قناة الجزيرة و«قطر» فى خطر


يسرى فودة
استقالتى من قناة الجزيرة لا تعنى أننى خاصمتها. ببساطة هى تعنى فقط أننى لا أريد أن أبقى رقماً فى معادلاتها الجديدة. إذا كان جانب منى حزيناً على فراق شاشتها، فإن جانباً آخر منى سعيد بانضمامى إلى مشاهديها. وإذا كان جانب منى يرجو لزملائى بها (هؤلاء فقط الصادقون المهنيون الذين يحترمون أنفسهم فيحترمهم الآخرون) كل التوفيق وكل النجاح ما وسعتهم الظروف، فإن جانباً آخر منى يدعونى إلى أن أتحمل واجبى ومسئوليتى تجاه نفسى وتجاه من أتوجه إليهم بما قدرنى الله عليه من عمل.

تجربة الحرية، بمعنى من المعانى، كتجربة الموت؛ فمثلما لا يستطيع المرء أن يزور الموت ثم يعود منه، لا يستطيع المرء أيضاً أن يزور الحرية ثم يعود منها. وقع عقلى على هذه الصورة الملهمة بينما كان هؤلاء الذين شاركوا فى تأسيس قناة الجزيرة (وأنا واحد منهم) فى نشوة اللحظات الأولى لانطلاقة القناة عام 1996.

كان الأمر مفاجأة لنا جميعا،ً فلم يكن أحد (حتى من هؤلاء الذين تخرجوا فى تليفزيون بى بى سى) ليتوقع ربع النجاح الفورى الذى أحرزته قناة انبثقت فجأة من صغرى الدول العربية. وأقولها صراحةً وإنصافاً إن الغالبية العظمى لهؤلاء الذين شكلوا نواة القناة غادروا لندن حين غادروها فى طريقهم إلى الدوحة مضطرين بعد انهيار مشروع بى بى سى (بقيت أنا لمجرد أننى استطعت البقاء مهنياً)، وأن أحداً منا لم تكن لديه فكرة عن كنه المشروع القطرى.

سريعاً بات من الواضح أن قناة الجزيرة وجدت ضالتها فى شارع عربى يعانى حرماناً على مستويات عديدة: سياسية وإعلامية وثقافية وإنسانية، ومن ثم استحوذت فجأة على خانة لا منافس لها فيها. ولأن المرء يتفوق على أقران الصف لسبب من ثلاثة، إما لأنه اجتهد أو لأن الآخرين أهملوا أو لمزيج من الاثنين، فقد بدا تفوق الجزيرة لأول وهلة فى تقديرى للسبب الثانى أكثر منه للسببين الآخرين دون أن أنكر على زملائى جهودهم.

فمن الناحية المهنية، لم نضف كثيراً إلى عالم الصحافة التليفزيونية عندما وضعنا مذيعاً فى استوديو ومعه ضيف أو اثنان. لكنّ الواقع العربى اكتسب الكثير عندما أضيف إلى الاستوديو عنصر آخر لم يعرفه من قبل، ولم يكن فى حاجة إلى ميزانية ولا إلى عبقرية: خط هاتف مفتوح لمن يريد أن يتكلم على الهواء أمام الملايين داخل بلاده وخارجها. لقد كان هذا ببساطة انقلاباً فى واقع المواطن العربى لا فضل كثيراً فيه للعاملين فى الجزيرة بقدر ما عاد الفضل فيه لما وصف وقتها بـ«سقف الحرية».

ولأن ما مُنح من أعلى يمكن أن يُسترد فى أى لحظة، فقد كانت تلك ظاهرة سياسية أكثر منها ظاهرة إعلامية جعلت رد فعل الآخرين عليها يمر بثلاث مراحل. كانت ملامح المرحلة الأولى منها سياسية بحتة، تمثلت فى أمور من مثل سحب سفراء من الدوحة واتصالات مكثفة وضغوط حثيثة لاحتواء هذه التى أطلق عليها البعض مصطلح »الظاهرة الصوتية«. وكالطفل الصغير الذى جرب المشاغبة فاكتشف أنها تلفت الأنظار، اكتشف المسئولون فى قطر، صغرى الدول العربية (ولا عيب فى ذلك)، أن بين أيديهم الآن ما يمكن أن يتحول إلى كنز وبين أيديهم دائماً حجة ألا شىء يحدث فى قطر يستحق التغطية (وهو ما ليس صحيحاً).

هذا فى الوقت الذى بدأ رد فعل الآخرين ينتقل إلى المرحلة الثانية تقوده طاقة سلبية أكثر منها إيجابية. فبدلاً من تطوير الأداء الإعلامى بدأت حملات لاذعة، بعضها تحت الحزام، صاحبها إغلاق مكاتب وتوقيف مراسلين و«شغل فى الأزرق». وكلما زاد ذلك زادت نشوة «الطفل المشاغب»، يوازيها شغف واهتمام متزايد فى دوائر إسرائيلية وأمريكية كانت تتابع انعكاسات هذه الظاهرة بدقة وعناية. ومن ثم بات واضحاً أننا أمام طوفان يحاصر البيت، وأننا إذا لم نبادر بإحداث بعض الثقوب فى الأبواب والنوافذ بأنفسنا، فلن يكون للطوفان سوى نتيجة واحدة حتمية.

كانت تلك لحظة فارقة تُحسب طبعاً لقناة الجزيرة، لكنها تُحسب أيضاً لهؤلاء الذين قبلوا التحدى وانطلقوا بطاقة إيجابية نحو تحسين الأداء الإعلامى، فبدأنا نرى ألواناً جديدة من التغطية الخبرية وبرامج الأحداث الجارية، حتى بدأنا نرى قنوات بأكملها تنطلق تعبيراً عن هذه المرحلة، ومنها قناة النيل للأخبار فى عام 1998 وقناة أبوظبى فى عام 2000 وقناة العربية فى عام 2003. والمستفيد الأول دون شك هو المواطن العربى أينما كان.

غير أن النجاح غير المشكوك فيه لقناة الجزيرة حتى تلك النقطة لم يكمن تماماً فى إزعاج الحكام العرب، وإنما ظهر واضحاً، كما يرى متابع جيد مثل أمير طاهرى، فى استغلال حالة ما يوصف بالشارع العربى واستدرار تعاطفه، عن طريق افتراض أن الأصولية الإسلامية فى تصاعد فى كل الدول العربية، وأن الغالبية العظمى تؤيدها سراً. ورغم ذلك كان هناك مجال لا يزال حتى تلك النقطة لمن يعتمدون العمل الصحفى الميدانى القائم على المهنية والبحث والتدقيق، للخروج عن هذا الخط، طالما أن ما يوصف بالبرامج الحوارية (التى يسهل السيطرة عليها) لا يزال «مسلّياً»، والأهم من ذلك أنه بطبيعته البحتة لا يستطيع الاستمرار بعيداً عن ذلك الخط.

بدأت مرحلة جديدة فاصلة بعد خمس سنوات صارت الجزيرة فيها أهم من قطر، وهو وضع غير طبيعى فتح باباً واسعاً لكثير من المتناقضات، حتى أن أحد الضيوف من غير العرب سأل الزميل محمد كريشان يومها (وهذه ليست نكتة): «و كيف حال الطقس هذه الأيام فى الجزيرة؟» ظناً منه أن قطر هى القناة والجزيرة هى الدولة. وكانت قناعة المسئولين فى قطر قد اكتملت بأن لديهم الآن جيشاً قوى البنية حان الوقت لاستخدامه فى بعض الغزوات، ومن ثم رفضوا تماماً (على عكس ما كان مفترضاً وفق قانون إنشائها) طرح أسهم الجزيرة فى الأسواق بعد خمس سنوات، وبدأنا نلحظ وتيرة متصاعدة للتدخلات التحريرية. حتى ذلك الوقت فقط كانت الإدارة قد رفضت إذاعة ثلاثة تحقيقات جادة من برنامج «سرى للغاية».

دشنت المرحلة التالية بدورها مرحلة أخرى على صعيد آخر: نظرة الغرب عموماً إلى مدى قدرة الإنسان العربى على ممارسة صحافة جادة قادرة على المنافسة العالمية، والأهم من ذلك نظرة دوائر بعينها فى إسرائيل وفى أمريكا إلى هذه «الورقة» الجديدة. ولأننا نعلم من قوانين الجغرافيا السياسية أن أى دولة فى حجم دولة كدولة قطر (مع صادق احترامنا لأهلها) لابد كى تحيا من أن تعيش تحت ظل دولة كبرى، عادةً تكون إحدى دول الجوار، فقد كان الموقف فى حالة دولة قطر كالتالى: إلى يمينها إيران «المتوثبة»، وإلى يسارها السعودية «كاتمة الأنفاس»، ومن فوقها عراق صدام، وعلى مرمى البصر إسرائيل ومصر. ثم بعد ذلك هناك شيخ الحارة كلها: أمريكا.

ولأننا نعلم أى خيار استراتيجى ذهب إليه المسئولون فى قطر فقد صارت الجزيرة، خاصةً لدى بداية تلك المرحلة، عضلة تبدو عملاقة، وإن كانت فى الواقع عضلة هشة يمكن ببساطة إغلاقها بمكالمة هاتفية مختصرة، مثلما يمكن ببساطة «اختطافها» لخدمة أهداف بعينها بعضها فورى وبعضها الآخر استراتيجى، بعضها يمكن رؤيته بالعين المجردة، وبعضها الآخر يحتاج إلى أكثر من ذلك بكثير. فى لحظات المصير، رغم ذلك، تسقط الأقنعة وتبين الملامح.

بدأت التهيئة الإعلامية لغزو العراق الذى أدى فى النهاية إلى كثير من النتائج، من بينها ذبح صدام حسين، لكن ذبحاً آخر كان قد سبقه لم يلتفت كثيرون إلى معناه: ذبح المدير العام للقناة حتى ذلك الوقت، محمد جاسم العلى. كانت مرحلة «اختطاف» قناة الجزيرة قد بدأت، وكنت أنا قد قدمت استقالتى منها رسمياً لأول مرة، الأمر الذى استدعى تدخلاً مباشراً من أمير قطر. وتلك قصة أخرى.

عروبـة مؤجلـــة للمستقبــل


جاء نجاح المسابقة الأولى لـ«جوائز الصحافة المصرية» بمثابة الشرارة التى أطلقت مشاعر جياشة داخل المجتمع الصحفى وخارجه، كان يبدو أنها تراجعت تحت السطح، مشاعر بأهمية التفوق فى الأداء المهنى الصحفى لمصلحة القارئ أولا، ولحقيقة أن لدى الصحفيين ما يستحق المنافسة من أجله.

ومن بين التعليقات العديدة المنشورة سأضرب مثلا بمقال على مساحة ثلاث صفحات فى مجلة «روزاليوسف» كتبه عدلى فهيم بعنوان «الليلة الكبيرة» حيث انطلقت أصوات الصحفيين الشبان على وجه الخصوص يغنون (سنة حلوة يا صحافة.. سنة حرة يا صحافة).. وقبل أن يغادر الجميع قاعة الحفل تجمعوا حول تورتة كبيرة من الشيكولاتة حملت شمعة واحدة، وترصعت بكلمات أشبه بحبات اللولى الحر: مبروك لجوائز الصحافة المصرية، وقطع التورتة واحد من شيوخ الصحافة ولكنه شيخ الشباب أيضا.. هو صلاح حافظ.

كانت تلك هى طبيعة صلاح حافظ فعلا.. شاب فى شيخوخته.. وفنان فى حماسه، ومرة على الأقل فى كل أسبوع كان يذهب إلى مؤسسة «روزاليوسف» حاملا فى حقيبة يده تحقيقات وموضوعات صحفية أعاد صياغتها أو اختار لها عناوين أكثر جاذبية ليجرى نشرها.

وفى المرة الأولى التى زارنى فيها بعد الاحتفال قال لى: «تصور.. أنا اعتدت منذ سنوات طويلة، وفى كل مرة أذهب فيها إلى روزاليوسف، على سماع المناقشات العديدة بين الصحفيين وفى مقدمتها الشكوى المستمرة من عدم كفاية المرتب أو استمرار الجمود المهنى، ومنذ احتفال الجوائز تذكر الصحفيون أنهم.. صحفيون، لقد تحولت المناقشات إلى التسابق على طرح أفضل الأفكار لتحقيقات صحفية يكفل لهم نشرها التقدم بها إلى المسابقات التالية، الكل بدأ يبحث عن الفكرة الجديدة أو غير المسبوقة، ويتعمق فى تفاصيلها لكى تصبح أشمل وأكثر جاذبية.. وهكذا.. وهكذا».

نفس الانطباع خرج به أحمد بهاء الدين من مناقشات سعى إليها معه صحفيون من «الأهرام» و«الأخبار» و«الجمهورية» بخلاف صحف المعارضة جميعا، وكان من الملاحظات التى نبهنا إليها هذا الحماس الصحفى المستجد، التساؤل المتكرر: لماذا فاتنا أن نضيف إلى المسابقة جوائز للإخراج الصحفى؟ ووجدنا أن هذا معقول فعلا، فالمخرج الفنى ويسمى غالبا: سكرتير التحرير هو بمثابة العقل المفكر المسئول عن جعل صفحات الجريدة أو المجلة أكثر تناسقا وجاذبية من حيث الإخراج والاستثمار المناسب لأحجام العناوين والصور والرسوم الكاريكاتيرية، إن وجدت.. إلخ.

وكان هناك زملاء آخرون اقترحوا فروعا لجوائز إضافية، سواء للصحف الإقليمية.. أو لصحافة وكالة أنباء الشرق الأوسط، وهى الوكالة الوحيدة فى مصر.. و.. و.. إنما المشكلة كانت فى محدودية المساهمات المالية المتاحة، فهى كبيرة فى معناها لكنها فى النهاية لا تزال محدودة فى قيمتها المالية، هذا تغير فقط بعد الاحتفال الأول للجوائز، وكان فألا طيبا أن يتصل بى إحسان عبد القدوس مداعبا لى بقوله: يا محمود.. لو مش عايز تزورنى وتشرب قهوة.. على الأقل تعال لتستلم الشيك (بألف جنيه) للمسابقة الثانية.

ومبدئيا فإن كل من ساهموا فى المسابقة الأولى كرروا مساهمتهم، وبنفس المبالغ، فى المسابقة الثانية، لكن فى هذه المرة زاد عليهم زملاء إضافيون جدد، صلاح منتصر مثلا قدم مساهمته المالية فى اليوم التالى مباشرة لتسلمه نصيبه السنوى من الأرباح فى جريدة «الأهرام».. قبل أن يصبح رئيسا لمجلس إدارة دار المعارف ورئيسا لتحرير مجلة «أكتوبر».محمد سلماوى بدأ يساهم رغم أنه يرى أن فكرة الجوائز قد لا تكون مريحة، وربما مستفزة، للصحفيين غير الموهوبين، خالد محيى الدين رئيس حزب التجمع أراد المساهمة فقلت له إننا لا نقبل المساهمة من غير الصحفيين، فذكرنى ومعه الحق بأنه عضو قديم فى نقابة الصحفيين، فوق ذلك.. فقد حرص عدد من الفائزين بالجوائز فى المسابقة الأولى بأن يساهموا ماليا فى المسابقة الثانية.. كعبدالقادر شهيب وإحسان بكر مثلا، كل هذا، وغيره، سمح لنا أن نرفع قيمة الجوائز فى المسابقة الثانية من 18 ألفا إلى 25 ألف جنيه (بقيمة الجنيه فى سنة 1986).

لكن قبل الوصول إلى تلك النقطة كنت فى طريقى إلى لندن لاستراحة قصيرة، وأيضا لعلاج آلام فى العمود الفقرى، وهناك اكتشفت أن الفكرة التى غادرتها فى القاهرة قد سبقتنى أيضا إلى لندن، فى ذلك الحين كانت لندن مقرا لطباعة وإصدار العديد من الصحف والمجلات العربية المهاجرة، وينشر فيها عدد لا بأس به من الصحفيين المصريين، هؤلاء أيضا وجدتهم يتساءلون: أليست هناك أى طريقة تسمح لنا بالتقدم إلى المسابقة بأعمال لنا منشورة فى لندن؟ للأسف.. لا توجد، فنحن فى لجنة الجوائز متفقون من البداية على أن تقتصر الجوائز فقط على الأعمال المنشورة فى الصحافة المصرية، حتى رؤساء تحرير الصحف العربية الذين كانوا قد اتصلوا بى من الكويت والإمارات وغيرهما كانوا يعرضون مساهمة صحفهم بمبالغ كبيرة تمويلا للمسابقة.. لكننى كنت أرد بأننا متفقون فى هذه المرحلة على تأجيل ذلك للمستقبل بعد أن تكتسب الجوائز ملامحها الدائمة، وكنت أرى أيضا أن الوقت لا يزال مبكرا لتوسيع نطاق الجوائز بالامتداد إلى صحف وصحفيى العالم العربى.

وفى لندن أطلعنى الصديق اللبنانى فؤاد مطر، رئيس تحرير مجلة «التضامن» على عدد من المجلة خصصت فيه مقالها الافتتاحى للترحيب بالجوائز المصرية، والتنويه إلى أنه من بين ما جعل للجوائز المصرية صداها غير المسبوق فى الصحافة العربية -إلى جانب الاستقلالية فى التمويل- هو أن ثلاثة على الأقل من أعضاء لجنة التحكيم لهم مصداقيتهم باتساع العالم العربى بالنظر إلى انتشار مقالاتهم التى تنشرها لهم كبريات الصحف العربية، فى نفس الوقت كانت قد سبقته مجلة «الوطن العربى» التى تصدر من باريس إلى كتابة مقالها الافتتاحى عن المسابقة أيضا واختتمته بقولها: «هكذا تسبق مصر الجميع دائما، إن الروح الديمقراطية العادلة التى تسود مسابقة جوائز الصحافة المصرية هى التى فاجأت الجميع، ونحن نتطلع من الآن إلى أن تفاجئنا المسابقة مستقبلا بأن تشمل أيضا الصحفيين فى المطبوعات والإصدارات العربية»، ترحيبات من هذا النوع تواتر نشرها فى صحف ومجلات عربية أخرى أقدر مشاعرها تماما مؤجلا التفكير فى ذلك إلى المستقبل.

وفى لندن أيضا كانت السيدة همت مصطفى هى المستشار الإعلامى للسفارة من بعد استقالتها من عملها كرئيسة للتليفزيون فى القاهرة، وحينما علمت بوجودنا فى لندن -أحمد بهاء الدين وأنا- تفضلت هى وزوجها بدعوتنا إلى العشاء فى منزلها.. لأفاجأ أيضا بأن مسابقة جوائز الصحافة المصرية قد تسللت إلى مناقشتنا: هل تتابع المسابقات الشبيهة فى الصحافة البريطانية؟ نعم، أتابع، فمؤسسة «الديلى ميرور» الصحفية تعهد سنويا إلى لجنة خاصة مهمة اختيار الأعمال الصحفية المرشحة للفوز، لكن الذين يرشحون هم رؤساء تحرير الصحف الأخرى أنفسهم، هذا قد لا يناسب حالتنا فى مصر لأن الثقة ليست كبيرة بعد فى بعض رؤساء التحرير من حيث تغليب انحيازاتهم السياسية أو الشخصية، والدليل على ذلك أن صحفيين عديدين من صحف قومية تقدموا إلينا بأعمال لهم منشورة فى صحف المعارضة وليس فى صحفهم القومية.

كنت أيضا قد درست جوائز «بوليتزر» السنوية فى الصحافة الأمريكية وتنظمها مدرسة الصحافة فى جامعة كولومبيا لإعطاء جائزة واحدة عن كل واحد من عشرة فروع صحفية حددتها، فى الحالة البريطانية قيمة الجائزة ألف جنيه إسترلينى، وفى الحالة الأمريكية القيمة ألف دولار، ونحن فى مسابقتنا المصرية بدأنا بثمانية فروع ستصبح عشرة فى المسابقة الثانية، والجائزة الأولى فى كل فرع 1500 جنيه بخلاف جائزة ثانية وثالثة، لا بأس من المقارنة إذن مع تميز جوائزنا بأنها ممولة بالكامل من صحفيين، 18 ألف جنيه فى المسابقة الأولى أصبحت 25 ألف جنيه فى السنة الثانية، وربما لو حسبنا فارق العملة فسنجد أن فلوسنا هى «الأكثر حلالا فى بر مصر» بتعبير أحمد بهاء الدين.

ونتيجة للمصداقية التى أكدتها «جوائز الصحافة المصرية» فى سنتها الأولى فقد أخذها الصحفيون بجدية مضاعفة فى سنتها الثانية، لقد تضاعف الإقبال، سواء من حيث عدد الصحفيين المتقدمين أو من حيث أعمالهم المنشورة وتقدموا بها، هذا بدوره ضاعف من جهد رؤساء لجان التقييم وأعضاء اللجنة العامة للتحكيم بمراعاة اعتبارين: إن كل هذا مجهود تطوعى من أوله إلى آخره.. وأن معظمنا لديه التزاماته الصحفية الثابتة، سواء على مستوى الصحافة المصرية أو العربية.

ومع إعلان نتائج المسابقة فى سنتها الثانية أصبح عدد الفائزين 31 صحفيا من بين مئات معظمهم تقدم للمسابقة بأكثر من عمل فى أكثر من فرع، ونستطيع أن نستعيد ضراوة المنافسة من معرفة أنه من الفائزين فيها من هم برصيد وخبرة مرسى عطا الله وحسن المستكاوى وهدايت عبد النبى ومجدى مهنا وطارق الشناوى.. كمجرد أمثلة.

ومع الاحتفال بتوزيع جوائز الصحافة المصرية فى سنتها الثانية، وتحدد له 19/7/1986، كان المدعو للمشاركة هو رئيس الوزراء الجديد الدكتور على لطفى. فى تلك المرة كان الإصرار مستمرا على أن يكون الصحفيون أنفسهم مسئولين عن كل خطوات المسابقة من أولها وحتى تنظيم الاحتفال بها، وبالإجمال.. كان رد الفعل فى المجتمع الصحفى يتلخص فى: إن هذه المسابقة ولدت لتبقى.. وتستمر.

بببوبكل تلك الآمال والانفعالات أصبح الصحفيون يتساءلون من اليوم التالى مباشرة للاحتفال: متى ستفتحون باب التقدم إلى الجوائز فى سنتها الثالثة؟
ولم يكونوا يعرفون بعد أن الثالثة.. تابتة.

توابع النزاهـة والأحكام الغيابية


فى طريقى إلى رئيس الوزراء كمال حسن على، كانت تغمرنى تلك المشاعر المتضاربة التى خرجت بها من التجربة الأولى لإقامة مسابقة «جوائز الصحافة المصرية»، وباعتبارها تجربة أولى، فقد كان القلق عليها بقدر الحماس لها.. والتفاصيل بنفس أهمية الخطوط العريضة وتفاعل شيوخ المهنة مع شبابها يوازى رد الاعتبار لأهمية إتقان الأداء المهنى فى الصحافة، الذى هو الوجه الآخر لحق القارئ فى المعرفة ومسئولية الصحفى عن التمييز بين الرأى والخبر.

وبوجهه البشوش الذى لا يوحى أبدا بخلفيته العسكرية (ترك كمال حسن على القوات المسلحة برتبة فريق ) قال لى رئيس الوزراء: الحقيقة أنا طلبتك لسببين.. لأعتذر لك.. ولأشكرك.

فأما الاعتذار.. فلأننى جئت إلى هذا الاحتفال مترددا، أقدم رجلا وأؤخر أخرى، لم تكن لهذا الاحتفال سابقة لأقيس عليها، ولا لتلك الجوائز تاريخ لأعود إليه، وطبعا.. أولاد الحلال كثير.. قالوا لى يا أفندم معقول تروح برجليك لتجلس فى وسط 300 صحفى فيهم كده، وكده.
قلت له: يا سعادة رئيس الوزراء.. من غير كده، وكده.. مالهم الصحفيين؟ وحوش الغابة أو من أكلة اللحوم البشرية مثلا؟

قال رئيس الوزراء ضاحكا: مش بالضبط.. إنما أنت شايف.. كفاية رسوم الكاريكاتير اللى بتسلخنى أنا والحكومة كل يوم، على أى حال.. جئت إلى الاحتفال بهذا التوجس، وأنا هنا أكلمك بصراحة، لكن من أول دقيقة بدأت فكرتى المسبقة تتغير تماما بعد أن وجدت نفسى فى وسط صورة متحضرة وغير مسبوقة لمهنة جعلت تلك الجوائز شيوخها يتفاعلون مع شبابها على ذلك النحو البديع، وخلال ربع ساعة أدركت من هو صاحب المولد كله، ولذلك رجوت حضورك لأعتذر لك مبدئيا عن ترددى فى الحضور الذى سبق الحفل.

فى تلك اللحظة استعدت تلقائيا تلك الغصة فى حلقى المستمرة معى منذ اليوم الذى استقبلنى فيه مدير مكتبه ليطرح أمامى شروطا عبثية رفضتها جميعا.. قبل أن يعيد الاتصال بى فى مساء نفس اليوم، بينما كان يزورنى مصطفى حسين، ويخبرنى بموافقة رئيس الوزراء على قبول الدعوة لحضور الاحتفال.

ثم أضاف كمال حسن على رئيس الوزراء بكل مودة: الآن أكرر لك شكرى عن نفسى وعن الحكومة على أنكم بدأتم هذا التقليد غير المسبوق فى الصحافة أو أى مهنة أخرى، وقد عرفت أنك واجهت صعوبات وبذلت جهدا كبيرا فى جمع الـ18 ألف جنيه للجوائز.

قلت له: هذا طبيعى.. بالنظر إلى أن مسألة أن يتولى الصحفيون أنفسهم تمويل الجوائز هى تقليد جديد لا سابقة له.

وبابتسامة عريضة قال رئيس الوزراء: عموما دعنا نتطلع الآن إلى المستقبل، فلكى تستمر هذه الجوائز وتصبح أكبر وأكبر، ولكى يكون شكرى لك عمليا، فإننى كلفت المستشار القانونى لمجلس الوزراء بأن يضع تصورا تنظيميا يسمح للحكومة بأن تساهم فى تلك الجوائز بمائة ألف جنيه سنويا و..

كانت مفاجأة، وهى مفاجأة من العيار الثقيل أربكتنى بالكامل بما جعلنى للحظات أبحث عن كلمات أرد بها، ويبدو أن تعبيرات وجهى فضحت شعورى بـ«الخضة».. لأن رئيس الوزراء استرسل قائلاً: لا.. لا.. لن تكون مساهمة الحكومة لسنة واحدة فأنا سمعت فى الاحتفال أنكم تسعون لاستمرارها سنويا، لذلك فعن نفسى أتكلم عن التزام لخمس سنوات يمتد إلى من يخلفنى كرئيس للوزراء، وبعدها.. إنت وشطارتك.

قلت له: الحقيقة إن العقدة ليست هنا.. فهذا التقليد الذى شهدته وأثار لديك كل هذه المشاعر الجميلة أساسه هو أنه ليوم واحد فى السنة يجىء كبار الصحفيين من بيوتهم ليحتفلوا معا بصحفيين فائزين بجوائز جرى تمويلها بالكامل من الصحفيين، وإذا كنت أنا قد ساهمت بالفكرة وبالتنظيم إلا أن قيمة الجوائز هى بقيمة من آمنوا بالفكرة وساهموا فى نجاحها.. بالمال أو بالجهد أو بكليهما معا.

للحظة أو لحظات بدا أننا على موجتين منفصلتين.. رئيس الوزراء وأنا، لكن شعورى بالامتنان لاهتمام الرجل كان يجب أن يتساوى مع التعبير بوضوح عن جوهر هذه المسابقة وجوائزها.. فهو يتساءل مستغربا تماما من أن نكون فى حالة استغناء وتعفف عن هذا المستوى الحكومى من التجاوب والتفاعل.
وقلت له من قبيل الدعابة تخفيفا للنقاش: سيادتك أكيد تعرف المثل الشعبى.. يا نحلة لا تقرصينى، ولا أنا أنتظر منك عسلا.
مال رئيس الوزراء بكل جسمه قليلا إلى الخلف وضحكته المجلجلة تملأ المكان مستغربا: للدرجة دى؟!

قلت له : يا سعادة رئيس الوزراء.. لعلك تتذكر أننى فى كلمتى التى ألقيتها فى الاحتفال قلت تحديدا إن هذه المسابقة «سوف تستمر مهنية تماما، ومستقلة حتى عن نقابة الصحفيين ذاتها وعن أى مؤسسة منفردة لأن هذا يضيف إلى مصداقيتها وقوتها». أنا حرصت على توضيح ذلك من البداية أمام كل الصحفيين الحاضرين، وفى وجودك مع رئيس مجلس الشعب والوزراء ورؤساء الصحف القومية والحزبية، وفى كل التغطيات الإعلامية وما نقلته وكالات الأنباء عن الاحتفال فى الأيام الماضية كان أهم ما ركز عليه الجميع هو استقلالية المسابقة فى تمويلها وتنظيمها وتحكيمها.

تدافعت الأفكار فى عقلى وفى كلماتى حتى أوضح أننى من البداية ليس لى أى سلطة على المساهمين من كبار الصحفيين تتجاوز مصداقيتى بينهم، كل واحد من هؤلاء، وبخبرته بالمهنة وبالعاملين فيها لأكثر من ثلاثين وأربعين سنة يستطيع من منزله أن يشم رائحة النزاهة أو عدمها من أبعد مسافة ممكنة، بغير التأكد مسبقا من النزاهة والمصداقية لن يساهم ولن يغادر منزله ليحضر الاحتفال على نحو ما جرى، حتى من طرأ عليه سفر أو ظرف صحى، كمحمود السعدنى وكامل زهيرى ويوسف إدريس مثلا، حرصوا على نقل تهانيهم للفائزين بصورة أو بأخرى، وبكل اهتمام ومحبة ورعاية.

ثم إن دخول الحكومة، أو حتى المؤسسات الصحفية، سيكون عامل ضغط حقيقى على القائمين بالتحكيم والتقييم بما يخصم من استقلالية الجوائز، وأحد المعانى الجميلة التى سجلها المعلقون على الجوائز هو أنهم شهدوا لأول مرة رئيس حكومة يشارك فى تسليم جوائز لمن انتقدوا حكومته.. هذا لن يكون واردا إذا تحولت المسابقة لتعتمد على مساهمة الحكومة و.. و.. و..

فى النهاية قال لى رئيس الوزراء بكل لطف ومودة: على أى حال لو غيرت رأيك اتصل بى، وسأظل عند وعدى طالما بقيت رئيسا للحكومة.. و(بابتسامة عريضة) أنت فى هذه المقابلة وفرت لى مادة لحكاية ربما سأضعها فى مذكراتى.. حكاية حكومة تعرض نصف مليون جنيه وصحفيين يعتذرون عن عدم قبولها، تفتكر.. حد حا يصدق؟
قلت له مع انصرافى: أنا سأصدق، زملائى ومن سأحكى لهم سيصدقون.. على الأقل هذه أول مرة يتذكر فيها رئيس حكومة الصحفيين بالخير.

ربما من باب الاطمئنان إلى صحة موقفى، أو على الأقل الاستئناس بمشورة إضافية، كانت أول مكالمة تليفونية أجريها بعد وصولى إلى البيت هى مع أحمد بهاء الدين، وفى اللحظات الأولى بدا بهاء كما لو كان يسترجع مرة بعد مرة ما حكيته له فى التو واللحظة قائلا لى: أعد ما ذكرته مرة أخرى.. رئيس الحكومة عرض مائة ألف جنيه للجوائز.. ولخمس سنوات.. وأنت اعتذرت عن عدم القبول؟ والله كمال حسن على عداه العيب، وكشف عن سعة أفق واستنارة لا نعهدها غالبا فى رؤساء الحكومات، وأنا أضم صوتى إليك.. فاستقلالية الجوائز تمويلا وتحكيما وتنظيما هى المكسب الكبير الذى خرجنا به.

وبعد برهة أضاف أحمد بهاء الدين: قبل أن أنسى.. مساهمتى المالية بالألف جنيه فى المسابقة الجديدة جاهزة من الآن.

لم أكن قد غادرت، بعد، توابع المسابقة الأولى، فرئيس مجلس إدارة إحدى المؤسسات الصحفية مثلا اتصل بى معاتبا: هل معقول وأنا أرأس مؤسسة تضم 270 صحفيا فلا تعطون فى المسابقة جوائز لأحد منها بينما مؤسسة أخرى تحصل على ست جوائز؟

وقلت له: من أولها فكرتك عن الجوائز خاطئة، فأنت تتصور أننا كلجنة قلبنا فى كل الصحف والمجلات المصرية لنختار منها الفائزين. هذا غير صحيح، نحن فتحنا باب التقديم لمن يرغب من الصحفيين والصحفيات، ولجان التقييم مارست مهمتها للاختيار من بين من تقدموا، المشكلة أن الإدارة فى مؤسستك استلمت إعلان المسابقة لكنها حجبته عن الصحفيين، ومن هنا لم يتقدم أحد من مؤسستك أصلا وتنبهوا فقط بعد انتهاء موعد التقدم للمسابقة.

لكن سوء الفهم لم يكن فقط من داخل المهنة، كان من خارجها أيضا. فزميلة عزيزة وصحفية نشيطة هى فى حينها المحررة الأولى للشئون الدبلوماسية قى صحيفتها اتصلت بى لتداعبنى بكلمات فاجأتنى بما هو أغرب: إن السفارة الأمريكية فى القاهرة تشعر بالاستياء من تعبير بعض الجوائز عن موقف سياسى معاد لأمريكا.

معاد لأمريكا؟ كده.. خبط لزق؟ نعم، هكذا قال لها المستشار الإعلامى للسفارة الأمريكية بالقاهرة، وهى رفضت بشدة ذلك الانطباع من جانبه، وعرضت أن نتقابل نحن الثلاثة على الغداء.

مع الغداء زاد المستشار الأمريكى فى الشرح والتفسير، فأحد الأعمال الفائزة بالجائزة الأولى مقال تحليلى نشره عبد القادر شهيب فى جريدة «الشعب» التى كان يصدرها حزب العمل المعارض، والمقال عن أخطار المساعدات الأجنبية مع التركيز أساسا على المعونة الأمريكية لمصر معتمدا على أرقام ووقائع تؤكد فى النهاية أنها ليست لوجه الله.
وسألت المستشار الأمريكى: ماذا يزعجك فى ذلك المقال؟


أجاب: أولا.. دوافعه أيديولوجية، وثانيا.. أرقام عديدة ذكرها.. إما غير صحيحة أو غير دقيقة.
قلت له: دعنا ننحى مسألة الدوافع جانبا لأنك ناقص تقول لى إن الكاتب شيوعى، دعنا نتحدث بشكل مهنى، فإذا كانت بالمقال أرقام وبيانات غير صحيحة.. فلماذا لم ترسل ردا وتصحيحا إلى الجريدة التى نشرت المقال؟

رد بكل ثقة: الجريدة لم تكن ستنشر أى رد.. فموقفها العام من مجمل السياسات الأمريكية غير ودى.
قلت له : بصرف النظر عن موقف الجريدة السياسى، فإن القانون يلزمها بنشر الرد والتصحيح، وإذا سايرتك جدلا فى افتراضك بأن الجريدة لم تكن لتنشر ردك.. فمن حقك أن ترسل إلينا فى نقابة الصحفيين صورة من الرد المرفوض نشره ونحن سنطبق القانون، هذا أفضل كثيرا من أن تجلس فى مكتبك وتصدر الأحكام الغيابية أو تستسهل التفسيرات الأيديولوجية.

ويومها انتهى الغداء بغير أن يبدو أن الرجل اقتنع.. ولا أنا أيضا قبلت بمنطقه، وفيما بعد أصبح الزميل عبد القادر شهيب رئيسا لتحرير مجلة «المصور» ورئيسا لمجلس إدارة دار الهلال.. بغير أن يعرف بتلك الواقعة لسنوات وسنوات، لكننى بالطبع كنت سأحكيها له لو تقدمت أمريكا بشكوى ضده إلى مجلس الأمن الدولى.

وداعاً قناة الجزيرة


يسرى فودة
شيئان فى الدنيا لا حيلة لنا فيهما ولا اختيار: آباؤنا والأرض التى ولدنا عليها. نختار دونهما ما شئنا أن نختار، ونعتز باختياراتنا التى تصنع شخصياتنا وتميزنا عن الآخرين ثم نمشى فى مناكب الأرض شرقاً وغرباً. ومهما طال مشينا، رغم ذلك، يبقى أعز ما لدينا هو ذلك الذى لم تكن لنا فيه حيلة ولا كان لنا فيه اختيار. أمام هذا لا بد أن يتوقف الإنسان متأملاً، يلقى نظرةً إلى الوراء، ولو مرة، لعله يدرك أين يقف وإلى أين يريد أن يتوجه من هنا. فاللهم احفظ أمى وارحم أبى وطهّر أرضى، اللهم ألهمنا من بعد ذلك نفاذ البصيرة.

فكرت كثيراً قبل كتابة هذه السطور، فكرت كثيراً، لسنوات. وفى كل مرة كنت أوشك على اتخاذ هذا القرار كان ثمة سبب يدفعنى إلى التراجع، له علاقة برؤيتى أحياناً، وأحياناً أخرى فوق طاقتى.

اليوم، بعد عامين من التأمل بعيداً عن زحام العمل وعن لفحات المغامرة وعن إغراءات الشاشة، أصل إلى نقطة من الصفاء الذهنى والتكامل النفسى والراحة الجسدية تسمح لى باتخاذ القرار الصعب: أن أعلن من هذا المنبر انتهاء علاقتى بقناة الجزيرة متمنياً لأصدقائى وزملائى بها، هؤلاء فقط الصادقون المهنيون الذين يحترمون أنفسهم فيحترمهم الآخرون، كل تقدم وكل إبداع ما وسعتهم الظروف.

لكنّ من أريد أن تطول التفاتتى نحوه فى هذه اللحظة هو الإنسان العربى أينما وُجد وقد كان، ولا يزال، مرجعى أولاً وأخيراً (بعد ضميرى الإنسانى والمهنى) فيما كنت أختار من تحقيقات وفيما كنت أطمح إلى الإسهام به نحو واقع عربى أفضل. من هذا الشيخ الجليل الذى أقبل علىّ فى صحراء الجوف كى يعانقنى وهو الذى لم تتح له فرصة لتعلم القراءة والكتابة، إلى ذلك الأستاذ العربى فى جامعة هارفارد الذى أمدنى باكتشافاته حتى قبل أن تُنشر، وبينهما كل آبائى وأمهاتى وإخوتى وزملائى وأصدقائى وأبناؤنا جميعاً الذين باهتمامهم ألهمونى وبحبهم ساعدونى على الإسهام بما قدّرنى الله على الإسهام به، والذين من أجلهم هان طريق الأذى أمام لذة الاكتشاف وقيمة الحقيقة. إلى هؤلاء أتحدث اليوم.

وفى بداية حديثى لابد أن أطمئن هؤلاء الذين أسعدونى بمتابعة عملى الصحفى، على قناة الجزيرة وعلى غيرها، إن هذا ليس خطاباً للتنحى عن مهنة الصحافة؛ فمن ولد صحفياً يموت صحفياً، ولا هو ردة فعل فى لحظة انفعال؛ فلقد استغرقنى الأمر سنوات. ولحسن الحظ فقد ولدت فى جيل أتيح له من نوافذ الإعلام ما لم يُتح لسابقيه. وإننى لأشعر بسعادة غامرة على المستويين الاجتماعى والمهنى لعودتى إلى بلدى، مصر، ولتمكنى من المساهمة فى بناء جريدة اليوم السابع التى أراها تكبر يوماً بعد يوم وأنا أطل منها على القارئ العربى، ولأن إطلالتى التليفزيونية القادمة على المواطن العربى ستكون أيضاً من مصر.

سيتساءل البعض: لماذا هذا القرار؟ ثم ربما يتساءلون: لماذا هذا القرار «الآن»؟ وحقيقة الأمر أننى عبرت علناً مرات عديدة عن تحفظى على أمور بعينها على الشاشة ووراء الشاشة، لبعضها علاقة بالإدارة ولبعضها علاقة بالمهنة ولبعضها الآخر علاقة بالسياسة، وأننى قدمت استقالتى مكتوبة موقّعة إلى رئيس مجلس الإدارة، الشيخ حمد بن ثامر آل ثانى، مرتين: مرة عام 2003 ومرة ثانية قبل عامين. وأن استقالتى رُفضت فى المرة الأولى بتدخل مباشر من أمير قطر، الشيخ حمد بن خليفة آل ثانى، وتحولت فى المرة الثانية إلى اتفاق بينى وبين رئيس مجلس الإدارة على ما يشبه «استراحة محارب» باقتراح منه مشفوع بالتماس ألا أنضم إلى قناة أخرى يقابله طلب منى بأن يتقبل قرارى أيما كان بصدر رحب لدى نهاية الاستراحة. واتفقنا على ذلك.

ورغم أننى أحاول دائماً فى عملى أن أرى الأمور من منظور المشاهد فقد أتاحت لى هذه الاستراحة أن أتابع قناة الجزيرة لأول مرة بعين المشاهد متخلصاً من صخب العمل وغمامة الاستغراق. كما أتاحت لى فرصة عريضة كنت أتوق لها من زمن بعيد لاتخاذ مقعد خلفى يتيح لى منظوراً أعرض للتأمل فى لحظة ماضية ومعايشة لحظة حاضرة واستشراف أخرى آتية.

ألقى بى التأمل إلى بداية عام 1994. كنت وقتها أدرس الدكتوراه فى جامعة جلاسكو فى اسكتلندا كى أعود بعدها لاستئناف عملى الأكاديمى فى جامعة القاهرة. وفى تلك الأثناء أعلنت هيئة الإذاعة البريطانية عن عزمها إطلاق أول قناة تليفزيونية باللغة العربية متخصصة فى الأخبار وبرامج الأحداث الجارية. وبعد تفكير شاركت مع الصف الأول فى تأسيس القناة وشرفت باختيارى أول مراسل عربى متجول.

كانت تلك لحظة فارقة على طريق صحافة تليفزيونية عربية، حتى أنه بوصولى أول مرة إلى منطقة الحرب فى سراييفو فتح زملاؤنا الإنجليز فى غرفة الأخبار فى لندن زجاجات الشمبانيا احتفالاً بالحدث.

لكن هذا التليفزيون لم ينطلق إلا حين دخلت بى بى سى (بعقليتها الإنجليزية) فى شراكة مع شبكة أوربيت (بعقليتها السعودية) ما زرع بالضرورة ناراً تحت الرماد انتشر دخانها فى غرفة الأخبار أكثر من مرة حتى بات العاملون بها على فوهة بركان؛ فكان هذا خطأً قاتلاً ظلم الشريكين معاً، وإن كان ظلم العاملين تحت إمرة البريطانيين برواتب سعودية ظلماً أفدح. لقد كان هذا، فى الواقع، زواجاً قام باطلاً وانهار باطلاً بعد ذلك بنحو عامين.

غير أنه، وقد انهار، ترك بين يدى المراقب مثالاً فريداً من نوعه؛ فلأول مرة فى التاريخ، على حد علمى، تقوم شركة لا يريد أحد الشريكين لبضاعتها أن تنتشر، ولأول مرة يكون تأثير قناة تليفزيونية فى العاملين بها أعمق بكثير من تأثيرها فى تلك القلة من رواد فنادق النجوم الخمسة التى أتيح لها أن تشاهدها.

لم يصدق هؤلاء الصحفيون، وبعضهم من الطراز الأول، أنهم سقطوا فجأة، ولو ليوم أو بعض يوم، فى سوق البطالة بعد أن تسرب من بين أصابعهم أمام أعينهم حلم عزيز. وسرعان ما تلقفت الدوحة كثيراً منهم وهى تعلم أنهم، بغض النظر عن الاختلافات الشخصية والمهنية والسياسية، تخرجوا فى أكثر المدارس الإعلامية فى العالم ثقلاً واحتراماً.

شكل هؤلاء، مع نخبة أخرى من الصحفيين العرب، نواة «قناة الجزيرة الفضائية» التى انطلقت فى الأول من نوفمبر 1996. هذه المرة من عاصمة عربية. هذه المرة بلا خطوط حمراء، أو هكذا كان يبدو. هذه المرة بلا شراكة. هذه المرة يريد البائع لسلعته أن تنتشر. فجأة يدرك المشاهد العربى أنه كان يفتقد شيئاً ولم يكن يدرى.

بقيت أنا فى لندن أؤسس مكتباً لها فى العاصمة البريطانية بينما انتقل كثير من زملائى إلى الدوحة، لكننا جميعاً وجدنا لأول وهلة فى قناة الجزيرة نظاماً فريداً من نوعه لا يوجد مثيل له واقعياً فى مؤسسة إعلامية أخرى، ولا يوجد مثيل له نظرياً فى كتب الأنظمة الإذاعية والتليفزيونية. يجمع هذا النظام بين مجموعة من القيم والمصادر المتنوعة، المتناقضة أحياناً، تتراوح بين القَبَلى والحضرى، بين العربى والغربى، بين اليمينى واليسارى، بين الديمقراطى والديكتاتورى، وبين الدينى والعلمانى.

وتبين هذه المتناقضات من اللحظة الأولى لتوقيع عقد إنشاء الجزيرة بمنحة أميرية على هيئة «مؤسسة عامة للقنوات الفضائية» تحصل على تمويلها من «مجموعة من المستثمرين» للسنوات الخمس الأولى على أن يتم «طرح أسهمها فى الأسواق» بعد ذلك لمن يريد أن يشترى. ولم يكن لذلك أن يحدث، كما أثبتت الأيام، ففى غضون عام واحد صارت الجزيرة بأيدٍ مهنية غير قطرية أكبر من قطر ومن أمير قطر، وحين يحدث هذا لا بد من لحظة أخرى للتأمل.

صحفيون بكبرياء وحكومة بأنغام الموسيقى


محمود عوض
لو لم أكن طرفا فى تلك المناقشة «العبثية» مع مدير مكتب رئيس الوزراء لما صدقت أن مشاعر البيروقراطية الحكومية نحو الصحافة والصحفيين مشوهة بهذا القدر، هو لا يشترط لحضور رئيس الوزراء كشفا بثلاثمائة صحفى فقط، وبأسمائهم الثلاثية وعناوينهم، وبأسبوعين على الأقل قبل أن نحدد موعد الاحتفال، يريد أيضا حجز خمس موائد فى الاحتفال (يعنى خمسين مقعدا) تحت عنوان «تأمين» رئيس الوزراء، تأمينه ممن؟ من صحفيين يحتفلون لأول مرة بمسابقة مهنية تحفز الصحافة المصرية نحو الأفضل؟ وعلى حسابهم؟

وقلت لمدير مكتب رئيس الوزراء: موعد الاحتفال قررناه فعلا ليكون فى الرابع من يوليو (1985)، ومن قبيل حسن الاستضافة وليس «التأمين» سنخصص لمرافقى رئيس الوزراء مائدة واحدة بعشرة مقاعد، وحضور رئيس الوزراء سيضيف إليه قبل أن يضيف إلى الصحفيين، وليس عندى كشوف بأى أسماء ثلاثية أو غير ثلاثية، وأمامنا يومان فقط قبل أن نطبع الدعوات، فإذا لم تتصل بى قبلها سأعلن فى الاحتفال أننا دعونا رئيس الوزراء وهو لم يستجب.

فى عودتى إلى البيت شعرت بالحيرة، هل كان خطأ من الأصل التفكير فى دعوة الحكومة؟ وأن نتوسع فى الاحتفال على هذا النحو؟ مالها حفلة شاى بسيطة لتسليم الجوائز وكفى الله المؤمنين شر القتال؟ ومن يريد الحكومة، عليه أن يذهب إليها لأنها لن تذهب إليه، إذن.. بلاها الحكومة.

فى المساء كان يزورنى الصديق الرسام مصطفى حسين ليسلمنى تصميمه لشهادة التقدير التى سيتسلمها الفائزون، حاملة شعار الكاتب المصرى، الرسم بديع والألوان رائقة بما عهدته دائما من مصطفى حسين، وبينما نتبادل الحديث دق جرس التليفون بجوارى لأجد المتحدث من الطرف الآخر مدير مكتب رئيس الوزراء، فى هذه المرة تختلف اللهجة بالكامل عن لهجة الصباح: يا أستاذ محمود.. السيد رئيس الوزراء يخطرك بترحيبه بالدعوة وسيحضر فى الموعد المحدد، فقط أريد أن أعرف منك كم من الوقت سيبقى رئيس الوزراء فى الاحتفال حتى ننسق جدول مواعيده، هل تكفيكم ساعة زمن؟
نعم، تكفينا.

حكيت لمصطفى حسين خلفيات المكالمة فاستغرب هو الآخر قائلا بسخرية: يبدو أن ملف الصحافة والصحفيين عند الحكومة مهبب، ولا تستبعد أن يكون بعض الصحفيين أنفسهم سببا فى هذا الهباب.

هذا ذكرنى بحكاية كان قد رواها لى أحمد بهاء الدين فى سياق آخر، فذات يوم جمعت إحدى المناسبات بين ممدوح سالم رئيس الوزراء فى حينها وأحمد بهاء الدين صاحب الرصيد الكبير فى المهنة وفوق ذلك نقيب سابق للصحفيين ورئيس تحرير سابق لجريدة «الأهرام»، وباعتبار أن ممدوح سالم ضابط شرطة أساسا ووزير سابق للداخلية قبل أن يصبح رئيسا للوزراء، فقد قال له بهاء مداعبا ومتسائلا: لماذا تعتمد وزارة الداخلية فى معلوماتها عن الصحافة والمجتمع الصحفى على صحفيين درجة عاشرة.. وغالبا متخلفين مهنيا؟

يومها رد عليه ممدوح سالم بكلمات تبدو مفحمة: إيدى على إيدك.. هات لى واحد ابن ناس وتخرج بتفوق فى جامعته واشتغل بالصحافة معتمدا على كفاءته.. وقل لى بذمتك.. هل يقبل هذا الموهوب أن يصبح «ناضورجى» لحساب الأمن داخل المهنة الصحفية؟!

بالعودة إلى المهنة كان إعلان نتائج المسابقة مدويا لأنه أكد عمليا للمجتمع الصحفى كله استقلالية المسابقة ونزاهتها ومسئولية أعضاء لجان التقييم عن كل خطوة فيها، لكن الفائزين اشتكوا من نقيصة غير متوقعة، فإذا كان عدد الفائزين 25 صحفيا وصحفية من صحف عديدة قومية وحزبية، إلا أن كل جريدة اكتفت بنشر أسماء وصور الفائزين منها فقط دون الآخرين، ووجدت أن هذا يتنافى مع روح المسابقة ذاتها، لأننى أؤمن بأن هذه مهنة صحفية وليست قبائل صحفية.

واتصلت بعدد من رؤساء التحرير أرجوهم نشر أسماء وصور الفائزين جميعا بمن فيهم المنتمون إلى صحف أخرى، وفعلا استجاب بعضهم وأعاد نشر أسماء وصور جميع الفائزين.. ربما لأن صحفا عربية عديدة نشرت نتائج «جوائز الصحافة المصرية» بالكامل بعد أن نقلتها إليهم وكالات الأنباء.

لكن الأهم من فرحة الفائزين كان رد الفعل فى المجتمع الصحفى ذاته، كثيرون ركزوا على نزاهتها واستقلاليتها لكننى سأكتفى هنا ببعض ما كتبه حافظ محمود نقيب الصحفيين سابقا لعدة مرات فى مقال بجريدة «الجمهورية» بعنوان «قصة الجوائز الصحفية»، زمان.. قبل الثورة.. قدم إدجار جلاد (باشا) صاحب جريدتى «الزمان» و«جورنال ديجيبت» جائزة من عنده أسماها «جائزة مولانا جلالة الملك فاروق الأول» تمنح لصحفى واحد من المتقدمين.

لكن السياق فى ذلك الوقت كان مختلفا بالكامل، وهذا ما شرحه حافظ محمود فى مقاله المطول مستهلا له بقوله: تحتفل نقابة الصحفيين يوم الخميس المقبل بتوزيع الجوائز المالية على الفائزين من شباب الصحافة فى المسابقة التى أخذت فيها لجنة الحريات فى النقابة بزمام المبادرة.. وهى مناسبة تستحق الاحتفال فعلا لأنها مسألة لا تتصل بنهضة أسرتنا الصحفية فقط، بل لسبب اجتماعى أقوى من هذا بكثير جدا وإن لم يلتفت إليه أحد من قبل.

«فأنت إذا قلبت النظر بين كل الفئات المهنية وغير المهنية لا تكاد تجد فئة لم تطرق فكرة الجوائز بابها فى هذا العصر.. إلا فئة الصحفيين الذين يروجون لجوائز كل الفئات الأخرى، لهذا فإننى كأب لجيل الصحفيين الجدد أرى من واجبى أن أقدم التهنئة للجنة الحريات بنقابة الصحفيين التى قامت بتنفيذ هذا المشروع، وأنوه بكل الكبرياء بأن هذه اللجنة لم تعتمد فى تمويل هذا المشروع إلا على الصحفيين أنفسهم».

والسطر الأخير تحديدا من كلمات حافظ محمود كان هو الذى ركزت عليه وكالات الأنباء والصحف العربية التى أبرزت نتائج المسابقة وفكرتها.. مكررة فى كل مرة أن هذه المسابقة الإيجابية غير المسبوقة لا تعنى الصحافة المصرية فقط وإنما أيضا الصحافة العربية بمجموعها.

واتصل بى عديدون يرجون دعوتهم لحضور الاحتفال وفى المقدمة منهم الدكتور رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب فى حينها، مداعبا لى بقوله إنه يستحق تلك الدعوة بصفته كان أحد أساتذتى بالجامعة. أنت تشرفنا يا دكتور رفعت وأرجوك تعتبر من الآن أن الدعوة وصلتك ونحن فى انتظارك.

وشىء آخر: اتصل بى الصديق محمد عبد الحميد رضوان، وزير الثقافة فى حينها، ليداعبنى متسائلا: هل صحيح الجوائز الجديدة يمولها الصحفيون أنفسهم؟ نعم.. صحيح، والله حاجة مشرفة يا ريتنى صحفى علشان أساهم فيها.
قلت له وقد طرأت على بالى فكرة: من غير ما تكون صحفى.. تستطيع المساهمة بشىء آخر.. فبصفتك وزير الثقافة ابعث لنا بفرقة الموسيقى العربية لتعزف بعض الموشحات، ولو لساعة زمن، فتضيف إلى الاحتفال لمسة فنية، تمام، لك منى ذلك.

وشىء ثالث أيضا، فقد اتصل بى وزير الإعلام الأردنى محمد الخطيب وقتها، لكن من غير معرفة سابقة، هو يرجو دعوته لحضور الاحتفال ولو بصفته صحفيا سابقا، لكن أيضا باعتباره وزيرا للإعلام فهو يرجونى تعريفه بفكرة المسابقة وقواعدها لأنه يطمح فى الدعوة لإقامة مسابقة مماثلة فى الصحافة الأردنية، وفى كلمتى فى الاحتفال نوهت بحضوره معنا وتفاعله الكبير مع تلك المسابقة الأولى، وتاليا نشرت له عدة صحف تصريحات قال فيها: «لقد طلبت من مقرر جوائز الصحافة المصرية حضور ذلك الاحتفال لأننى حسدت الصحافة المصرية على هذا العيد، إن مصر رائدة دائما وسوف نسعى لإقامة عيد مماثل للصحافة الأردنية».

لكن الوصول إلى ليلة الاحتفال لم يكن هو الآخر سهلا، وقد ازدادت الصعوبة على ضوء جلستى الأولى مع مدير مكتب رئيس الوزراء قبل أن تتغير لهجته تماما فى مساء نفس اليوم، وهكذا اجتمعت مع زملائى فى «لجنة الحريات»، شرحت لهم توجسات الحكومة، وأنه لذلك فعليهم أنفسهم ضمان حسن تنظيم الاحتفال، هكذا تطوع لتلك المهمة زملاء عديدون فى مقدمتهم (الراحل) مجدى مهنا وعاصم القرش ومحمد حسن البنا ونصر القفاص ونوال مصطفى وخالد جبر وآخرون، أصبح عليهم استقبال الضيوف وإرشادهم إلى مقاعدهم مع أن بعضهم تقدم بأعمال صحفية إلى المسابقة ولم يقدر لهم الفوز، وقلت لهم: إن ما يعنينى بالدرجة الأولى، وقبل الاحتفال بالفائزين، هو الاحتفاء بالمساهمين من كبار الكتاب والصحفيين.. فإذا كانت قد فرقت بينهم السياسة.. فإننى أريد فى تلك الليلة أن تجمع بينهم المهنة.

فى النهاية أصبح برنامج الاحتفال من شقين، هناك ثلاث كلمات من أحمد بهاء الدين رئيس اللجنة العامة وإبراهيم نافع نقيب الصحفيين وأنا كمقرر للمشروع، وفى مداولاتنا اتفقنا على ألا تتجاوز كل كلمة خمس دقائق، بعدها كلمة رئيس الوزراء، ثم إعلان أسماء الفائزين ليسلم كل منهم الشهادة التقديرية وشيكا بقيمة الجائزة موقعا من أحمد بهاء الدين ومنى، حيث الجائزة الأولى فى كل فرع 1500 جنيه ثم ثانية وثالثة ليصل المجموع إلى 18 ألف جنيه.
أما الجزء الثانى من الاحتفال فكان تناول العشاء ثم الاستماع إلى موشحات غنائية أعيد توزيعها وتقوم بعزفها وغنائها فرقة الموسيقى العربية بقيادة المايسترو يسرى قطر.

جاء رئيس الحكومة إذن وفى معيته نصف دستة من الوزراء، وجاء كبار الكتاب جميعا، ورئيس مجلس الشعب ووزير الإعلام الأردنى وسفراء عرب وأجانب ومراسلو صحف عربية وممثلو خمس وكالات أنباء أجنبية. كلهم جاؤوا يشهدون ما أسماه عبد السلام داود فى عاموده بجريدة الأخبار بـ«عيد الصحافة المصرية».. أو بتعبير جريدة «الأنباء» الكويتية بعد يومين: «لأول مرة فى العالم العربى: الصحفيون المصريون يقررون جوائزهم ويستضيفون الحكومة».

فى تلك الليلة كانت الصحافة هى البطل، وكان رئيس الحكومة ودودا للغاية فى كلمته، خصوصا أن بعض الأعمال الفائزة تنتقد أداء حكومته. لكن هذا لم يمنعنى من أن أتوجه إليه فى إحدى النقاط لأقول له إن الساعة بلغت التاسعة والنصف، وبذلك تنتهى عهدتى.
سألنى مستغربا: أى عهدة؟
قلت له: مكتبك اشترط علىّ مسبقا ألا تتجاوز فترة حضورك معنا ساعة زمن.. الآن مضت الساعة.

رد كمال حسن علىّ بابتسامة عريضة: لماذا تريد أن تحرمنى من متابعة هذا الاحتفال المتحضر.. أنا سأنصرف فقط قبيل موعد العشاء.. ولولا ارتباط سابق لكنت بقيت معكم الاحتفال كله.

بعدها بيومين تلقيت اتصالا من مكتب كمال حسن على: رئيس الوزراء يريد استقبالك فى مكتبه ظهر الأربعاء.. هل يناسبك الموعد؟
ماذا جرى؟ اللهجة غير اللهجة ورئيس الحكومة هو الذى يطلب والمتحدث يريد منى تأكيدا بالحضور.. و.. و..
فى مكتب رئيس الوزراء وجدت فى انتظارى ومنه هو شخصيا مفاجأة من العيار الثقيل.

حتى بفلوسنا للحكومة شروط


محمود عوض
لم تكن «جوائز الصحافة المصرية».. باعتبارها أول مسابقة مهنية يقوم بتمويلها وتنظيمها الصحفيون أنفسهم.. صادرة من فراغ. فى الواقع سبقتها سلسلة ندوات مفتوحة اقترحتها، لبحث «حرية الصحافة فى مصر». وتعبير «ندوات مفتوحة» هنا، لم يكن فى حينها سهلا بالمرة. فحينما عرضت الفكرة لأول مرة، وجدت زملاء فى مجلس نقابة الصحفيين يصرون من البداية على أن تكون الندوات مغلقة، يحضرها صحفيون محدودو العدد والأسماء مسبقا.

وحينما رأونى مصرا على الندوات المفتوحة أجابونى بقولهم: نحن نشفق عليك.. فالسائد فى النقابة فى حينها غالبا، هو أنه لا يجتمع عشرة صحفيين، إلا ويظهر على الفور صحفى آخر ممن أسميهم «جرحى المهنة» يقوم بحسن أو سوء نية بإفساد الاجتماع.

وحينما فاتحت مصطفى أمين ليكون ضيف الندوة الأولى، فاجأنى هو أيضا بتردده فى القبول، وإن كان لسبب مختلف تماما. قال لى مصطفى أمين: وهل ترضى لى بأن يصرخ فى وجهى من يسلطه الشيوعيون، ليقوم بالشوشرة على انتقاداتى المعروفة لأوضاع الصحافة السائدة فى مصر الآن؟

وقلت له: إنك ستكون ضيفى أولا قبل نقابة الصحفيين. وأيا كانت الآراء التى ستقولها، أو المناقشات التى ستجرى، فإننى أضمن لك مستواها المهنى وموضوعيتها الكاملة.

وبالطبع لم يكن لدى ذلك النوع من السلطة الذى يتيح مثل ذلك الضمان المفتوح. سلطتى مستمدة فقط من حماس وإيمان الصحفيين أنفسهم، بضرورة الارتفاع بمستوى مهنتهم، ورغبتهم فى المناقشة المفتوحة مع أساتذة لهم فى المهنة، لم يعودوا يلتقون بهم إلا على صفحات الصحف.

فى الندوة الأولى كان المتحدث هو مصطفى أمين. وفى الثانية أحمد بهاء الدين. وفى الثالثة صلاح حافظ، وصلاح منتصر. وفى الرابعة رؤساء تحرير الصحف الحزبية فى حينها. وفى كل الحالات كان ما أسعى إليه، هو طرح قضية حرية الصحافة من وجهة نظر من هم على يمين الأمر الواقع، ومن هم على يساره. وكما نشرت صحف مصرية وعربية عديدة وقتها، فإن متوسط الحضور من الصحفيين تراوح بين ألف و1200 صحفى، وهو تطور غير مسبوق فى تاريخ نقابة الصحفيين المصريين. وفى كل مرة كان يجرى طرح القضايا والآراء والانتقادات والمناقشات بكل حرية وموضوعية.. وفى الهواء الطلق. والأكثر أهمية أن الإقبال فى الحضور والمشاركة، كان من الصحفيين المهنيين الذين اعتادوا سابقا العزوف عن كل ما فيه نقابة.

من تلك التجربة اخترت عددا من الزملاء، أعتمد عليهم فى تحويل مشروع «جوائز الصحافة المصرية» إلى واقع جديد وغير مسبوق فى الخريطة الصحفية المصرية. وقد أشرت سابقا إلى شعور أحمد بهاء الدين بالمفاجأة، وهو يقرأ فى بيتى مساهمات مكتوبة من كبار وشباب الصحفيين، بلغت 18 ألف جنيه.

ولتوضيح أهمية هذا الرقم، أتذكر أن الميزانية السنوية لنقابة الصحفيين كانت تعانى من عجز مزمن، رغم المعونة السنوية التى تساهم بها الحكومة. وفى أول ميزانية قرأتها بعد عضويتى لمجلس النقابة، كان العجز يتجاوز 59 ألف جنيه.

واكتشفت أن هناك شكوى متكررة سنويا من مكرم جاد الكريم الزميل المصور بجريدة «الأخبار»، وهو الذى انفرد (مع رشاد القوصى) بأبرز صور اغتيال أنور السادات فى أكتوبر 1981، وتناقلتها عنه فى حينها وكالات الأنباء الأجنبية. لكن هذا المصور المتميز، كان يهمه أساسا أن يتم تكريمه داخل مهنته الصحفية هنا فى مصر، وقد تلقى وعدا مكتوبا من نقيب الصحفيين وقتها، ومن مجلس النقابة بجائزة مالية قدرها ألف جنيه.

مع ذلك لم يتم تنفيذ ذلك الوعد، لأن النقابة سنة بعد سنة بعد سنة، لم يكن لديها تلك الألف جنيه لتكافئ بها مصورا موهوبا.

والآن ها هى جوائز حقيقية تقام لأول مرة، ويقوم بتمويلها الصحفيون أنفسهم وقيمتها 18 ألف جنيه، اعتبر أحمد بهاء الدين أنها «أكثر الفلوس حلالا فى بر مصر». كانت الفلوس خطوة أولى لكن الخطوات التالية لم تكن أقل صعوبة. هناك أولا تحديد فروع المسابقة: التحقيق الصحفى.. المقال التحليلى.. الصورة.. الكاريكاتير.. التغطية الرياضية... إلخ. وهناك لجنة تحكيم لكل فرع، حرصناعلى أن يرأسها فى كل حالة زميل مخضرم مشهود له بالنزاهة والموضوعية. زملاء بمستوى: سلامة أحمد سلامة، وحلمى التونى، ومصطفى حسين، وعبد السلام داود، وصلاح الدين حافظ، ومصطفى نبيل، ومحمد العزبى، وصلاح هلال، وممدوح طه، ومحمد يوسف، وناصف سليم و.. و..

وأخيرا هناك اللجنة العامة للجوائز، وتضم أحمد بهاء الدين، وصلاح وحافظ، ومصطفى بهجت بدوى، وإبراهيم نافع كنقيب للصحفيين فى سنته الأولى، ومحمود عوض كمقرر للجنة وصاحب فكرة الجوائز. كل هؤلاء ومن زاد عليهم مساهما فيما بعد، قدموا من وقتهم وجهدهم الكثير كمتطوعين لوجه الله والمهنة الصحفية. وبعد أن حددنا قواعد التقدم للجوائز، تقدم للمسابقة الأولى 226 صحفية وصحفيا. والرقم قد يبدو قليلا، لكن أهميته تصبح أكبر حينما نعرف أن مجموع الأعمال التى تقدم بها هؤلاء بلغ 351 عملا، جرى نشرها بالصحافة المصرية بامتداد سنة.

كانت اللجنة العامة تجتمع فى بيتى مرة بعد مرة، لمراجعة ترشيحات اللجان النوعية للأعمال الفائزة. وبالطبع لهذه اللجنة وبالإجماع أن تقر الترشيحات، أو تعدل فيها، أو تعيد هى نفسها قراءة الأعمال المقدمة من جديد. وكان على اللجنة عبء آخر هو التنسيق بين ترشيحات اللجان النوعية. فما جرى، ولم نتنبأ به، هو أن صحفيين عديدين تقدموا بأعمال عديدة لعدة فروع صحفية. وهنا تصبح المسألة هى: أى الفروع الصحفية تصبح أكثر مناسبة للصحفى المرشح للفوز. مسألة أخرى لم نتنبأ بها.

ففى المسابقة الأولى (عن عام 1984) تقدم الدكتور عبد المنعم سعيد، والسيد زهرة من مركز الدراسات الاستراتيجية بمؤسسة «الأهرام» بأعمال منشورة لهما. وجزء من نقاش اللجنة العامة أصبح هو: هل ما ينتجه مركز دراسات الأهرام أقرب إلى العمل الأكاديمى، أو هو فى صلب المهنة الصحفية؟

اجتماعات اللجنة العامة كانت فى بيتى والمناقشات المستفيضة بيننا، تستمر أحيانا حتى الواحدة صباحا. ويزيد الأمر صعوبة حينما نعرف أن أحمد بهاء الدين مثلا كان يعانى من آلام فى عينيه، وقرر له الأطباء عدسات إضافية كالميكروسكوب، يضعها فوق نظارته الطبية وقت القراءة. وحينما يلح عليه بعضنا أو كلنا بأن يخفف من هذا الجهد المؤلم يصر على الاستمرار قائلا: هذه الجوائز ستصبح مسئوليتنا جميعا. وشهادة التقدير التى سيحصل عليها الصحفى الفائز وعليها توقيعاتنا نحن الخمسة، سيحتفظ بها الفائز طول العمر. فالمسئولية كبيرة رغم أن الصحة بسيطة.

وفى تلك النقطة خطر لى أن أطلب من الصديق الرسام مصطفى حسين تصميما لشهادة التقدير يناسب الفكرة. ورحب تماما بالمهمة، مصمما شهادة تحمل رسما للكاتب المصرى المعروف تاريخيا، فأضاف مصطفى حسين جهدا آخر فوق رئاسته للجنة الكاريكاتير ومساهمته المالية فى الجوائز.

وكما كتب أحمد بهاء الدين فيما بعد: «شرفتنى لجنة الحريات فى نقابة الصحفيين باختيارى رئيسا للجنة التحكيم فى أول مسابقة، تقيمها النقابة لإعطاء جوائز صحفية... كانت مهمة شاقة وممتعة.

فقد قرأنا الكثير من الموضوعات الممتازة. وكانت فرصة لنرى إيجابيات كثيرة للصحافة المصرية ولشبابها، فى وسط إحساسنا وكلامنا الدائم عن عيوبها وسلبياتها. وأستطيع أن أقول باسم اللجنة، إننا تجردنا عن كل الاعتبارات، ما عدا اعتبار التفوق المهنى المحض.

ففاز شباب من كل الصحف، ومن كل الأحزاب، ومن كل الاتجاهات... وعدد كبير من الفائزين فوجئوا أكثر من الجميع، ولم يتصوروا أنه يمكن أن يتبرأ الاختيار من اعتبارات حياتنا المعروفة: رأى السلطة، أو المعرفة الشخصية، أو المجاملة، أو الميل الخاص، أو الشهرة والصيت».

لكن قبل أن نصل إلى تلك النقطة، كان السؤال فى اللجنة هو :كيف سنعلن الجوائز ونحتفل بها؟
قال صلاح حافظ: طالما أننا اتفقنا من البداية على أن الـ18 ألف جنيه تذهب كلها إلى الجوائز.. فلا يبقى سوى أن نقيم حفل شاى بسيطا بمبنى النقابة، ندعوا فيه الفائزين لاستلام جوائزهم.

وقلت له مداعبا: يا صلاح كل صحفى فائز يهمه إعلان فوزه أمام أكبر عدد من الناس وليس مجرد مهنته.. ولولا قصور إمكانياتنا لكنت فكرت فى حفل عشاء كبير وتليفزيون يصور.. و..
قاطعنى مصطفى بهجت بدوى: لن يجىء التليفزيون إلا إذا جاءت الحكومة.

تدخل النقيب إبراهيم نافع: إذن نعزم الحكومة ونعمل العشاء، ويكون فى فندق خمس نجوم، لكى يليق بهذه المسابقة الأولى من نوعها فى العالم العربى كله. وسكت قليلا قبل أن يضيف: وبصفتى رئيسا للأهرام، سأرفع عنكم هذا الهم، وستتحمل الأهرام تكاليف الاحتفال..
بعد تلك البشرى من إبراهيم نافع فى سنته الأولى كنقيب للصحفيين بقى السؤال: من يدعو؟ ومن يدعى؟

فى أوراق ذلك الاجتماع تحديدا، وقعنا على بندين: دعوة رئيس الوزراء كمال حسن على وقتها، يقوم بها إبراهيم نافع.. ودعوة كبار الكتاب، يقوم بها محمود عوض.

بعدها بيومين اتصل بى إبراهيم نافع ليخبرنى بكلمات غاضبة، بأنه أنهى لتوه مكالمة تليفونية مع مدير مكتب رئيس الوزراء بعد مناقشة حادة وهذا هو رقم تليفونه.. تفضل أنت وتصرف.

لم أعرف كيف أتصرف، فلم أكن أعرف رئيس الوزراء ولا مدير مكتبه. لكننى بعد أن فكرت فى المشوار الطويل الذى قطعته الجوائز، وكل ذلك الجهد، اتصلت بمدير مكتب رئيس الوزراء.
فى جلستنا بمكتبه وجدته يسترسل فى حكاية ورواية مكالمته الغاضبة مع نقيب الصحفيين. وقلت له: دعنا نبدأ من جلستنا هذه. نحن نريد دعوة رئيس الوزراء لحضور احتفالنا بجوائز، نحن الذين ساهمنا بها بغير حكومة ولا نقابة ولا مؤسسات. ما طلباتك؟
قال بكلمات حادة: كم عدد الصحفيين المدعوين؟
قلت له: المساهمون والفائزون والآخرون.. بالإجمال نحو ثلاثمائة صحفى.
قال مدير مكتب رئيس الوزراء: أولا.. أريد كشفا مكتوبا بأسمائهم جميعا وبالاسم الثلاثى لكل منهم وعنوان إقامته.

انعقد لسانى من الدهشة والاستغراب والمفاجأة: الاسم الثلاثى؟ لماذا؟ أنا لا أعرف حتى الاسم الثلاثى لجارى فى المسكن من عشرين سنة.. ما هى فكرتكم بالضبط عن الصحفيين؟ هل هم من غرائب الطبيعة والمخلوقات؟
رد الرجل بكل اطمئنان: انت بتقول فيها؟
الآن جاء دورى فى الغضب، فقلت له: هذه أول مرة نعزم فيها الحكومة، وعلى حسابنا، وكمان تفاجئنا بمثل هذا الطلب الغريب؟
رد جازما: هذا شرط أولى.. إنما هناك أيضا شروط أخرى.

من حـال الصحافـة والصحفيين

محمود عوض
هى فكرة. فى واقع الصحافة المصرية كان القلق مما يجرى متزايدا. هناك تآكل فى المدارس الصحفية. ولم يعد الصحفى الأجود مهنيا فى المقدمة. وفى أحيان عديدة أصبح انشغال الصحف ببعضها البعض أكثر من انشغالها بقضايا الناس. ومع ضغوط الحياة أصبح صحفيون واعدون يهاجرون مؤقتا إلى الصحافة العربية فى الخليج وغير الخليج. ومن يعد منهم بعد سنوات، يكتشف أنه ربما كسب مالا لكنه خسر عمرا، ومهنة، ومستقبلا. واستجد فى الداخل إغراء الخلط بين الصحافة والإعلان، وهو ما يعتبره الضمير الصحفى فى طليعة المحرمات الكبرى التى يعنى انتهاكها نسف مصداقية الصحافة والصحفيين معا.

هل يمكن فى هذا المناخ السائد أن تسترد الصحافة المصرية معايير مهنية فى الأداء، تصبح نموذجا يحتذيه الآخرون؟ هل يمكن إتاحة شعاع من الضوء يهدى الصحفيين نحو مستقبل أفضل؟ هل يمكن أن نستلهم عناصر القوة القليلة الباقية فى صحافتنا، وهى التى نشهد تراجعها، فى مواجهة ضغوط ومصالح ضارية متصاعدة؟ وهل يتحقق هذا الأمل إلا بالعودة إلى استنهاض أهم تلك العناصر فى المهنة الصحفية، وهم الصحفيون أنفسهم؟ أتحدث هنا عن تجربة ذاتية فى أحد جوانبها.. لكنها موضوعية فى نهاية المطاف.
هى فكرة.

أتحدث عن يوم وجدت نفسى فيه منتخبا من جموع الصحفيين المصريين عضوا فى مجلس نقابتهم، بغير أن أكون قد فكرت سابقا فى مثل هذا التوجه. أتحدث عن سنة 1984، وكنت فى ذروة صراع تصديت فيه لأحد أبرز جوانب الفساد والانحراف فى سلطة الإدارة، فاخترت اللجوء إلى القضاء ثقة فى القانون والعدالة من ناحية.. ولأننى لم أرغب فى الهبوط بمستوى الصدام إلى تمزيق متبادل للثياب يستنزف الجهد والطاقة، بعيدا عن صلب الموضوع، بمثل ما رأيته يحدث سابقا لزملاء موهوبين آخرين، جرى سحق موهبتهم مبكرا.. وبلا رحمة.. ليتحولوا إلى أشلاء.

ربما توسم صحفيون عديدون، معظمهم موهوبون، أن إقناعى بدخول مجلس نقابة الصحفيين، قد يعطيهم أملا فى حماية أكبر لمواهبهم ولمستقبلهم. لم أكن انتخابيا بطبعى.لكنهم بشرونى بأن كل ما يطلبونه منى هو التوقيع على استمارة الترشيح للانتخابات وهم كفيلون بالباقى. لم أصدر أى بيان انتخابى. لم أطلق أى وعود. لم أقم بأى جولة فى أى مؤسسة صحفية. لكنهم شكلوا من أنفسهم لجانا تقوم بكل ذلك نيابة عنى. ومن تلك اللحظة بدأت أخوض التجربة كما لو كنت أشاهد فيلما سينمائيا تفاجئنى مشاهده. وجاء المشهد الأخير بفرز أصوات الناخبين بما جعلنى عضوا فى مجلس نقابة الصحفيين مع أحد عشر زميلا آخر. وفى أول اجتماع للمجلس الجديد، جرى توزيع مسئولية الأعضاء على لجان العمل النقابى.. كلجنة الإسكان ولجنة العلاقات الخارجية ولجنة النشاط.. و.. و.. بقيت لجنة الحريات. عندها قال النقيب وبعض الأعضاء: لنترك رئاسة تلك اللجنة لمحمود عوض.

لم أعرف لحظتها.. هل النقيب يعطينى جائزة.. أو برميل بارود. لا تهم الإجابة هنا. المهم أنه بعد انتهاء الفيلم كله جلست أفكر: ماذا سأفعل مع الذين أعطونى ثقتهم على بياض، ودفعونى إلى عضوية مجلس نقابة الصحفيين من خلال صندوق الانتخاب؟ إن مدة العضوية أربع سنوات. وبالتأكيد هناك سؤال مشروع قد يطرحه على زملاء صحفيون من الآن فصاعدا، خلاصته: ماذا فعلت بأصواتنا؟ ماذا فعلت لنا؟ لم أكن بالطبيعة أصلح للوساطة فى أى شىء من نوع الوساطة للحصول على تليفون أو سيارة أو شقة، وكل تلك الأشياء التى قد يتوقعها البعض خدمات نقابية. لكن السؤال يظل مشروعا، وإجابتى عنه يجب أن تكون جاهزة ومقنعة. وفى النهاية اخترت أن تكون إجابتى هى فى صلب المهنة الصحفية وليس فى قشورها. كان اختيارى هو: إقامة أول مسابقة سنوية تكافئ المتميزين والمتفوقين مهنيا فى الصحافة المصرية.
هى فكرة.

لكن حتى الأفكار تحتاج إلى أجنحة لكى تحلق. وفى حالتنا هذه يصبح المال مطلوبا بشدة. فإذا كنت أفكر فى مسابقة سنوية لاختيار أفضل الأعمال المنشورة من حيث الأداء المهنى، فإن الصحفى الفائز يريد جائزة تتجاوز مجرد أن أقول له: أحسنت. وحديث المال هنا يبدأ من حقيقة مفزعة، عرفتها فى أول اجتماع لمجلس النقابة للتصديق على ميزانية سنة سابقة. فى الميزانية إعانة سنوية تتلقاها النقابة من الحكومة لتسديد المعاشات وتغطية خدمات أخرى، لا تكفى اشتراكات الأعضاء لتغطيتها. لم أكن أريد أيضا اللجوء إلى المؤسسات الصحفية لتمويل الجوائز لأن هذا يجعل الجوائز أسيرة للمصالح السائدة.. وهى فى معظمها مصالح صنعت الواقع الذى جعل الصحفى نفسه أرخص ما فى المهنة، بدل أن يكون أغلاها.

وقلت لزملائى: إننى أفكر فى أن تعبر هذه الفكرة عن مسابقة مهنية حقيقية . مسابقة مستقلة ومنزهة عن الهوى والغرض والسياسة. وأول ما تعنيه استقلالية المسابقة، هو استقلالية تمويلها. سوف أسعى لإقناع كبار الصحفيين بأن يكونوا هم أنفسهم ممولى هذه الجوائز السنوية، وبأن تكون لجان التحكيم وترشيح الأعمال الفائزة من صحفيين مخضرمين لهم رصيد حقيقى داخل المهنة، من حيث موضوعيتهم ومصداقيتهم ونقاء ضميرهم.
وقال لى بعض الزملاء: لكن كبار الصحفيين هؤلاء، عازفون عن النقابة. هم لا تلزمهم النقابة أصلا.
قلت لهم: هم لا تلزمهم النقابة. صحيح. لكن هم لازمون للنقابة. وهذا سيكون هو التغيير.

هى فكرة. لكن الأفكار مهما كانت جاذبيتها ترتبط بواقع. وفى الواقع كانت مفاجأتى كبيرة، حينما جلست مع أحد شيوخ المهنة لإقناعه بالمساهمة، لكنه بادرنى بالتساؤل معترضا: هل الصحافة بأوضاعها الراهنة تستحق أن نقدم لها جوائز؟ فليقوموا أولا بإصلاح الصحافة قبل أن نقوم نحن بعمل جوائز لها. أجبته قائلا: ولماذا لا نبدأ نحن بإعطاء النموذج؟ لماذا لا نعطى أملا للصحفيين الموهوبين، وهم بالطبيعة أقلية فيشدون إليهم الآخرين.. وهم أغلبية ؟ لم أنتظر إجابة. لكننى انتقلت إلى آخر من شيوخ المهنة.. وآخر.. وآخر.
فى حوارى مع أحمد بهاء الدين، وهو الكاتب المخضرم الذى كان له فى حينها عاموده اليومى فى جريدة «الأهرام»، بعد أن كان رئيسا لتحريرها فى مرحلة سابقة، طرحت عليه الفكرة قائلا له: إننى سأبدأ بنفسى مساهما فى هذه الجوائز بألف جنيه.
رد أحمد بهاء الدين على الفور: أنا أيضا سأساهم بألف جنيه.
قلت له: لم أجئ إليك لتساهم ماليا.. جئت لأقنعك برئاسة اللجنة العامة للتحكيم، وهى التى ستتحمل المسئولية عن نتائج المسابقة.
قال بهاء ضاحكا: ولماذا لا تسمح لى بأن أفعل الاثنين معا؟ فلنؤجل مسألة رئاسة لجنة التحكيم هذه.. ولتقبل منى الآن التزاما بألف جنيه.

ثم سكت بهاء قليلا قبل أن يضيف: إننى مسافر إلى الكويت غدا لعشرة أيام. ومن الآن أقول لك: إنك لو نجحت فقط فى جمع خمسة آلاف جنيه، فسيكون هذا بحد ذاته إنجازا غير مسبوق فى مهنتنا الصحفية.. لأن هذه الخمسة آلاف جنيه ستكون أكثر الأموال حلالا فى بر مصر!
وبعد عودته من الكويت بادر أحمد بهاء الدين بالاتصال بى متلهفا: هل نجحت فى جمع خمسة آلاف جنيه أو حتى ما يقترب منها؟
وأجبته: ساقول لك ما فاجأنى أنا نفسى. لقد جمعت 18 ألف جنيه.
مضت لحظات قبل أن يرد بهاء متهللا: بتتكلم جد؟ إذن سأزورك فى بيتك مساء لأعرف التفاصيل.

وفى بيتى بدأ بهاء يقرأ بضع أوراق تمثل استجابة لرسالة منى توجز الفكرة ومبادرتى بالمساهمة بألف جنيه.

من إحسان عبدالقدوس: «الأستاذ محمود عوض. موافق ومرحب بهذا المشروع، وإنى أساهم معك فيه بالتبرع بمبلغ ألف جنيه مصرى تضاف إلى قيمة الجائزة. وأشكرك على اهتمامك بمستقبل الصحافة والصحفيين».

من عبدالسلام داوود: «أهنئكم على هذه الفكرة الرائعة، وأرجو أن تقبلوا منى مبلغ ألف جنيه مساهمة فى إنجاح هذا المشروع العظيم. وفقكم الله إلى ما فيه خير العمل الصحفى الشريف».

من صلاح حافظ: «أخى الأستاذ محمود عوض: الفكرة رائعة وتعيد إلى الصحفيين بعض الاهتمام بالمستوى المهنى لما يكتبونه وبعض الاحترام للمستوى المهنى. وأرجو أن تقبل اشتراكى بألف جنيه فى ميزانية هذه الجائزة. ومن يدرى؟ لعلى ذات يوم أفوز بها! حظا سعيدا لك وللفكرة. أصدق احترامى».

من محمود السعدنى: «عفارم عليك، للفكرة منى ألف جنيه، ولك عندى دعاء الوالدين».
من مصطفى حسين: «يارب يا محمود تكتمل سعادتى بأن ترى هذه الفكرة النور، فتصبح تاجا على رؤوسنا جميعا.. وأتعهد لك بالمساهمة بخمسمائة جنيه وأى جهد آخر تطلبه منى».
من مصطفى شردى: «أنا وجريدة الوفد التى أرأسها معك بقلوبنا. ويسرنى المساهمة بثلاثمائة جنيه، تدعيما لهذه الفكرة الرائدة . وشكرا للزميل الفاضل محمود عوض الذى طرحها واحتضنها حتى بلغت مرحلة التنفيذ».

من محمود المراغى نائب رئيس تحرير «روزاليوسف»: «فى وقت تراجعت فيه المبادأة، وغابت الرعاية الصحفية اللازمة لجيل واسع جديد، تجىء فكرة جوائز الصحافة المصرية لأحسن عمل صحفى لتذكى روح المنافسة وتربط الجيل الجديد بالقديم، وتبرز الأجود والأفضل مما قد لا يحس به القارئ، أو يحس به المجتمع الصحفى بالدرجة الكافية. مع تحياتى والتزامى بالمساهمة بثلاثمائة جنيه».

من محمد حسنين هيكل :«لى الشرف أن أساهم فى هذه الجوائز بمبلغ خمسة آلاف جنيه. مع موفور الشكر».

و.. و.. و18 ألف جنيه وليس فقط خمسة، هى بتعبيرك أكثر الفلوس حلالا فى بر مصر، وساهم بها ثلاثون من كبار وشباب الصحفيين.

تهلل وجه أحمد بهاء الدين بسعادة استثنائية، ثم قال لى: طالما أصبحت لديك كل هذه المستمسكات فهات ورقة. بعدها كتب: «أهنئكم على الفكرة ويشرفنى أن أساهم فى الجوائز المقدمة بمبلغ ألف جنيه. مع أطيب تحياتى». شرحت لأحمد بهاء الدين أننى فى هذه المرحلة، لم أكن أريد تسلم أموال أو شيكات بأموال، لأن هذا سيحدث فقط بعد فتح حساب باسم الجوائز فى أحد البنوك قبل الدخول فى المرحلة التالية. ثم صمت بهاء قليلا قبل أن يتساءل: لكن.. هل هيكل متأكد مسبقا من نجاح هذه الفكرة واستمرارها لخمس سنوات قادمة، حتى يساهم بخمسة آلاف جنيه؟
قلت له: هيكل فاجأنى بما لم أتوقعه.. فاجأنى بقوله إنه يساهم بخمسة آلاف جنيه فى هذه المرة.. وبنفس المبلغ فى كل سنة تالية.

وبكل تلك الثقة من المساهمين بدأت أنا وزملائى طريق الألف خطوة لكى تتحول «جوائز الصحافة المصرية» من فكرة جاذبة، وحلم هائم، إلى واقع يتابعه الصحفيون جميعا.. بغير أن أتصور أنها جوائز سترصدها وتتابعها أيضا سفارات دول كبرى فى القاهرة