وعائلات الريف مساحات من الأرض الزراعية المستصلحة لضمان ولائهم.
أي كانت هناك استراتيجية لبناء تماسك الدولة، وزيادة الإنتاج الزراعي، وقد شكلت هذه العائلات فيما بعد القوة الاقتصادية لبرجوازية مصرية، رفعت مشروع طلعت حرب الاقتصادي في مواجهة استغلال البنوك الأجنبية والأرستقراطية التركية، بينما تركزت منح هذا العصر على أراضي البناء.
وقد حولت هذه المنح المجانية بضعة شباب أو رجال عاديين، بلا مواهب خارقة أو ماض اقتصادي إلى مليارديريين في لمح البصر. ولم تؤد فقط إلى حالة الاحتقان والإحباط لدى ملايين العاطلين، بل إن هذه الثروة التي هبطت دون فطنة أو خيال خاص، بقيت كما هي عديمة الخيال، محصورة في الاستثمار العقاري الفاخر، لا تزرع أو تحصد أو تساهم في صناعة، ولو فانوس رمضان الذي تستورده مصر من الصين!
ثروات فجة، لم تساهم في توفير فرص عمل متنوعة، ولم تعمق فقط الانفصال بين بناتها وبقية الشعب فقط، بل عمقت الانفصال الاجتماعي، بين أغلبية تسكن المدن الرثة، وقلة تسكن معازل مسورة في تجمعات ترابض على حدود العاصمة والمدن الكبرى، مثل ثكنات جيش يستعد للاقتحام!
تزامن التسارع في بناء ثكنات الغزاة مع تدهور آلة الدولة، التي اختار رموزها سكن المنتجعات بدلاً من الحفاظ على كفاءة النقل والمرور وسائر الخدمات بالعاصمة.
نادت المنتجعات سكانها من المسؤولين وكبار الصحافيين الذين تلقوا بيوتهم في شكل هبات أحياناً، بالإضافة إلى عدد من المستخدمين لدى النصف بالمئة المتحكم، مع بعض التكنوقراط ممن أفنوا أعمارهم في بلاد عربية، ويسمعون عن توحش الفقر والعنف والتلوث بالمدن، ويبحثون عن مختتم هادئ لحياتهم يستحقونه، أو عن إقامة مريحة للأسرة في غيابهم.
هذا الانفصال العمراني، جعل عزلة مجتمع 'النصف في المائة' مضاعفة إذا ما قيست بعزلة الطبقة نفسها إبان النكبة، حيث كانت أحياء الأغنياء (الزمالك وجاردن سيتي والمعادي) امتداداً طبيعياً لفضاء المدينة، تستطيع الطبقات الأخرى التنزه فيها بحرية.
كما كانت ثروة الطبقة الأرستقراطية قبل الثروة معتقة، بنيت على مدى أكثر من جيل من الأسرة الواحدة ونسيت مصادرها الفاسدة، مما يقلل الإحساس بالظلم، بعكس ثروات اليوم الواحد، حيث يتخرج شابان في ذات الكلية، وينامان ذات ليلة ليستيقظ أحدهما مليارديراً والآخر أجيراً لا يجد قوت يومه!
واليوم يتغذى سخط الانفـــصال التام في مصر من الموت الزؤام في غزة، فما أسوأ اليوم عن البارحة، لأن الحرب لم تكن متلفزة كما هي اليوم، وهذه الجموع التي تبكي على غزة بعين وعلى مصر بالأخرى، إلى متى ستلتزم بأدب البكاء؟ الجواب بيد أولمرت.

0 التعليقات:

إرسال تعليق