في الافتتان بالعدو


عزت القمحاوى
اسمحوا لي أن أعلن افتتاني بالخصوم والأعداء، حيث أهداني حفل تنصيب أوباما ما يشبه متعة مشاهدة السينما الحلوة.
ولا تندهشوا من تصنيف أوباما عدواً، فليس هو المقصود، لكن بلاده التي قامت على الاستيطان ونذرت نفسها لخدمة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، والحق أن هذه العداوة ليست محسومة بداخلي بشكل قطعي؛ فأعدائي هنا، قزموا بلادنا وأهانوها فأهانها الغرباء البيض الشريرون، ولن يختلف عنهم السمر الطيبون، فلا أحد يتطوع بإنصاف شعوب لم تحاول إنصاف نفسها.
ولا أعرف ما يمكن أن يقدمه أوباما، ولم يساعدني على المعرفة تصريحه الملتبس عن التطلع إلى علاقات جديدة مع قادة الشرق الأوسط تقوم على الاحترام والمصالح المشتركة. لا بد أن أوباما واع بأن مصالح الأوطان تختلف عن مصالح الحكام في هذه البلاد الحزينة، فإن كان ما يعنيه مصالحهم فلا احترام ولا تقدم ولا جديد تحت سقف العلاقات مع أمريكا. وإن كان ما يعنيه هو 'مصالح الشعوب' فأهلاً به.
ولتسعد به أمريكا، وليس نحن، وإن كان الاعتراف بالحق فضيلة، فمن الحق الاعتراف بأن حفل تنصيبه كان مبهجاً كفيلم حلو.
الفرق أن متعة الساعتين في قاعة مظلمة تنتهي دائماً بالتأسي لأن الحياة ليست كالأفلام، ثم نسيان الأسى والتصالح سريعاً مع الحياة، لكن متعة مشاهدة تنصيب أوباما لم تنته بمثل تلك المصالحة، بل بمزيد من الخصام مع الحياة، إن كانت حياة تلك التي نحياها، وبافتتان بالخصوم وبحياتهم، أقاومه واعياً، لكنهم لا يفتأون يجدون أسباباً جديدة للفتنة!

التنصيب هو العلا في كل أمر، حتى في اللغة، النصب تنتصب به الكلمة في الحلق، وهو الوقوف بلغة المشرق، والانتصاب بلغة مغربنا. ولكننا لا نكاد نعرفه خارج اللغة.
لدينا النصب، والغصب والاحتيال، لا التباري الحر الذي ينتهي بحفل تنصيب، يحتفي فيه السابق باللاحق، الذي سيجلس على كرسيه، ويحرمه من الأبهة، وهي أبهة حقيقية وتستحق.
الاحتفال المماثل في عالمنا العربي هو عيد الجلوس، لا الوقوف ولا الانتصاب. الجلوس وهناً، الجلوس شيخوخة، الجلوس جبناً، الجلوس تكبراً، الجلوس فوق رؤوس العباد، لا الانتصاب والوقوف بينهم بشراً بجوار بشر، ثقلهم جميعاً على الأرض.
هذا هو الفرق بيننا وبين أعدائنا وخصومنا. الفرق الذي نعبره عبور الكرام في الصور. مجالس وزرائنا مثل مضافات العزاء وديوانيات ومقاهي الاجترار والثرثرة، هذه هي الصورة التي نراها لوزاراتنا ورئاساتنا، من دون أية مؤامرة خارجية أو سوء قصد من المصورين، بينما لا نرى من مجلس وزراء الكيان الصهيوني إلا الجري في الممرات وهم يتأبطون ملفاتهم، وإن دخلت الكاميرا إلى القاعة، فلكي تشهد على حيوية وخلافات تصل حد العراك، لا التأمين البليد على حكمة القائد.
بالتأكيد مسؤولونا يصلون إلى مقار اجتماعاتهم مشياً أيضاً، لكن لا صور لهم في حالات الوقوف هذه، هل هي مؤامرة من الإعلام أم أن انتصابهم أقل من أن تلاحظه الكاميرا، وجرجرتهم لأقدامهم أبطأ وأوهن مما يتطلبه البث الفضائي؟!
هل هم أنفسهم يخافون وضع الوقوف حتى لا تتهمهم إسرائيل بالاستعداد للحرب؟!
أيدي مسؤولينا فارغة كقلوبهم، لا ملفات لديهم، لأن العلم في الرأس وليس في الكراس، والوقار في القعود والبطء.
وحده الشعر الآن يحاول أن يذكرنا بانتصاب القامة، بينما نحاول أن نذكر أنفسنا: القاعدون لا يمثلوننا، نحن مثل بقية البشر، لا أقل ولا أكثر، ولابد أن نمشي منتصبي القامة، ونقاوم مخاوف القلب وذعر البدن.

تنصيب أوباما فيلم خيالي، مبروك عليهم، أو مبارك.
هناك أسباب للفخر أعلنها الأمريكيون الذين حاورتهم السي إن إن، فخر بشباب رئيسهم، فخر بلونه، فخر برحابة بلادهم وحيويتها.
طابور من الرؤساء السابقين يشهد اللحظة، آخرهم ترك لخلفه في الدرج (الجارور) الأعلى من المكتب ملحوظات بالعالق من الأعمال، بينما تقع في عداد المعجزات عندنا أن يحمل أحدهم صفة رئيس سابق وحي في الوقت ذاته.
لا بعد الرئيس ولا قبله، هو الواحد، إلى أن تتولى السماء أمره. وعندما لا تفعل ذلك في الوقت المناسب لأي سبب كان، يتطلب التغيير جندولاً يسبح في نهر من الدم.
نجوم مجتمع، صبايا وشباب، فرح حقيقي، وضحك من القلب، قسم ديني، وعشرون حفل رقص، فساتين وماكياج، وأجساد حرة لا تتوجس خوفاً من صفعة شرطي أو هبشة متحرش.
نحو ثلاثة ملايين من البشر، لا يجتمعون في مكان واحد على سطح الأرض إلا على جبل عرفات، اجتمعوا للمشاركة في حفل تنصيب أوباما.
حدث تاريخي بالمقاييس العادلة، وليس في أوصاف الصحافة الحكومية ومستشاري السوء، الذين 'يترخنون' الضراط.
واللغة، عنوان أية أمة، ودليل صحتها!
لغة حقيقية، مليئة بالأفعال، وليس مثل لغتنا التي لم يبق لها سوى أفعال الرجاء.
أوباما الشاب المرح الواثق، يخبر بما سيفعل، يأمر ولا (يطالب) أو ينصح أو يأمل؛ فالأمل بين أنامله.
ياله من حفل؛ حفل تنصيب رئيس!

0 التعليقات:

إرسال تعليق