عروبـة مؤجلـــة للمستقبــل


جاء نجاح المسابقة الأولى لـ«جوائز الصحافة المصرية» بمثابة الشرارة التى أطلقت مشاعر جياشة داخل المجتمع الصحفى وخارجه، كان يبدو أنها تراجعت تحت السطح، مشاعر بأهمية التفوق فى الأداء المهنى الصحفى لمصلحة القارئ أولا، ولحقيقة أن لدى الصحفيين ما يستحق المنافسة من أجله.

ومن بين التعليقات العديدة المنشورة سأضرب مثلا بمقال على مساحة ثلاث صفحات فى مجلة «روزاليوسف» كتبه عدلى فهيم بعنوان «الليلة الكبيرة» حيث انطلقت أصوات الصحفيين الشبان على وجه الخصوص يغنون (سنة حلوة يا صحافة.. سنة حرة يا صحافة).. وقبل أن يغادر الجميع قاعة الحفل تجمعوا حول تورتة كبيرة من الشيكولاتة حملت شمعة واحدة، وترصعت بكلمات أشبه بحبات اللولى الحر: مبروك لجوائز الصحافة المصرية، وقطع التورتة واحد من شيوخ الصحافة ولكنه شيخ الشباب أيضا.. هو صلاح حافظ.

كانت تلك هى طبيعة صلاح حافظ فعلا.. شاب فى شيخوخته.. وفنان فى حماسه، ومرة على الأقل فى كل أسبوع كان يذهب إلى مؤسسة «روزاليوسف» حاملا فى حقيبة يده تحقيقات وموضوعات صحفية أعاد صياغتها أو اختار لها عناوين أكثر جاذبية ليجرى نشرها.

وفى المرة الأولى التى زارنى فيها بعد الاحتفال قال لى: «تصور.. أنا اعتدت منذ سنوات طويلة، وفى كل مرة أذهب فيها إلى روزاليوسف، على سماع المناقشات العديدة بين الصحفيين وفى مقدمتها الشكوى المستمرة من عدم كفاية المرتب أو استمرار الجمود المهنى، ومنذ احتفال الجوائز تذكر الصحفيون أنهم.. صحفيون، لقد تحولت المناقشات إلى التسابق على طرح أفضل الأفكار لتحقيقات صحفية يكفل لهم نشرها التقدم بها إلى المسابقات التالية، الكل بدأ يبحث عن الفكرة الجديدة أو غير المسبوقة، ويتعمق فى تفاصيلها لكى تصبح أشمل وأكثر جاذبية.. وهكذا.. وهكذا».

نفس الانطباع خرج به أحمد بهاء الدين من مناقشات سعى إليها معه صحفيون من «الأهرام» و«الأخبار» و«الجمهورية» بخلاف صحف المعارضة جميعا، وكان من الملاحظات التى نبهنا إليها هذا الحماس الصحفى المستجد، التساؤل المتكرر: لماذا فاتنا أن نضيف إلى المسابقة جوائز للإخراج الصحفى؟ ووجدنا أن هذا معقول فعلا، فالمخرج الفنى ويسمى غالبا: سكرتير التحرير هو بمثابة العقل المفكر المسئول عن جعل صفحات الجريدة أو المجلة أكثر تناسقا وجاذبية من حيث الإخراج والاستثمار المناسب لأحجام العناوين والصور والرسوم الكاريكاتيرية، إن وجدت.. إلخ.

وكان هناك زملاء آخرون اقترحوا فروعا لجوائز إضافية، سواء للصحف الإقليمية.. أو لصحافة وكالة أنباء الشرق الأوسط، وهى الوكالة الوحيدة فى مصر.. و.. و.. إنما المشكلة كانت فى محدودية المساهمات المالية المتاحة، فهى كبيرة فى معناها لكنها فى النهاية لا تزال محدودة فى قيمتها المالية، هذا تغير فقط بعد الاحتفال الأول للجوائز، وكان فألا طيبا أن يتصل بى إحسان عبد القدوس مداعبا لى بقوله: يا محمود.. لو مش عايز تزورنى وتشرب قهوة.. على الأقل تعال لتستلم الشيك (بألف جنيه) للمسابقة الثانية.

ومبدئيا فإن كل من ساهموا فى المسابقة الأولى كرروا مساهمتهم، وبنفس المبالغ، فى المسابقة الثانية، لكن فى هذه المرة زاد عليهم زملاء إضافيون جدد، صلاح منتصر مثلا قدم مساهمته المالية فى اليوم التالى مباشرة لتسلمه نصيبه السنوى من الأرباح فى جريدة «الأهرام».. قبل أن يصبح رئيسا لمجلس إدارة دار المعارف ورئيسا لتحرير مجلة «أكتوبر».محمد سلماوى بدأ يساهم رغم أنه يرى أن فكرة الجوائز قد لا تكون مريحة، وربما مستفزة، للصحفيين غير الموهوبين، خالد محيى الدين رئيس حزب التجمع أراد المساهمة فقلت له إننا لا نقبل المساهمة من غير الصحفيين، فذكرنى ومعه الحق بأنه عضو قديم فى نقابة الصحفيين، فوق ذلك.. فقد حرص عدد من الفائزين بالجوائز فى المسابقة الأولى بأن يساهموا ماليا فى المسابقة الثانية.. كعبدالقادر شهيب وإحسان بكر مثلا، كل هذا، وغيره، سمح لنا أن نرفع قيمة الجوائز فى المسابقة الثانية من 18 ألفا إلى 25 ألف جنيه (بقيمة الجنيه فى سنة 1986).

لكن قبل الوصول إلى تلك النقطة كنت فى طريقى إلى لندن لاستراحة قصيرة، وأيضا لعلاج آلام فى العمود الفقرى، وهناك اكتشفت أن الفكرة التى غادرتها فى القاهرة قد سبقتنى أيضا إلى لندن، فى ذلك الحين كانت لندن مقرا لطباعة وإصدار العديد من الصحف والمجلات العربية المهاجرة، وينشر فيها عدد لا بأس به من الصحفيين المصريين، هؤلاء أيضا وجدتهم يتساءلون: أليست هناك أى طريقة تسمح لنا بالتقدم إلى المسابقة بأعمال لنا منشورة فى لندن؟ للأسف.. لا توجد، فنحن فى لجنة الجوائز متفقون من البداية على أن تقتصر الجوائز فقط على الأعمال المنشورة فى الصحافة المصرية، حتى رؤساء تحرير الصحف العربية الذين كانوا قد اتصلوا بى من الكويت والإمارات وغيرهما كانوا يعرضون مساهمة صحفهم بمبالغ كبيرة تمويلا للمسابقة.. لكننى كنت أرد بأننا متفقون فى هذه المرحلة على تأجيل ذلك للمستقبل بعد أن تكتسب الجوائز ملامحها الدائمة، وكنت أرى أيضا أن الوقت لا يزال مبكرا لتوسيع نطاق الجوائز بالامتداد إلى صحف وصحفيى العالم العربى.

وفى لندن أطلعنى الصديق اللبنانى فؤاد مطر، رئيس تحرير مجلة «التضامن» على عدد من المجلة خصصت فيه مقالها الافتتاحى للترحيب بالجوائز المصرية، والتنويه إلى أنه من بين ما جعل للجوائز المصرية صداها غير المسبوق فى الصحافة العربية -إلى جانب الاستقلالية فى التمويل- هو أن ثلاثة على الأقل من أعضاء لجنة التحكيم لهم مصداقيتهم باتساع العالم العربى بالنظر إلى انتشار مقالاتهم التى تنشرها لهم كبريات الصحف العربية، فى نفس الوقت كانت قد سبقته مجلة «الوطن العربى» التى تصدر من باريس إلى كتابة مقالها الافتتاحى عن المسابقة أيضا واختتمته بقولها: «هكذا تسبق مصر الجميع دائما، إن الروح الديمقراطية العادلة التى تسود مسابقة جوائز الصحافة المصرية هى التى فاجأت الجميع، ونحن نتطلع من الآن إلى أن تفاجئنا المسابقة مستقبلا بأن تشمل أيضا الصحفيين فى المطبوعات والإصدارات العربية»، ترحيبات من هذا النوع تواتر نشرها فى صحف ومجلات عربية أخرى أقدر مشاعرها تماما مؤجلا التفكير فى ذلك إلى المستقبل.

وفى لندن أيضا كانت السيدة همت مصطفى هى المستشار الإعلامى للسفارة من بعد استقالتها من عملها كرئيسة للتليفزيون فى القاهرة، وحينما علمت بوجودنا فى لندن -أحمد بهاء الدين وأنا- تفضلت هى وزوجها بدعوتنا إلى العشاء فى منزلها.. لأفاجأ أيضا بأن مسابقة جوائز الصحافة المصرية قد تسللت إلى مناقشتنا: هل تتابع المسابقات الشبيهة فى الصحافة البريطانية؟ نعم، أتابع، فمؤسسة «الديلى ميرور» الصحفية تعهد سنويا إلى لجنة خاصة مهمة اختيار الأعمال الصحفية المرشحة للفوز، لكن الذين يرشحون هم رؤساء تحرير الصحف الأخرى أنفسهم، هذا قد لا يناسب حالتنا فى مصر لأن الثقة ليست كبيرة بعد فى بعض رؤساء التحرير من حيث تغليب انحيازاتهم السياسية أو الشخصية، والدليل على ذلك أن صحفيين عديدين من صحف قومية تقدموا إلينا بأعمال لهم منشورة فى صحف المعارضة وليس فى صحفهم القومية.

كنت أيضا قد درست جوائز «بوليتزر» السنوية فى الصحافة الأمريكية وتنظمها مدرسة الصحافة فى جامعة كولومبيا لإعطاء جائزة واحدة عن كل واحد من عشرة فروع صحفية حددتها، فى الحالة البريطانية قيمة الجائزة ألف جنيه إسترلينى، وفى الحالة الأمريكية القيمة ألف دولار، ونحن فى مسابقتنا المصرية بدأنا بثمانية فروع ستصبح عشرة فى المسابقة الثانية، والجائزة الأولى فى كل فرع 1500 جنيه بخلاف جائزة ثانية وثالثة، لا بأس من المقارنة إذن مع تميز جوائزنا بأنها ممولة بالكامل من صحفيين، 18 ألف جنيه فى المسابقة الأولى أصبحت 25 ألف جنيه فى السنة الثانية، وربما لو حسبنا فارق العملة فسنجد أن فلوسنا هى «الأكثر حلالا فى بر مصر» بتعبير أحمد بهاء الدين.

ونتيجة للمصداقية التى أكدتها «جوائز الصحافة المصرية» فى سنتها الأولى فقد أخذها الصحفيون بجدية مضاعفة فى سنتها الثانية، لقد تضاعف الإقبال، سواء من حيث عدد الصحفيين المتقدمين أو من حيث أعمالهم المنشورة وتقدموا بها، هذا بدوره ضاعف من جهد رؤساء لجان التقييم وأعضاء اللجنة العامة للتحكيم بمراعاة اعتبارين: إن كل هذا مجهود تطوعى من أوله إلى آخره.. وأن معظمنا لديه التزاماته الصحفية الثابتة، سواء على مستوى الصحافة المصرية أو العربية.

ومع إعلان نتائج المسابقة فى سنتها الثانية أصبح عدد الفائزين 31 صحفيا من بين مئات معظمهم تقدم للمسابقة بأكثر من عمل فى أكثر من فرع، ونستطيع أن نستعيد ضراوة المنافسة من معرفة أنه من الفائزين فيها من هم برصيد وخبرة مرسى عطا الله وحسن المستكاوى وهدايت عبد النبى ومجدى مهنا وطارق الشناوى.. كمجرد أمثلة.

ومع الاحتفال بتوزيع جوائز الصحافة المصرية فى سنتها الثانية، وتحدد له 19/7/1986، كان المدعو للمشاركة هو رئيس الوزراء الجديد الدكتور على لطفى. فى تلك المرة كان الإصرار مستمرا على أن يكون الصحفيون أنفسهم مسئولين عن كل خطوات المسابقة من أولها وحتى تنظيم الاحتفال بها، وبالإجمال.. كان رد الفعل فى المجتمع الصحفى يتلخص فى: إن هذه المسابقة ولدت لتبقى.. وتستمر.

بببوبكل تلك الآمال والانفعالات أصبح الصحفيون يتساءلون من اليوم التالى مباشرة للاحتفال: متى ستفتحون باب التقدم إلى الجوائز فى سنتها الثالثة؟
ولم يكونوا يعرفون بعد أن الثالثة.. تابتة.

0 التعليقات:

إرسال تعليق