آلة القتل لا تتعلّم



آلة القتل لا تتعلّم

غسان شربل الحياة - 05/01/09

الوحش لا يشبع. الجثث تضاعف جوعه الى المزيد من الجثث. الوحش لا يرتوي. نهر الدم يزيده عطشاً الى الدم. الوحش لا يكتفي. الجدران المتكئة على الجثث الصغيرة تحرضه على الولوغ أكثر في الركام والقتل.

الوحش هائج ومضطرب. كلما قتل ازداد اضطراباً يداوي قلقه بما يضاعف القلق. يقلقه كل مفترق. كل شجرة. كل سطح. كل نافذة. يشم رائحة العداء في العيون. والكوفية. وشارة النصر. ومناديل الثكالى. وغضب الأرامل. يخاف إذا تحرك غصن. إذا تحرك حبل الغسيل في المخيم المكتظ.

الوحش مجروح. يبني قلعة فيتسلل الخوف اليها. يتسلل الأرق الى جفنيه. يبني جداراً فلا يردّ الريح. يغتال الأب فيرث الصغيرُ كوفيته. تهدم آلة القتل حياً معانداً. ثم يطل طفل. يبتسم ويشكك. عارياً يحمل حجراً. يرفع شارة النصر. لا تزال الحرب في أولها. كأن عقودَ القتل لم تثمر. لا تزال الحربُ طويلة ومفتوحة. يشعر سيّد الطائرات بالخوف. كأن الأرض تهرب من يديه. يعيد إطلاق الآلة ضد غزة. هذه الآلة الموتورة لا تتعلم.

من بيروت تُتابعُ مذبحةَ غزة. مشاهد تضخ التوتر في عروق كل عربي. وفي عروق كل إنسان يؤمن بأبسط حقوق الإنسان. وبالكرامة. والعدل. لكنك في بيروت لا تستطيع إلاّ أن تتذكر. في 1982 بلغت آلة القتل قلب العاصمة اللبنانية. مشى الجنود الإسرائيليون منتصرين في شوارعها. ثم انحسروا وتراجعوا وفرّوا. وقبل عامين أمطرت الآلة لبنان بمواسم القتل. اغتالت الناس والأبنية والجسور. حاولت استعادة قدرتها على القهر والإملاء وإشاعة الرعب. اصطدمت بالإرادات. انكفأت وانحسرت. آلة القتل لا تقرأ ان الزمان تغير. آلة القتل لا تتعلم.

لنترك قليلاً مشاعر الغضب. ثمة أسئلة تطرح نفسها. الى أين يمكن أن تصل اسرائيل في هذه الحرب؟ هل يراودها حلم اعادة احتلال غزة وهي كانت تحتلها وتحينت الفرصة للاستقالة من أثمان ذلك الاحتلال؟ وهل تتوهم ان استباحة غزة تنهي "حماس" أو تفككها؟ هل هاجمت غزة لمنع "حماس" من السيطرة على الضفة؟ هل هاجمت "حماس" لأنها تعتبرها امتداداً ايرانياً واستكمالاً لسيناريو تطويق الدولة العبرية بالصواريخ وإفقادها القدرة على الردع؟ هل تثأر في غزة من نتائج حرب تموز (يوليو) 2006 في لبنان؟

أسئلة كثيرة. القذائف التي تنهمر على غزة تنهمر أيضاً على السلطة الفلسطينية لأنها تنهمر أيضاً على كامل الشعب الفلسطيني. القذائف التي تدكّ القطاع تدكّ في الوقت نفسه صدقيةَ أيّ حديث عن السلام. هل تتوهم إسرائيل ان المذبحة قادرة على إنهاء "حماس" أو تغيير لغتها وخياراتها؟ أم تعتقد أن المذبحة سترغم "حماس" على التسليم بوقف دائم لإطلاق النار يمنعها من تحريك الجبهة وإطلاق الصواريخ؟ ولماذا تنسى آلة القتل كيف تعاملت مع ياسر عرفات حين اختار السلام؟ وكيف تعاملت مع محمود عباس حين واصل الخيار وذهب بعيداً فيه؟ آلة القتل لا تتعلم.

هول الجريمة يدفعنا الى إرجاء بعض الأسئلة. تعرف "حماس" أن غزة محاصرة. وتعرف صعوبة تكرار تجربة "حزب الله" في جنوب لبنان والذي كان يستند الى عمق لبناني وسوري وإيراني وخط مفتوح للإمدادات. هل تراهن "حماس" على إطلاق انتفاضة فلسطينية ثالثة تطيح التسوية ومنطق التفاوض الحالي؟ وهل تراهن على القدرة على الاستمرار في إطلاق الصواريخ حتى لحظة وقف النار؟ وهل تراهن على أن تكون منظمة التحرير الفلسطينية إسلامية ويكون خالد مشعل ياسر عرفات الجديد أم حسن نصرالله الآخر المنتمي الى البحر الواسع والذي يقود حركة خرجت من عباءة "الإخوان"؟

قبل انطلاق الهجوم البرّي دخلتُ مكتب خالد مشعل. وجدتُهُ غير قلق كأنه ينتظر المعركة البرّية آملاً بتغيير الحسابات. وقبل أيام سمعت من يعتقد ان اسرائيل هرمت وتكلخت أنيابها وأن على من يريد البحث في استقرار المنطقة التعاطي مع القوى الجديدة فيها. إنها معركة كبرى ومثقلة بالدلالات ولا بد من الانتظار قبل التسرع في الإجابات. وعلى رغم ذلك يبدو واضحاً ان آلة القتل لا تتعلّم.

0 التعليقات:

إرسال تعليق