توابع النزاهـة والأحكام الغيابية


فى طريقى إلى رئيس الوزراء كمال حسن على، كانت تغمرنى تلك المشاعر المتضاربة التى خرجت بها من التجربة الأولى لإقامة مسابقة «جوائز الصحافة المصرية»، وباعتبارها تجربة أولى، فقد كان القلق عليها بقدر الحماس لها.. والتفاصيل بنفس أهمية الخطوط العريضة وتفاعل شيوخ المهنة مع شبابها يوازى رد الاعتبار لأهمية إتقان الأداء المهنى فى الصحافة، الذى هو الوجه الآخر لحق القارئ فى المعرفة ومسئولية الصحفى عن التمييز بين الرأى والخبر.

وبوجهه البشوش الذى لا يوحى أبدا بخلفيته العسكرية (ترك كمال حسن على القوات المسلحة برتبة فريق ) قال لى رئيس الوزراء: الحقيقة أنا طلبتك لسببين.. لأعتذر لك.. ولأشكرك.

فأما الاعتذار.. فلأننى جئت إلى هذا الاحتفال مترددا، أقدم رجلا وأؤخر أخرى، لم تكن لهذا الاحتفال سابقة لأقيس عليها، ولا لتلك الجوائز تاريخ لأعود إليه، وطبعا.. أولاد الحلال كثير.. قالوا لى يا أفندم معقول تروح برجليك لتجلس فى وسط 300 صحفى فيهم كده، وكده.
قلت له: يا سعادة رئيس الوزراء.. من غير كده، وكده.. مالهم الصحفيين؟ وحوش الغابة أو من أكلة اللحوم البشرية مثلا؟

قال رئيس الوزراء ضاحكا: مش بالضبط.. إنما أنت شايف.. كفاية رسوم الكاريكاتير اللى بتسلخنى أنا والحكومة كل يوم، على أى حال.. جئت إلى الاحتفال بهذا التوجس، وأنا هنا أكلمك بصراحة، لكن من أول دقيقة بدأت فكرتى المسبقة تتغير تماما بعد أن وجدت نفسى فى وسط صورة متحضرة وغير مسبوقة لمهنة جعلت تلك الجوائز شيوخها يتفاعلون مع شبابها على ذلك النحو البديع، وخلال ربع ساعة أدركت من هو صاحب المولد كله، ولذلك رجوت حضورك لأعتذر لك مبدئيا عن ترددى فى الحضور الذى سبق الحفل.

فى تلك اللحظة استعدت تلقائيا تلك الغصة فى حلقى المستمرة معى منذ اليوم الذى استقبلنى فيه مدير مكتبه ليطرح أمامى شروطا عبثية رفضتها جميعا.. قبل أن يعيد الاتصال بى فى مساء نفس اليوم، بينما كان يزورنى مصطفى حسين، ويخبرنى بموافقة رئيس الوزراء على قبول الدعوة لحضور الاحتفال.

ثم أضاف كمال حسن على رئيس الوزراء بكل مودة: الآن أكرر لك شكرى عن نفسى وعن الحكومة على أنكم بدأتم هذا التقليد غير المسبوق فى الصحافة أو أى مهنة أخرى، وقد عرفت أنك واجهت صعوبات وبذلت جهدا كبيرا فى جمع الـ18 ألف جنيه للجوائز.

قلت له: هذا طبيعى.. بالنظر إلى أن مسألة أن يتولى الصحفيون أنفسهم تمويل الجوائز هى تقليد جديد لا سابقة له.

وبابتسامة عريضة قال رئيس الوزراء: عموما دعنا نتطلع الآن إلى المستقبل، فلكى تستمر هذه الجوائز وتصبح أكبر وأكبر، ولكى يكون شكرى لك عمليا، فإننى كلفت المستشار القانونى لمجلس الوزراء بأن يضع تصورا تنظيميا يسمح للحكومة بأن تساهم فى تلك الجوائز بمائة ألف جنيه سنويا و..

كانت مفاجأة، وهى مفاجأة من العيار الثقيل أربكتنى بالكامل بما جعلنى للحظات أبحث عن كلمات أرد بها، ويبدو أن تعبيرات وجهى فضحت شعورى بـ«الخضة».. لأن رئيس الوزراء استرسل قائلاً: لا.. لا.. لن تكون مساهمة الحكومة لسنة واحدة فأنا سمعت فى الاحتفال أنكم تسعون لاستمرارها سنويا، لذلك فعن نفسى أتكلم عن التزام لخمس سنوات يمتد إلى من يخلفنى كرئيس للوزراء، وبعدها.. إنت وشطارتك.

قلت له: الحقيقة إن العقدة ليست هنا.. فهذا التقليد الذى شهدته وأثار لديك كل هذه المشاعر الجميلة أساسه هو أنه ليوم واحد فى السنة يجىء كبار الصحفيين من بيوتهم ليحتفلوا معا بصحفيين فائزين بجوائز جرى تمويلها بالكامل من الصحفيين، وإذا كنت أنا قد ساهمت بالفكرة وبالتنظيم إلا أن قيمة الجوائز هى بقيمة من آمنوا بالفكرة وساهموا فى نجاحها.. بالمال أو بالجهد أو بكليهما معا.

للحظة أو لحظات بدا أننا على موجتين منفصلتين.. رئيس الوزراء وأنا، لكن شعورى بالامتنان لاهتمام الرجل كان يجب أن يتساوى مع التعبير بوضوح عن جوهر هذه المسابقة وجوائزها.. فهو يتساءل مستغربا تماما من أن نكون فى حالة استغناء وتعفف عن هذا المستوى الحكومى من التجاوب والتفاعل.
وقلت له من قبيل الدعابة تخفيفا للنقاش: سيادتك أكيد تعرف المثل الشعبى.. يا نحلة لا تقرصينى، ولا أنا أنتظر منك عسلا.
مال رئيس الوزراء بكل جسمه قليلا إلى الخلف وضحكته المجلجلة تملأ المكان مستغربا: للدرجة دى؟!

قلت له : يا سعادة رئيس الوزراء.. لعلك تتذكر أننى فى كلمتى التى ألقيتها فى الاحتفال قلت تحديدا إن هذه المسابقة «سوف تستمر مهنية تماما، ومستقلة حتى عن نقابة الصحفيين ذاتها وعن أى مؤسسة منفردة لأن هذا يضيف إلى مصداقيتها وقوتها». أنا حرصت على توضيح ذلك من البداية أمام كل الصحفيين الحاضرين، وفى وجودك مع رئيس مجلس الشعب والوزراء ورؤساء الصحف القومية والحزبية، وفى كل التغطيات الإعلامية وما نقلته وكالات الأنباء عن الاحتفال فى الأيام الماضية كان أهم ما ركز عليه الجميع هو استقلالية المسابقة فى تمويلها وتنظيمها وتحكيمها.

تدافعت الأفكار فى عقلى وفى كلماتى حتى أوضح أننى من البداية ليس لى أى سلطة على المساهمين من كبار الصحفيين تتجاوز مصداقيتى بينهم، كل واحد من هؤلاء، وبخبرته بالمهنة وبالعاملين فيها لأكثر من ثلاثين وأربعين سنة يستطيع من منزله أن يشم رائحة النزاهة أو عدمها من أبعد مسافة ممكنة، بغير التأكد مسبقا من النزاهة والمصداقية لن يساهم ولن يغادر منزله ليحضر الاحتفال على نحو ما جرى، حتى من طرأ عليه سفر أو ظرف صحى، كمحمود السعدنى وكامل زهيرى ويوسف إدريس مثلا، حرصوا على نقل تهانيهم للفائزين بصورة أو بأخرى، وبكل اهتمام ومحبة ورعاية.

ثم إن دخول الحكومة، أو حتى المؤسسات الصحفية، سيكون عامل ضغط حقيقى على القائمين بالتحكيم والتقييم بما يخصم من استقلالية الجوائز، وأحد المعانى الجميلة التى سجلها المعلقون على الجوائز هو أنهم شهدوا لأول مرة رئيس حكومة يشارك فى تسليم جوائز لمن انتقدوا حكومته.. هذا لن يكون واردا إذا تحولت المسابقة لتعتمد على مساهمة الحكومة و.. و.. و..

فى النهاية قال لى رئيس الوزراء بكل لطف ومودة: على أى حال لو غيرت رأيك اتصل بى، وسأظل عند وعدى طالما بقيت رئيسا للحكومة.. و(بابتسامة عريضة) أنت فى هذه المقابلة وفرت لى مادة لحكاية ربما سأضعها فى مذكراتى.. حكاية حكومة تعرض نصف مليون جنيه وصحفيين يعتذرون عن عدم قبولها، تفتكر.. حد حا يصدق؟
قلت له مع انصرافى: أنا سأصدق، زملائى ومن سأحكى لهم سيصدقون.. على الأقل هذه أول مرة يتذكر فيها رئيس حكومة الصحفيين بالخير.

ربما من باب الاطمئنان إلى صحة موقفى، أو على الأقل الاستئناس بمشورة إضافية، كانت أول مكالمة تليفونية أجريها بعد وصولى إلى البيت هى مع أحمد بهاء الدين، وفى اللحظات الأولى بدا بهاء كما لو كان يسترجع مرة بعد مرة ما حكيته له فى التو واللحظة قائلا لى: أعد ما ذكرته مرة أخرى.. رئيس الحكومة عرض مائة ألف جنيه للجوائز.. ولخمس سنوات.. وأنت اعتذرت عن عدم القبول؟ والله كمال حسن على عداه العيب، وكشف عن سعة أفق واستنارة لا نعهدها غالبا فى رؤساء الحكومات، وأنا أضم صوتى إليك.. فاستقلالية الجوائز تمويلا وتحكيما وتنظيما هى المكسب الكبير الذى خرجنا به.

وبعد برهة أضاف أحمد بهاء الدين: قبل أن أنسى.. مساهمتى المالية بالألف جنيه فى المسابقة الجديدة جاهزة من الآن.

لم أكن قد غادرت، بعد، توابع المسابقة الأولى، فرئيس مجلس إدارة إحدى المؤسسات الصحفية مثلا اتصل بى معاتبا: هل معقول وأنا أرأس مؤسسة تضم 270 صحفيا فلا تعطون فى المسابقة جوائز لأحد منها بينما مؤسسة أخرى تحصل على ست جوائز؟

وقلت له: من أولها فكرتك عن الجوائز خاطئة، فأنت تتصور أننا كلجنة قلبنا فى كل الصحف والمجلات المصرية لنختار منها الفائزين. هذا غير صحيح، نحن فتحنا باب التقديم لمن يرغب من الصحفيين والصحفيات، ولجان التقييم مارست مهمتها للاختيار من بين من تقدموا، المشكلة أن الإدارة فى مؤسستك استلمت إعلان المسابقة لكنها حجبته عن الصحفيين، ومن هنا لم يتقدم أحد من مؤسستك أصلا وتنبهوا فقط بعد انتهاء موعد التقدم للمسابقة.

لكن سوء الفهم لم يكن فقط من داخل المهنة، كان من خارجها أيضا. فزميلة عزيزة وصحفية نشيطة هى فى حينها المحررة الأولى للشئون الدبلوماسية قى صحيفتها اتصلت بى لتداعبنى بكلمات فاجأتنى بما هو أغرب: إن السفارة الأمريكية فى القاهرة تشعر بالاستياء من تعبير بعض الجوائز عن موقف سياسى معاد لأمريكا.

معاد لأمريكا؟ كده.. خبط لزق؟ نعم، هكذا قال لها المستشار الإعلامى للسفارة الأمريكية بالقاهرة، وهى رفضت بشدة ذلك الانطباع من جانبه، وعرضت أن نتقابل نحن الثلاثة على الغداء.

مع الغداء زاد المستشار الأمريكى فى الشرح والتفسير، فأحد الأعمال الفائزة بالجائزة الأولى مقال تحليلى نشره عبد القادر شهيب فى جريدة «الشعب» التى كان يصدرها حزب العمل المعارض، والمقال عن أخطار المساعدات الأجنبية مع التركيز أساسا على المعونة الأمريكية لمصر معتمدا على أرقام ووقائع تؤكد فى النهاية أنها ليست لوجه الله.
وسألت المستشار الأمريكى: ماذا يزعجك فى ذلك المقال؟


أجاب: أولا.. دوافعه أيديولوجية، وثانيا.. أرقام عديدة ذكرها.. إما غير صحيحة أو غير دقيقة.
قلت له: دعنا ننحى مسألة الدوافع جانبا لأنك ناقص تقول لى إن الكاتب شيوعى، دعنا نتحدث بشكل مهنى، فإذا كانت بالمقال أرقام وبيانات غير صحيحة.. فلماذا لم ترسل ردا وتصحيحا إلى الجريدة التى نشرت المقال؟

رد بكل ثقة: الجريدة لم تكن ستنشر أى رد.. فموقفها العام من مجمل السياسات الأمريكية غير ودى.
قلت له : بصرف النظر عن موقف الجريدة السياسى، فإن القانون يلزمها بنشر الرد والتصحيح، وإذا سايرتك جدلا فى افتراضك بأن الجريدة لم تكن لتنشر ردك.. فمن حقك أن ترسل إلينا فى نقابة الصحفيين صورة من الرد المرفوض نشره ونحن سنطبق القانون، هذا أفضل كثيرا من أن تجلس فى مكتبك وتصدر الأحكام الغيابية أو تستسهل التفسيرات الأيديولوجية.

ويومها انتهى الغداء بغير أن يبدو أن الرجل اقتنع.. ولا أنا أيضا قبلت بمنطقه، وفيما بعد أصبح الزميل عبد القادر شهيب رئيسا لتحرير مجلة «المصور» ورئيسا لمجلس إدارة دار الهلال.. بغير أن يعرف بتلك الواقعة لسنوات وسنوات، لكننى بالطبع كنت سأحكيها له لو تقدمت أمريكا بشكوى ضده إلى مجلس الأمن الدولى.

0 التعليقات:

إرسال تعليق