ما بعد إسرائيل


أحمد المسلمانى

هذه سطور من مقدمة الطبعة الثانية لكتابى «ما بعد إسرائيل» والتى تصدر عن «دار ميريت» قريباً.

■ كأن الطبعة الأولى لهذا الكتاب قد صدرت قبل قرن من الزمان.. لقد أصبحت الأوضاع فى الشرق الأوسط تمضى أسرع من البصر وأبعد من البصيرة، فلا النظرة كافية للفهم ولا النظرية كافية للعلم.

فى وقت محدود تحول التساؤل عما بعد إسرائيل إلى ما بعد فلسطين.. قبل عشر سنوات كانت إسرائيل تراجع نفسها فى مناسبة مرور نصف قرن على إعلانها، وكان كثيرون فيها يلقون ظلال شك حول الماضى وظلال يأس حول المستقبل. لكن احتفالات إسرائيل بعيدها الستين جاءت وسط مشهد آخر وعالم آخر. كان الظن أن العام الستين هو عام التقاعد لإسرائيل.. هو بداية خريف مفتوح أو غروب قريب.. غير أن ما جاء كان خارج المنطق وخارج التاريخ.

لم يعد الهدف العربى هو حدود الرابع من يونيو، بل صغر الهدف إلى إزالة الجدار الفاصل، ثم ضمر الهدف إلى فتح معبر وإدخال طعام ودواء.

تحولت القضية من الصراع على الأرض إلى الصراع على الضوء.. وكانت أضواء الكاميرات باهرة وشاسعة.. تغطى كل فصيل وكل فسيلة وضعها فصيل! وأصبح لدينا رجال طرب لا رجال سياسة.. وحل الصوت والضوء محل الوطن.

■ فى أثناء الهبوط رحل شاعر فلسطين الكبير محمود درويش.. ليغيب حلم اللغة بمثل ما غاب حلم السياسة.. ليموت القلب بعد أن مات العقل، لتنكسر الروح بعد انكسار الجسد!

وأذكر أننى قابلت الشاعر الكبير قبل الرحيل بعامين.. وكان الرجل بشوشاً مشرقاً يضحك من الأعماق.. وكان يواصل النكتة بالنكتة ولا يستريح من ذكر اللطائف والطرائف.. وقد كنت أعجب لتلك القهقهة الكبرى والابتسامة الفسيحة.

فقد كانت معطيات الساحة الفلسطينية لا تدعو إلى ابتسامة واحدة.. ثم أدرك الرجل ما أدركت.. فقال لى: إننى مثل تلميذ بليد أدى الامتحان ورسب، وقد سكب من البكاء ما يكفى ألف فشل.. ثم فقد البكاء دلالته.. لم تعد الدموع قادرة على غسل الآلام.. فكان الخيار الآخر.. كانت الحركة القاتلة نحو النقيض.. إننى أضحك لأواصل الحياة والبكاء.. ولكننى إذ أضحك وأبكى، أوقن تماماً أن كل شىء قد انتهى.. الأشعار والرجال.. القصيدة والوطن.

■ تقع سطور هذا الكتاب فى نطاق ما وراء البكاء.. هى سطور تؤمن بأن الجهل خيانة واليأس خيانة.. وأنه فى لحظات المصير القاسى.. فإن الأمل يعادل الوطن.

0 التعليقات:

إرسال تعليق