حتى بفلوسنا للحكومة شروط


محمود عوض
لم تكن «جوائز الصحافة المصرية».. باعتبارها أول مسابقة مهنية يقوم بتمويلها وتنظيمها الصحفيون أنفسهم.. صادرة من فراغ. فى الواقع سبقتها سلسلة ندوات مفتوحة اقترحتها، لبحث «حرية الصحافة فى مصر». وتعبير «ندوات مفتوحة» هنا، لم يكن فى حينها سهلا بالمرة. فحينما عرضت الفكرة لأول مرة، وجدت زملاء فى مجلس نقابة الصحفيين يصرون من البداية على أن تكون الندوات مغلقة، يحضرها صحفيون محدودو العدد والأسماء مسبقا.

وحينما رأونى مصرا على الندوات المفتوحة أجابونى بقولهم: نحن نشفق عليك.. فالسائد فى النقابة فى حينها غالبا، هو أنه لا يجتمع عشرة صحفيين، إلا ويظهر على الفور صحفى آخر ممن أسميهم «جرحى المهنة» يقوم بحسن أو سوء نية بإفساد الاجتماع.

وحينما فاتحت مصطفى أمين ليكون ضيف الندوة الأولى، فاجأنى هو أيضا بتردده فى القبول، وإن كان لسبب مختلف تماما. قال لى مصطفى أمين: وهل ترضى لى بأن يصرخ فى وجهى من يسلطه الشيوعيون، ليقوم بالشوشرة على انتقاداتى المعروفة لأوضاع الصحافة السائدة فى مصر الآن؟

وقلت له: إنك ستكون ضيفى أولا قبل نقابة الصحفيين. وأيا كانت الآراء التى ستقولها، أو المناقشات التى ستجرى، فإننى أضمن لك مستواها المهنى وموضوعيتها الكاملة.

وبالطبع لم يكن لدى ذلك النوع من السلطة الذى يتيح مثل ذلك الضمان المفتوح. سلطتى مستمدة فقط من حماس وإيمان الصحفيين أنفسهم، بضرورة الارتفاع بمستوى مهنتهم، ورغبتهم فى المناقشة المفتوحة مع أساتذة لهم فى المهنة، لم يعودوا يلتقون بهم إلا على صفحات الصحف.

فى الندوة الأولى كان المتحدث هو مصطفى أمين. وفى الثانية أحمد بهاء الدين. وفى الثالثة صلاح حافظ، وصلاح منتصر. وفى الرابعة رؤساء تحرير الصحف الحزبية فى حينها. وفى كل الحالات كان ما أسعى إليه، هو طرح قضية حرية الصحافة من وجهة نظر من هم على يمين الأمر الواقع، ومن هم على يساره. وكما نشرت صحف مصرية وعربية عديدة وقتها، فإن متوسط الحضور من الصحفيين تراوح بين ألف و1200 صحفى، وهو تطور غير مسبوق فى تاريخ نقابة الصحفيين المصريين. وفى كل مرة كان يجرى طرح القضايا والآراء والانتقادات والمناقشات بكل حرية وموضوعية.. وفى الهواء الطلق. والأكثر أهمية أن الإقبال فى الحضور والمشاركة، كان من الصحفيين المهنيين الذين اعتادوا سابقا العزوف عن كل ما فيه نقابة.

من تلك التجربة اخترت عددا من الزملاء، أعتمد عليهم فى تحويل مشروع «جوائز الصحافة المصرية» إلى واقع جديد وغير مسبوق فى الخريطة الصحفية المصرية. وقد أشرت سابقا إلى شعور أحمد بهاء الدين بالمفاجأة، وهو يقرأ فى بيتى مساهمات مكتوبة من كبار وشباب الصحفيين، بلغت 18 ألف جنيه.

ولتوضيح أهمية هذا الرقم، أتذكر أن الميزانية السنوية لنقابة الصحفيين كانت تعانى من عجز مزمن، رغم المعونة السنوية التى تساهم بها الحكومة. وفى أول ميزانية قرأتها بعد عضويتى لمجلس النقابة، كان العجز يتجاوز 59 ألف جنيه.

واكتشفت أن هناك شكوى متكررة سنويا من مكرم جاد الكريم الزميل المصور بجريدة «الأخبار»، وهو الذى انفرد (مع رشاد القوصى) بأبرز صور اغتيال أنور السادات فى أكتوبر 1981، وتناقلتها عنه فى حينها وكالات الأنباء الأجنبية. لكن هذا المصور المتميز، كان يهمه أساسا أن يتم تكريمه داخل مهنته الصحفية هنا فى مصر، وقد تلقى وعدا مكتوبا من نقيب الصحفيين وقتها، ومن مجلس النقابة بجائزة مالية قدرها ألف جنيه.

مع ذلك لم يتم تنفيذ ذلك الوعد، لأن النقابة سنة بعد سنة بعد سنة، لم يكن لديها تلك الألف جنيه لتكافئ بها مصورا موهوبا.

والآن ها هى جوائز حقيقية تقام لأول مرة، ويقوم بتمويلها الصحفيون أنفسهم وقيمتها 18 ألف جنيه، اعتبر أحمد بهاء الدين أنها «أكثر الفلوس حلالا فى بر مصر». كانت الفلوس خطوة أولى لكن الخطوات التالية لم تكن أقل صعوبة. هناك أولا تحديد فروع المسابقة: التحقيق الصحفى.. المقال التحليلى.. الصورة.. الكاريكاتير.. التغطية الرياضية... إلخ. وهناك لجنة تحكيم لكل فرع، حرصناعلى أن يرأسها فى كل حالة زميل مخضرم مشهود له بالنزاهة والموضوعية. زملاء بمستوى: سلامة أحمد سلامة، وحلمى التونى، ومصطفى حسين، وعبد السلام داود، وصلاح الدين حافظ، ومصطفى نبيل، ومحمد العزبى، وصلاح هلال، وممدوح طه، ومحمد يوسف، وناصف سليم و.. و..

وأخيرا هناك اللجنة العامة للجوائز، وتضم أحمد بهاء الدين، وصلاح وحافظ، ومصطفى بهجت بدوى، وإبراهيم نافع كنقيب للصحفيين فى سنته الأولى، ومحمود عوض كمقرر للجنة وصاحب فكرة الجوائز. كل هؤلاء ومن زاد عليهم مساهما فيما بعد، قدموا من وقتهم وجهدهم الكثير كمتطوعين لوجه الله والمهنة الصحفية. وبعد أن حددنا قواعد التقدم للجوائز، تقدم للمسابقة الأولى 226 صحفية وصحفيا. والرقم قد يبدو قليلا، لكن أهميته تصبح أكبر حينما نعرف أن مجموع الأعمال التى تقدم بها هؤلاء بلغ 351 عملا، جرى نشرها بالصحافة المصرية بامتداد سنة.

كانت اللجنة العامة تجتمع فى بيتى مرة بعد مرة، لمراجعة ترشيحات اللجان النوعية للأعمال الفائزة. وبالطبع لهذه اللجنة وبالإجماع أن تقر الترشيحات، أو تعدل فيها، أو تعيد هى نفسها قراءة الأعمال المقدمة من جديد. وكان على اللجنة عبء آخر هو التنسيق بين ترشيحات اللجان النوعية. فما جرى، ولم نتنبأ به، هو أن صحفيين عديدين تقدموا بأعمال عديدة لعدة فروع صحفية. وهنا تصبح المسألة هى: أى الفروع الصحفية تصبح أكثر مناسبة للصحفى المرشح للفوز. مسألة أخرى لم نتنبأ بها.

ففى المسابقة الأولى (عن عام 1984) تقدم الدكتور عبد المنعم سعيد، والسيد زهرة من مركز الدراسات الاستراتيجية بمؤسسة «الأهرام» بأعمال منشورة لهما. وجزء من نقاش اللجنة العامة أصبح هو: هل ما ينتجه مركز دراسات الأهرام أقرب إلى العمل الأكاديمى، أو هو فى صلب المهنة الصحفية؟

اجتماعات اللجنة العامة كانت فى بيتى والمناقشات المستفيضة بيننا، تستمر أحيانا حتى الواحدة صباحا. ويزيد الأمر صعوبة حينما نعرف أن أحمد بهاء الدين مثلا كان يعانى من آلام فى عينيه، وقرر له الأطباء عدسات إضافية كالميكروسكوب، يضعها فوق نظارته الطبية وقت القراءة. وحينما يلح عليه بعضنا أو كلنا بأن يخفف من هذا الجهد المؤلم يصر على الاستمرار قائلا: هذه الجوائز ستصبح مسئوليتنا جميعا. وشهادة التقدير التى سيحصل عليها الصحفى الفائز وعليها توقيعاتنا نحن الخمسة، سيحتفظ بها الفائز طول العمر. فالمسئولية كبيرة رغم أن الصحة بسيطة.

وفى تلك النقطة خطر لى أن أطلب من الصديق الرسام مصطفى حسين تصميما لشهادة التقدير يناسب الفكرة. ورحب تماما بالمهمة، مصمما شهادة تحمل رسما للكاتب المصرى المعروف تاريخيا، فأضاف مصطفى حسين جهدا آخر فوق رئاسته للجنة الكاريكاتير ومساهمته المالية فى الجوائز.

وكما كتب أحمد بهاء الدين فيما بعد: «شرفتنى لجنة الحريات فى نقابة الصحفيين باختيارى رئيسا للجنة التحكيم فى أول مسابقة، تقيمها النقابة لإعطاء جوائز صحفية... كانت مهمة شاقة وممتعة.

فقد قرأنا الكثير من الموضوعات الممتازة. وكانت فرصة لنرى إيجابيات كثيرة للصحافة المصرية ولشبابها، فى وسط إحساسنا وكلامنا الدائم عن عيوبها وسلبياتها. وأستطيع أن أقول باسم اللجنة، إننا تجردنا عن كل الاعتبارات، ما عدا اعتبار التفوق المهنى المحض.

ففاز شباب من كل الصحف، ومن كل الأحزاب، ومن كل الاتجاهات... وعدد كبير من الفائزين فوجئوا أكثر من الجميع، ولم يتصوروا أنه يمكن أن يتبرأ الاختيار من اعتبارات حياتنا المعروفة: رأى السلطة، أو المعرفة الشخصية، أو المجاملة، أو الميل الخاص، أو الشهرة والصيت».

لكن قبل أن نصل إلى تلك النقطة، كان السؤال فى اللجنة هو :كيف سنعلن الجوائز ونحتفل بها؟
قال صلاح حافظ: طالما أننا اتفقنا من البداية على أن الـ18 ألف جنيه تذهب كلها إلى الجوائز.. فلا يبقى سوى أن نقيم حفل شاى بسيطا بمبنى النقابة، ندعوا فيه الفائزين لاستلام جوائزهم.

وقلت له مداعبا: يا صلاح كل صحفى فائز يهمه إعلان فوزه أمام أكبر عدد من الناس وليس مجرد مهنته.. ولولا قصور إمكانياتنا لكنت فكرت فى حفل عشاء كبير وتليفزيون يصور.. و..
قاطعنى مصطفى بهجت بدوى: لن يجىء التليفزيون إلا إذا جاءت الحكومة.

تدخل النقيب إبراهيم نافع: إذن نعزم الحكومة ونعمل العشاء، ويكون فى فندق خمس نجوم، لكى يليق بهذه المسابقة الأولى من نوعها فى العالم العربى كله. وسكت قليلا قبل أن يضيف: وبصفتى رئيسا للأهرام، سأرفع عنكم هذا الهم، وستتحمل الأهرام تكاليف الاحتفال..
بعد تلك البشرى من إبراهيم نافع فى سنته الأولى كنقيب للصحفيين بقى السؤال: من يدعو؟ ومن يدعى؟

فى أوراق ذلك الاجتماع تحديدا، وقعنا على بندين: دعوة رئيس الوزراء كمال حسن على وقتها، يقوم بها إبراهيم نافع.. ودعوة كبار الكتاب، يقوم بها محمود عوض.

بعدها بيومين اتصل بى إبراهيم نافع ليخبرنى بكلمات غاضبة، بأنه أنهى لتوه مكالمة تليفونية مع مدير مكتب رئيس الوزراء بعد مناقشة حادة وهذا هو رقم تليفونه.. تفضل أنت وتصرف.

لم أعرف كيف أتصرف، فلم أكن أعرف رئيس الوزراء ولا مدير مكتبه. لكننى بعد أن فكرت فى المشوار الطويل الذى قطعته الجوائز، وكل ذلك الجهد، اتصلت بمدير مكتب رئيس الوزراء.
فى جلستنا بمكتبه وجدته يسترسل فى حكاية ورواية مكالمته الغاضبة مع نقيب الصحفيين. وقلت له: دعنا نبدأ من جلستنا هذه. نحن نريد دعوة رئيس الوزراء لحضور احتفالنا بجوائز، نحن الذين ساهمنا بها بغير حكومة ولا نقابة ولا مؤسسات. ما طلباتك؟
قال بكلمات حادة: كم عدد الصحفيين المدعوين؟
قلت له: المساهمون والفائزون والآخرون.. بالإجمال نحو ثلاثمائة صحفى.
قال مدير مكتب رئيس الوزراء: أولا.. أريد كشفا مكتوبا بأسمائهم جميعا وبالاسم الثلاثى لكل منهم وعنوان إقامته.

انعقد لسانى من الدهشة والاستغراب والمفاجأة: الاسم الثلاثى؟ لماذا؟ أنا لا أعرف حتى الاسم الثلاثى لجارى فى المسكن من عشرين سنة.. ما هى فكرتكم بالضبط عن الصحفيين؟ هل هم من غرائب الطبيعة والمخلوقات؟
رد الرجل بكل اطمئنان: انت بتقول فيها؟
الآن جاء دورى فى الغضب، فقلت له: هذه أول مرة نعزم فيها الحكومة، وعلى حسابنا، وكمان تفاجئنا بمثل هذا الطلب الغريب؟
رد جازما: هذا شرط أولى.. إنما هناك أيضا شروط أخرى.

0 التعليقات:

إرسال تعليق