ملامح الجيل الرابع للمقاومة الفلسطينية


إبراهيم البيومى غانم
ما هدمته آلة الحرب الإسرائيلية المجرمة من منشآت ومبان سيعاد بناؤه، وما أراقته من دماء الشهداء والجرحي سيرسم ملامح "الجيل الرابع" للمقاومة الفلسطينية الباسلة وهي في طريقها الطويل نحو الحرية والانعتاق من أبغض وأحقر محتل عرفه تاريخ البشرية.
قتل إسرائيل أطفال غزة هو محاولة متعمدة لقتل ثلاث قيم تصنع المستقبل هي: البراءة، والجمال، والحق. فالبراءة أجمل ما في الطفولة، والجمال أرقي ما في البراءة، والحق أسمي معاني الجمال، ولا تملك الطفولة غير هذه الثلاثة: البراءة، والجمال، والحق. ومزيج هذه القيم الثلاث هو الذي يشكل مستقبل أي أمة. وإسرائيل باستهدافها الأطفال بهذه الوحشية تقول للفلسطينيين بصراحة: لا مستقبل لكم لأنني أقتله هكذا كما ترون أطفالكم صرعي أمامكم!
هذا ما أرادته إسرائيل وفعلته في عدوانها الإجرامي علي غزة بقتل 410 من الأطفال، (32% من جملة الشهداء البالغ عددهم حتي وقف العدوان يوم 18 الماضي 3000 شهيد، إلي جانب 5500 جريح أكثر من 35% منهم أطفال أيضاً). ولكن قوانين التاريخ وتجارب حركات التحرر الوطني تقول إن ما أرادته إسرائيل لن يكتب له النجاح، وإن هذا القتل المروع، وبخاصة قتل الأطفال، هو ذاته ما يعيد إنتاج المقاومة في صورة أقوي وأكثر شراسة في الأجيال المقبلة.
لقد استوعبت حركة التحرر الوطني الفلسطيني ثلاثة أجيال نضالية منذ منتصف الثلاثينيات (ثورة الشيخ عز الدين القسام سنة 1935 من القرن الماضي) حتي اليوم بحساب أن العمر السياسي النضالي لكل جيل هو من خمسة وعشرين إلي ثلاثين عاماً. وتغيرت ملامح كل جيل عن الذي تلاه بحسب تغير الظروف والأحوال التي مرت بها القضية الفلسطينية. وكان كل جيل أشد بأساً، وأكثر صلابة وثباتاً وعنفاً في جهاده للعدو المحتل.
الجيل الأول من المقاومة الفلسطينية (1935ـ 1956 تقريباً)، تشكل من مزيج من الشباب ذي النزعة الوطنية الإسلامية بالمعني الواسع. وكان معظم مجاهدي هذا الجيل من أبناء المُهجَّرين الذين شردتهم العصابات الصهيونية. وكانت أدواتهم القتالية عبارة عن أسلحة بسيطة، وبمستوي متواضع جداً من التأهيل والتدريب القتالي، ودون تدريب أصلاً أو استعداد عسكري بمعني الكلمة في بعض الأحيان. ولهذا كانت نتائج معارك جيل المقاومة الأول هذا متواضعة، والذين التحقوا بالمقاومة من صفوف الجيوش، أو كانت لديهم خبرات عسكرية رفيعة، خذلتهم بعض الأنظمة العربية، أو بددت نتائج جهادهم، أو سرقته منهم.
الجيل الثاني من المقاومة (1967ـ 1987 تقريباً) تشكّل علي أثر الهزيمة التي صعقت الجيوش العربية سنة 1967 ودمرتها في ستة أيام. ومارس الاحتلال الإسرائيلي صنوف القمع لأهالي الأراضي المحتلة في فلسطين. ومن رحم المعاناة تشكل الجيل الثاني من أبناء الشتات الفلسطيني، في إطار"منظمة التحرير الفلسطينية"، التي مارست أعمالها النضالية من خارج الأراضي المحتلة، إلي أن عادت إلي الداخل، بعد اجتماعات مدريد، وفي إطار اتفاقيات أوسلو. تمثل المتغير الأبرز في مسيرة هذا الجيل في ارتفاع وتيرة القمع الإسرائيلي في الضفة والقطاع، وكانت النتيجة هي اندلاع الانتفاضة الأولي (انتفاضة الحجارة) سنة 1987، ومن قلب المحنة والمعاناة بدأت طلائع الجيل الثالث للمقاومة في الظهور، وكان البيان الأول لميلاد حركة المقاومة الفلسطينية حماس سنة 1987 .
الجيل الثالث (1987ـ 2008 تقريباً)، هو جيل انتفاضة الحجارة، وما بعدها انتفاضة الأقصي. وهم أبناء الذين عانوا الإجراءات الوحشية التي مارستها قوات الاحتلال، في إطار سياسة تكسير الأيادي لمنع المقاومة من إلقاء الحجارة علي قوات الاحتلال. إلي جانب مختلف أشكال الاضطهاد الأخري. وبروز الأجنحة العسكرية هو من أبرز الملامح المميزة لهذا الجيل الثالث للمقاومة مثل كتائب عز الدين القسام، وسرايا القدس، وشهداء الأقصي..إلخ. وكلها ظهرت بعد سياسة تكسير الأيدي والأرجل في عهد رابين، حيث انتقلت المقاومة من قذف الحجارة في الانتفاضة الأولي، إلي قذف الصواريخ محلية الصنع، وقذائف الهاون في الانتفاضة الثانية.
اغتالت إسرائيل أغلب قادة الصف الأول في حركة حماس، وعلي رأسهم الشيخ أحمد ياسين، والرنتيسي، وحوصرت حكومة إسماعيل هنية من أول يوم لتسلمها السلطة مطلع سنة 2006 . ولم يتوقف مسلسل القهر والاضطهاد والحصار والتجويع، حتي بلغ ذروته في المجزرة البشعة التي ارتكبتها قوات الاحتلال في غزة.
الجيل الرابع للمقاومة تتشكل ملامحه الأولي هذه الأيام من تحت ركام الدمار ومن وسط بحور الدماء التي أراقتها آلة الموت الإسرائيلية. ولا بد أنه ستكون له إضافته المتميزة إلي تراث المقاومة، حتي تصل إلي تحرير أرضها، طال الزمن أم قصر. أول ملامح هذا الجيل ستتمثل في عمق نزعة الإيمانية في نفوس أبنائه، وهم أطفال اليوم الذين روّعتهم مشاهد القتل والدماء الغزيرة، بلا أدني جريرة، الأطفال الذين أزهقت براءتهم. الملمح الثاني لهذا الجيل سيتمثل في الرغبة الشديدة في الانتقام عبر الانضمام لعمل جماعي، بدرجة أكثر تركيزاً مما هي عليه الآن في تنظيمات محكمة كحركة حماس، أو الجهاد الإسلامي، وذلك للتعويض عن الشعور بالعجز المختزن من عهد الطفولة، وعدم القدرة عن حماية الأحباء والأقارب الذين استشهدوا أمام عينيه أيام طفولة الشاب، أي في وقت كان ينظر إليهم كمصادر لقوته وملاذ لأمنه. وهم هنا الآباء والأمهات والأشقاء الأكبر للأطفال الذين مروا بتجربة الحرب الأخيرة علي غزة. ويأتي الملمح الثالث وهو "الاحتراف"، الذي يدفع إليه الشعور الدائم بقرب الخطر منه، وتكرار وقوعه. ويتيح الانتماء للتنظيمات والجماعات المسلحة فرصة الاحتراف التي تنزع إليها نفسية الشاب الذي مر في طفولته بخبرة القتل، ورؤية دماء محبيه مراقة. وينتظر اللحظة المناسبة لتفريغ شحنة الغضب المختزن ضد "الغريم" المتمثل في الاحتلال الإسرائيلي.
هذه أهم ملامح الجيل الرابع للمقاومة الفلسطينية القادمة من منظر التحليل النفسي/السياسي. وهي ملامح ستكون مضافة ـ وليست بديلة ـ لملامح المقاومة الباسلة التي لم تستسلم للعدوان، وصمدت في مواجهة رابع أكبر جيش في العالم أربعة أضعاف المدة التي صمدتها الجيوش العربية في عدوان سنة 1967 <

0 التعليقات:

إرسال تعليق