تفسير نفس سياسى


تفسير نفس سياسى
د. سعيد إسماعيل على
عرفت العلوم النفسية منذ سنوات غير قليلة ما يسمي بعلم النفس السياسي، مثلما عرفت علم النفس الصناعي، وعلم النفس التربوي، وعلم النفس الاجتماعي.. وهكذا، حيث تتجه الدراسة في علم النفس السياسي إلي دراسة «السلوك» السياسي، وبدلا من الاتجاه إلي «الظاهرة» السياسية من خارج كما تتجلي في ممارسات السلطة، يتجه هذا المجال إلي «الداخل» النفسي، لا بمعني «الباطن»، بقدر ما يكون بمعني البحث عن الدوافع والآثار النفسية، التي يشير إليها السلوك، مما يمكن أن يخضع للبحث العلمي، ولعل أبرز وأشهر ما يعرفه جمهور الناس من جوانب هذا العلم النفسي السياسي هو ما اصطلح علي تسميته بالحرب النفسية.

لفت نظري إلي هذا الجانب ما سبق للكاتب المتميز فهمي هويدي أن كتبه علي صفحات الدستور من سعي ملحوظ لدي النظام المصري «لخلق» و«فبركة» وقائع مزعومة، والترويج لها عبر كتابه الحكوميين، وكتابه الأمنيين، ذلك أن هناك فئة من الكتاب يتشيعون لما تراه الحكومة، قلما يكون عن اقتناع، بل نفاق واسترضاء، حيث هم كتاب بدرجة «موظف» لدي النظام، وهناك فئة أخري صدق هويدي عندما أكد أنهم قد استُغرقوا في الجهاز الأمني وأصبحوا يساعدونه - أو يساعدهم، أو يملي عليهم - للترويج لبعض الوقائع المختلقة أو النفخ في مستصغر الشرر.


وقد ذكرني ما يحدث الآن، بما كان قد أشيع، بعدما اقتحم فلسطينيو غزة الحدود المصرية منذ فترة هربا من الحصار الخانق، بحثا عن لقمة عيش ونقطة بنزين وشربة ماء، فقد نشر في مصر أن شيخا فلسطينيا قد أفتي بجواز قتل العسكر المصريين، وبناء علي نشر هذا الخبر راح كتاب وصحفيون ينددون، ويلعنون، ويتوعدون.. كل ذلك، والشيخ لا يدري شيئا، حتي أوصل له أحد الناس ما قيل عنه، فضرب كفا بكف وأقسم أنه لم يصدر عنه مثل هذا، وراح يطالب بالدليل، سواء كان مكتوبا أو مسموعا، أو مشاهدا، ولم يظفر الرجل بإجابة، لأن الخبر مختلق من الأساس، لكنه كان قد فعل فعله في التشويه والترويج، فضلا عن أن «التكذيب» لم ينتشر بمثل ما انتشر به الخبر الكاذب!

يضاف إلي ما يتم اختلاقه من أنباء في صورة من صور الحرب النفسية، هذه الحملة المثيرة للدهشة في الأوساط الحكومية علي حركة حماس، واتهامها بأبشع التهم، في الوقت الذي تتساقط فيه كل دقيقة عشرات القنابل ويموت عشرات، وتسوي المباني بالأرض، وتسيل الدماء أنهاراً، ولا غذاء ولا ماء ولا أدوية، ولا ينال الإسرائيليون البغاة القتلة عُشر ما تناله حماس من هجوم ونقد، وقارن هذا بموقف رجل محترم مثل هيكل، الذي أعلن أن له تحفظات كثيرة علي حماس، لكنه لا يريد في مثل هذا الظرف الراهن المفزع المشين أن يوجه إليها أي نقد!

وإذا كانت الصحف والإذاعات والقنوات التليفزيونية التي تسيطر عليها الدولة «مضطرة» لأن تقول ما يثير التقزز والغثيان في هذه المصيبة القائمة، فإن ما أثار دهشتي حقا في البداية ثم كان ما كتبه هويدي قد فسره لمثلي ممن هم بعيدون عن «المطبخ الصحفي»، هو بعض صحف غير حكومية كانت قد أخذت موقعها من التقدير والاحترام، فإذا بعموم ما ينشر فيها يتناغم إلي حد كبير مع ما تروج له الأبواق الحكومية.

وبالأمس - الأحد - مساء (11 يناير)، تصادف أن توقفت بمؤشر القنوات التليفزيونية عند إحدي قنوات الدولة، لأسمع ما يقوله أحد كتاب السلطة، مع أنني أضن دائما ولو بدقيقة من وقتي أسمع فيها هذا الصنف، لكن، هكذا كان حظي التعس هذه الليلة، في غفوة عقلية مني، فإذا بالقائل لا فض فوه يسوق دليلا مهما علي سوء حركة حماس، وهو أنها تسمي نفسها الإسلامية لا الفلسطينية!

ساعتها تساءلت: فليطبق صاحبنا قاعدته السياسية الفكرية العظيمة، ويفتش في اسم حزب الحكومة المصرية، إذ لن يجد فيه كلمة «المصري»، ولا في حزب الوفد، ولا التجمع، ولا، ولا إلخ، فهل يمكن أن يُخَوِّن كل هؤلاء؟ واذكر في الصحيفة أيضا كل أحزاب العالم الكبري مثل حزبي المحافظين والعمال في بريطانيا، والديمقراطي والجمهوري في أمريكا، وهكذا!

وودت لو أسال صاحبنا هذا: أليست الحركة تسمي نفسها «مقاومة»؟ فمن تقاوم؟ تقاوم احتلالا إسرائيليا لأرض فلسطين! بل إنها هي الوحيدة التي نبتت من الأرض الفلسطينية منذ عام 1987، من بين المقيمين، من يتعذبون ويكتوون بنار الاحتلال، «خدمة أربع وعشرين ساعة»، ولم يعرف زعماؤها السفر عبر بلدان أوربا وأمريكا وآسيا، والإقامة في أفخم فنادق العالم 00ومن أجل فلسطين اختاروا المقاومة، وكان يمكن أن يلقوا السلاح وينعموا بمثل ما ينعم به من يتولون السلطة، التي تسمي بالشرعية، وتفيض عليهم الملايين من الدولارات؟

وإذا كنا نقدر مقدار الحزن الذي شعر به أمثال هؤلاء علي دم الضابط المصري، ونشاركهم في هذا، لكننا نتميز عن هؤلاء بأن مشاعرنا ما زالت تفيض حزنا وكمدا علي ألف وأربعة وثلاثين مصريا غرقوا في البحر منذ عامين، ولم تستطع العدالة أن تقتص من المسبب لأن له حماية يعرفها القاصي والداني!

وقلوبنا ما زالت تمتلئ بالحزن علي الصياد المصري المسكين الذي أطلقت عليه بارجة أمريكية النار في قناة السويس، ولم نر ولو استدعاء لسفير ولا احتجاجا، ولم لا؟ وهل رأينا مثل هذا عندما أسقط الأمريكيون طائرة مصرية بركابها المصريين منذ عدة سنوات وراحت دماؤهم هدرا؟

ومن عجب حقا، أنهم ينهالون أيضا بالنقد والتجريح لقناة الجزيرة، علي عكس ما يجب أن يكون، من حيث إزجاء التحية لها وتقديم وافر آيات التقدير، ذلك لأنها بلغت أقصي درجات الحرفية المهنية وحرية التعبير، وإن عايروها بأنها لا توجه نقدا لحكومة قطر، فإننا نسأل : وأين هو الجهاز الإعلامي في أي دولة عربية الذي يوجه نقدا لحكومته؟ وما دام الجميع هكذا، فلم تختص الجزيرة باللوم والتقريع؟ لأنها الأكثر نجاحا، ولأنها الأكثر حرية ولأنها تفضح الممارسات التي لا نعلمها في بلداننا، وهي إذ تضعنا دائما «في الصورة» من حيث المتابعة المستمرة، دقيقة بدقيقة لمشاهدة الجرائم الإسرائيلية علي أهلنا في غزة، إنما تساعد بذلك في فضح الممارسات القائمة، وتساعد في تعبئة المشاعر العربية، لعلها يمكن أن تحرك شعرة في رأس حاكم عربي!!

ويأتي السؤال: لم يفعل النظام المصري وأمثاله من النظم العربية كل هذا، من حيث التشويه المستمر لقوي المقاومة والتنديد بها وتحميلها السبب في الحرب، مع أنها لم تكن البادئة أبدا؟

أحد أوجه الإجابة، هو أنه هكذا تريد أمريكا وإسرائيل!

لكن هذا يثير تساؤلا آخر: ولم هذا الحرص علي إرضاء أمريكا وإسرائيل، حتي علي حساب وطننا الغالي الكبير؟

هنا نجد ما أصبح مشهورا من معرفة الحكام العرب أن الطريق إلي إرضاء أمريكا هو إرضاء إسرائيل!

ومع ذلك يستمر السؤال : ولم «الاستموات» في إرضاء أمريكا؟

لأنها هي التي تحمي العروش وكراسي الرئاسات، وبالتالي تضمن تطويعهم لما تريد، ولو ظللت تسأل عما يبرهن علي هذا، قلنا لك لأن أحدا من الحكام العرب لم يجئ بإرادة الناس، فبعضهم جاء وارثا، وآخرون تزويرا، والبعض صدفة، والبعض علي ظهر دبابة!!

أما الوجه الثاني للإجابة عن السؤال الأول:

لأن استمرار هذه المقاومة يفضح الخنوع القائم لدي هذه النظم، ويعريها ويكشفها أمام الجماهير، ومن هنا تتمني أن تفشل وتذهب إلي الجحيم!

وأضف إلي ذلك أن حكومة المقاومة هي الوحيدة التي وصلت إلي السلطة عن طريق انتخابات موضوعية حرة ونزيهة، وهذا سبب آخر يتمنون زواله من علي الخريطة، لأن هذا يذكر الناس، بأن خيار المقاومة هو الذي اختاره الناس وانتخبوه.

وأصارح القارئ بتردد كبير وأنا أُقدم علي مثال أشرح به ما سبق، لكن، ماذا أفعل إزاء هذا الفُحش السياسي الذي يصفع أعيننا في كل لحظة، في الوقت الذي تدمع فيه علي آلاف القتلي والجرحي الفلسطينيين، حيث نقبع في أماكننا لا نفعل شيئا إيجابيا، فحولنا عشرات السيارات المصفحة المدججة بمئات الجند المسلحين لضرب كل من تسول له نفسه، ولو تعبيرا عن مناصرة أو احتجاج، ومثلي قد وهن العظم منه واشتعل الرأس شيبا؟!

أما المثال، فهو: تخيل لو أن أربع إناث ذهبن لأمر من أمور الحياة اليومية، فإذا بعصابة من منحرفين تعترضهم، ثم تتحرش بهم جنسيا وتراودهن عن أنفسهن، فترضخ ثلاث منهن، وتصر الرابعة علي الرفض، ثم عاد الجميع إلي موطن إقامتهن، وشاع الخبر، فمن من الأربعة سوف توجه لها الاتهامات إساءة السمعة؟ إنها الرابعة التي امتنعت وقاومت، ذلك أن الثلاث المستجيبات، سوف لا يرضون أن ينكشف رضوخهن، وتظل الرابعة في مأمن وتبدو هي «الشريفة» الوحيدة!!

0 التعليقات:

إرسال تعليق