أصل المشكلة: صفقة


الكاتب الكبير محمود عوض يكتب: أصل المشكلة: صفقة

لو كان المجتمع الدولى قد عاقب إسرائيل لارتكابها مذبحة قانا فى سنة 1996 لما جرأت على ارتكاب مذبحة جنين فى أبريل 2002، ولو كان قد عاقبها على مذبحة جنين لما جرأت على القيام بمجزرة رفح فى مايو 2004، ولو كان عاقبها على مجزرة رفح لما جرأت على مجزرة جباليا فى أكتوبر 2004، ولو كانت إسرائيل قد عوقبت بعد جباليا لما جرأت فى سياق حربها الأخيرة فى غزة على قصف مدرسة فى غزة ترفع علم الأمم المتحدة. ولو كانت قد عوقبت على قصف المدرسة لما جرأت بعدها بأيام على قصف المقر الرئيسى لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين التابعة للأمم المتحدة.. وبالضبط فى نفس اليوم الذى كان يقوم فيه السكرتير العام للأمم المتحدة بزيارة إسرائيل للتباحث مع قادتها مناشدا لهم قبول وقف إطلاق النار الصادر به قرار من مجلس الأمن، هذا بحد ذاته دفع رجب طيب أردوغان، رئيس وزراء تركيا، إلى التحدث بغضب قائلا:إن هذا القصف الإسرائيلى لمقر وكالة غوث وتشغيل اللاجئين هو تحد من إسرائيل للعالم، لايجب السكوت عنه. والحالات المحدودة التى اخترتها سابقا لمذابح ارتكبتها إسرائيل اخترتها لأنها جميعا موثقة بالصوت والصورة، ولأن العالم كله تابع ضحاياها من الأطفال والنساء والشيوخ. واخترتها أيضا لأن ما يجمع بينها كذلك هو احتشاد أمريكا فى كل مرة، داخل مجلس الأمن الدولى وخارجه، لمنع أى توجه لإدانة إسرائيل.

إسرائيل بحد ذاتها لاتنطلق فى العربدة والبلطجة والاستئساد لأنها شمشون الجبار، مع أن أمريكا تكفل لها بعض ذلك بكل السبل. هى تقوم بدور البلطجى فى المنطقة لأن أمريكا هى التى تصرح لها بذلك، بل وتشجعها على ذلك، وحينما ذهب وزراء خارجية سبع دول عربية إلى نيويورك فى الخامس من يناير 2008 لاستصدار قرار من مجلس الأمن الدولى بوقف حرب إسرائيل الجديدة ضد كل أهالى قطاع غزة وليس مجرد منظمة حماس، فإن كوندوليزا رايس وزيرة خارجية أمريكا استمرت تناورهم وترفض مشروعهم، بما فى ذلك النص على أن قطاع غزة جزء لا يتجزأ من الدولة الفلسطينية، بعدها تولى وزير خارجية فرنسا مناورة الوزراء العرب بالأصالة عن فرنسا وبالوكالة عن أمريكا، بعدها تطوع وزير خارجية بريطانيا، العضو الآخر فى الثلاثى، بتقديم مشروع متواضع من صياغته، وعند هذا الحد قالت الوزيرة الأمريكية للوزراء العرب إنهم لو قبلوا بالمشروع الذى صاغته بريطانيا فإنها تتعهد لهم بأن تصوت أمريكا لصالحه، فيصدر عن المجلس بالإجماع. وهكذا كان.. إلا مفاجأة صغيرة، فعند التصويت اختارت الوزيرة الأمريكية أن تسجل امتناع بلدها عن التصويت، بينما صوّت لصالح القرار باقى أعضاء المجلس الأربعة عشر، لم يكن العرب هم وحدهم الذين فوجئوا ولكن كل أعضاء مجلس الأمن، حيث هم أيضا قيل لهم إن أمريكا ستصوت لصالح القرار.

كان هذا سلوكا شاذا وغير مألوف بالمرة فى سياق الدبلوماسية الدولية بمجلس الأمن والأمم المتحدة، ولم نعرف السر إلا بعدها بأيام قليلة حينما نقلت صحيفة «ديلى ميل» البريطانية عن إيهود أولمرت رئيس وزراء إسرائيل تصريحات كان قد أدلى بها فى خطاب له قبلها بليلة، وقال فيها: «إنه أنب وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس بشدة لأنها كانت ترغب فى التصويت لصالح قرار وقف إطلاق النار الذى صدر عن مجلس الأمن، وأرغمها على التراجع والامتناع عن التصويت»، ونقلت الصحيفة عن أولمرت إن «رايس رغبت فى التصويت مع القرار لأسباب لا نعرفها».. مضيفا القول إنه علم بالأمر قبل عشر دقائق فقط من التصويت على القرار.. فأسرع إلى الاتصال بالرئيس جورج بوش الذى يعتبره أولمرت «صديقاً لإسرائيل لا مثيل له»، وحينما قيل لأولمرت إن الرئيس بوش موجود فى فيلادلفيا لإلقاء خطاب مقرر له هناك قال أولمرت للمسئولين فى البيت الأبيض الذين تحدثوا معه «لا يهمنى ذلك، أريد أن أتحدث معه الآن»، وأضاف أولمرت فى روايته: «لقد أنزلوا بوش من منصة الخطابة وأدخلوه إلى غرفة جانبية وتحدثت إليه وقلت له: لا يمكنك التصويت لمصلحة هذا القرار» فرد عليه بوش «اسمعنى، أنا لا أدرى أى شىء عن هذا الموضوع، لم أر هذا القرار، ولست مطلعا على صيغته».. فرد أولمرت: «أنا مطلع عليه، لا يمكنك التصويت لصالح القرار».

ومضى رئيس وزراء إسرائيل فى روايته قائلا إن جورج بوش: «أمر وزيرة الخارجية فلم تصوّت لمصلحة القرار، الذى طبخته وصاغته ورتبته وناورت من أجله»، وأضاف: «هكذا انتهت رايس مهانة، وامتنعت عن التصويت على القرار الذى أعدته». بعد نشر تلك الرواية فى الصحيفة البريطانية، ونقلتها عنها صحف ووكالات أخرى، لم نسمع عن رد فعل من أمريكا إلا بصوتين، فوكالة رويترز نقلت فى 13/1/2009 عن الناطق باسم البيت الأبيض جوردون جوندرو قوله: «رأيت هذه التقارير الصحفية وهى غير دقيقة»، فلنتأمل الصياغة هنا: «غير دقيقة»، أما الناطق باسم وزارة الخارجية شون ماكروماك، فقد بدا محرجا أمام محاصرة الصحفيين له بأسئلتهم عن رواية رئيس وزراء إسرائيل فقال لهم بحدة: «أقواله تلك مائة بالمائة، تماما، وعلى الإطلاق.. غير صحيحة».

لم يكن رئيس حكومة إسرائيل، وشريان حياتها تستمده من أمريكا، ليجرؤ على اختراع تلك القصة بالكامل عن الرئيس الأمريكى ووزيرة خارجيته، بالطبع هو يوظفها سياسيا لمصلحته داخلياً، لكنه بالتأكيد لم يخترعها، ومن ناحية أخرى فإن تلك القصة لا تعنى بالمرة أن إسرائيل هى التى تحدد لأمريكا خياراتها السياسية فى المنطقة لأن هذا يجعلنا أمام مهزلة، وليس أمام علاقة بين قوة عظمى وطرف إقليمى توظفه هى لحسابها.

وإذا أردت هنا أن أجتهد فسأقول إن جرأة رئيس وزراء إسرائيل قد ترجع إلى أن حرب إسرائيل فى غزة، بقدر ما هى تخطيط إسرائيلى، هى بالأساس مهمة أمريكية، فتحويل قضية فلسطين من قضية أرض محتلة واستقلال وطنى إلى قضية لها طابع دينى، وبالذات إسلامى، هو بالتأكيد تطور يخدم مصلحة أمريكا وإسرائيل معا بعد أن روجت إدارة جورج بوش طوال سبع سنوات لفكرة «صدام الحضارات»، وبعد أن اختفى أيمن الظواهرى وأسامه بن لادن طويلا عادت تسجيلاتهما الصوتية تذاع فجأة من قناة الجزيرة للإيحاء ضمنيا بأن منظمة حماس فى فلسطين هى امتداد لتنظيم «القاعدة» فى أفغانستان، ولا ننسى هنا أن الانتخابات التى جرت فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، وضمنها قطاع غزة، فى 2006 كانت أساسا بإلحاح أمريكى تحت غطاء نشر الديمقراطية فى المنطقة، وفى حينها كانت كل الأطراف المعنية تعرف أن منظمة حماس ستفوز تأكيدا فى أى انتخابات.. ليس إيمانا بها بالضرورة، بقدر ماهو كفر بمنظمة فتح وفسادها الذى جعل السلطة الفلسطينية تصبح عمليا مافيا من المنتفعين والمرتزقة، وكل ذلك كان بتشجيع من إسرائيل وغطاء من اتفاق أوسلو.

أصل اتفاق أوسلو هذا فى سبتمبر 1993 كان صفقة سرية فاجأ بها ياسر عرفات وجماعته العالم كله، بما فيه مصر وكل الدول العربية، فى حينها كانت هناك مفاوضات معلنة منذ مؤتمر مدريد فى 1991 بين وفد إسرائيلى وآخر فلسطينى برئاسة حيدر عبد الشافى، وعضوية حنان عشراوى وفيصل الحسينى وآخرين، وكلهم اختارهم عرفات نفسه باعتبارهم من الأراضى المحتلة، وبتلك الصفة كانت لهم جذورهم الشعبية فى الضفة الغربية وقطاع غزة، كما أنهم خبروا أكثر من غيرهم أساليب إسرائيل وحيلها. تلك المفاوضات كانت تجرى جولة بعد جولة، بإصرار من ذلك الوفد الفلسطينى على عدم التنازل قيد أنملة عن الحد الأدنى المتفق عليه من الحقوق الفلسطينية.

فجأة عرف ذلك الوفد الفلسطينى، ومعه العالم كله، أن عرفات كان له وفد آخر يتفاوض سراً مع وفد إسرائيلى غير معلن، والمفاوضات كانت تجرى فى أوسلو عاصمة النرويج وبرعاية من حكومتها وإصرار من الطرفين إسرائيل وعرفات، على التكتم والسرية إلى أن يتم التوصل إلى اتفاق، وجاء الإعلان المفاجئ عن ذلك الاتفاق قنبلة مدوية، أما الصفقة التى جسدها الاتفاق فكانت مائة قنبلة مدوية لأنها أنذرت بدخول قضية فلسطين فى نفق من التنازلات الجوهرية غير القابلة للارتداد، وقبل أن يفيق العالم، وبالذات العالم العربى، لهول الصدمة فى قضية تحمّل جيلان على الأقل من مواطنيه عبأها وتضحياتها.. أعلن الرئيس الأمريكى بيل كلينتون عن احتفال ضخم فى البيت الأبيض يوقع فيه الاتفاق كل من إسحاق رابين رئيس وزراء إسرائيل وشيمون بيريز الوزير بحكومته.. وعن منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات ومحمود عباس، لقد احتشدت الآلة الأمريكية للترويج للاتفاق حول العالم باعتباره بشيرا بتسوية صراع ممتد لعقود بعد عقود.

فى الأيام الفاصلة بين الإعلان المفاجئ عن صفقة عرفات وعباس مع إسرائيل وبين يوم الاحتفال بالتوقيع عليها فى البيت الأبيض، جاء إلى القاهرة روبرت بيللترو، وكيل وزارة الخارجية الأمريكية لشئون الشرق الأوسط، فى مهمة استطلاعية بالمنطقة تبدأ بمصر وجوهرها قياس ردود الأفعال بالنسبة لصفقة أوسلو تلك. ووجدت نفسى مدعوا إلى الغداء مع بيللترو برفقة أربعة زملاء آخرين من الكتاب والمحللين. الغداء أساسه أن هذا المبعوث الأمريكى يرجو الاستماع إلى تقييم المدعوين نحن الخمسة فى جلسة لغير النشر.

يومها لم أجد مانعا من تلبية الدعوة لأن روبرت بيللترو كان قبلها سفيرا لبلاده فى مصر، وبتلك الصفة بدا أداؤه رصينا وإحاطته بالقضايا الجارية عميقة من خلال متابعتى لما ينشر عنه، والأهم من هذا كله هو حقيقة انتمائه للعمل الدبلوماسى بالاحتراف، وبالتالى فهو لم يصل إلى ما وصل إليه من مناصب لمجرد تبرعه بالأموال لصالح الحزب الحاكم على ما هى العادة فى أمريكا.

فى الغداء طرح روبرت بيللترو من جديد، وبحياد كامل وموضوعية، بنود اتفاق أوسلو، مقررا أنه اختارنا نحن الخمسة لمعرفته بخبرتنا بالقضية ومتابعتنا لتطوراتها، وهى معرفة استمدها أساسا من متابعاته طوال إقامته السابقة فى القاهرة كسفير لبلاده، وهو يأمل من هذه الجلسة الضيقة أن يكون تبادل الآراء صريحا وموضوعيا، ولغير النشر، كالتزام أدبى حسب العرف المهنى الذى نعرفه.

وكما هو المألوف غالبا فى كل نقاش لموضوع مهم، يتبلور النقاش فى النهاية عن اتجاهين بارزين ومختلفين، مع تأرجح أى أطراف أخرى بين هذا وذاك، وخلال الساعة الثانية وجدت نفسى أمثل أحد الاتجاهين، بينما فى الساعة الأولى أصبح أحد الزملاء وهو كاتب بارز ومهموم هو الآخر بالشأن العام مناصرا على طول الخط لصفقة أوسلو السرية تلك بين ياسر عرفات ومحمود عباس وجماعتهما فى منظمة فتح، وبين إسرائيل.

حرصت على الاستماع بكل تركيز إلى تقييم الزميل الكريم لاتفاق أوسلو وحججه فى تأييده وتوقعه المؤكد لنجاحه فى تسوية الصراع العربى الإسرائيلى نهائياً، ومن البداية يرى الزميل المتحدث أن تبنى أمريكا صفقة أوسلو بتلك السرعة وعلى مستوى البيت الأبيض هو توجه مماثل لتبنيها السريع فى سنة 1977 مبادرة أنور السادات، خصوصا أن مبادرة السادات اعتمدت أيضا على مفاوضات سرية مباشرة بين مندوب عن السادات ومندوب عن حكومة إسرائيل، وهى التى جرت فى المغرب تحت رعاية الملك الحسن ولم يكشف عنها النقاب إلا بعد شهور من إعلان السادات مبادرته.

الزميل الكريم قال أيضا إن عودة القضية الفلسطينية إلى أصحابها يحرر ياسر عرفات من وصاية الدول العربية، ويوفر له حرية الحركة مع إسرائيل برعاية أمريكية، ويساعد الدول العربية الأخرى على الالتفات إلى همومها الداخلية، لكن لكى يتم ذلك يجب على أمريكا أن توفر لاتفاق أوسلو إمكانيات النجاح. فإذا كان تطبيق الاتفاق سيبدأ بقطاع غزة، فعلى أمريكا أن تعلن من البداية أنها تضمن إسرائيل فى أن تجعل قطاع غزة يصبح هو «سنغافورة الشرق الأوسط»، الإشارة هنا إلى سنغافورة باعتبارها صغيرة المساحة (639 كيلومتراً مربعاً) وقليلة السكان (أقل من أربعة ملايين) وعملتها الدولار السنغافورى وحجم اقتصادها تضاعف عدة مرات بعد أن نقلت شركات أمريكية كبرى بعض نشاطاتها الإنتاجية إليها، بما جعل نهضة سنغافورة الاقتصادية تقوم على التصنيع والخدمات. وأضاف الزميل المتحدث أن مهمة أمريكا وإسرائيل فى قطاع غزة ستكون أسهل لأن مساحته لا تتجاوز كثيرا نصف مساحة سنغافورة، وسكانه أقل قليلا من نصف سكان سنغافورة، بذلك تصبح مهمة تحويل قطاع غزة إلى نموذج للطفرة المالية الاقتصادية السريعة ممكنة فى سنوات محدودة، والنجاح فيها سيجعل قطاع غزة نموذجا مغريا ومتجددا أمام باقى الشعب الفلسطينى فى الضفة الغربية المحتلة فيتطلعون لسلوك نفس الطريق تاليا، بل وحتى مغريا بدرجة كافية لدول عربية أخرى للدخول فى علاقات مماثلة مع إسرائيل وأمريكا.

كان المبعوث الأمريكى روبرت بيللترو يتابع الحديث المتدفق من زميلنا الكريم بكل اهتمام، والزملاء الثلاثة الآخرون انتقل إليهم الحماس من تدفق الزميل المتحدث بحججه وتنظيراته المتتابعة، بينما المستشار الإعلامى الأمريكى الذى يجرى الغداء بمنزله يسجل بين وقت وآخر ملاحظات ما فى ورقة صغيرة أمامه. ومن ناحيتى كنت أنا الآخر مستغرقا فى الاستماع بعد أن اختار زملاء ثلاثة التعبير عن رؤيتهم باقتضاب مفسحين المجال للزميل صاحب التنظير المتدفق، وقد بدا كأنه قضى العمر كله فى استذكار اتفاق أوسلو.. حتى من قبل أن يتم الإعلان المفاجئ عن صفقته السرية، وكان يبدو جادا أكثر وأكثر فى قوله الختامى للمبعوث الأمريكى روبرت بيللترو: إن كل ما أدعو إليه هو أن ترفعوا أنتم كأمريكا فكرة تلحون بها إعلاميا، وهى أن هذا الاتفاق سيحول قطاع غزة سريعا إلى أن يصبح نسخة عربية من سنغافورة ماليا واقتصاديا، فتجذب لتقليدها باقى الدول العربية، وقتها ستشهدون إلى أى حد سيحظى الاتفاق بدعم شعبى، ليس فقط فى قطاع غزة وإنما فى العالم العربى كله، الحكاية كلها كذا مائة مليون دولار تكفل لكم أن يخرج الفلسطينيون من حالة الصراع ضد إسرائيل إلى حالة التعاون معها.

حاولت فقط أن أعبر عن اختلافى الكامل والجذرى مع كل الرؤية التى طرحها الزميل الكريم، ولكن باقتضاب متعللا بالوقت. إنما السيد/ بيللترو كان حريصا على رؤية تفصيلية أرى بها آفاق اتفاق أوسلو هذا. حسنا. قلت إن هذا الاتفاق يقلب جذريا كل أسس القضية الفلسطينية. فبدل أن يأخذ بأسس التسوية وجوهرها انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضى المحتلة وعودة اللاجئين الفلسطينيين طبقا لقرارات سابقة باسم الشرعية الدولية، يؤجل الاتفاق أى حديث عن التسوية ويستبدله بالانشغال بفتافيت تستهلك الوقت والجهد، وبعد أن يعزل الاتفاق القضية الفلسطينية عن محيطها العربى الذى ساندها وضحى من أجلها، فإنه يعزل قطاع غزة عن الضفة الغربية ليمضى كل من طريق.. علما بأننا نعرف جميعا من البداية أن أطماع إسرائيل هى فى الضفة الغربية أساسا. وهذا الاتفاق يسحب القضية الفلسطينية لتنفصل بعيدا عن الشرعية الدولية وقراراتها السابقة ويستبدلها بمفاوضات مباشرة بين طرفين لا يوجد أى توازن للقوى بينهما.

بعدها يسحب الاتفاق القضية أيضا عن الدعم العربى بحجة أن الفلسطينيين هم أصحاب الشأن فى تقرير مستقبلهم، وواقع الاتفاق ينقل السلطة الفلسطينية البازغة لتصبح تحت وصاية إسرائيل ورقابتها بالكامل وهى التى تمنحها أو تحجب عنها شهادات حسن السير والسلوك فى كل مرة، هذا نذير سيئ يعنى إدخال القضية الفلسطينية فى سجن جديد فوق سجن الاحتلال، فإذا كان يجرى تمرير ذلك الاتفاق تحت عنوان التحرك نحو السلام، فإننى أجزم بأننا بعد هذا الاتفاق /الصفقة سنصبح أبعد عن السلام من أى وقت مضى و.. و.. و..
فى انصراف كل منا إلى سيارته جاءنى الزميل الكريم صاحب رؤية «سنغافورة الشرق الأوسط» وقال لى بعد تردد: تصدق إنك عبرت عن كل ما كنت أحب أن أقوله؟
أخذتنى كلماته بالمفاجأة الكاملة فقلت له مستغربا: يا رجل حرام عليك.. كيف هذا وما قلته أنا عكس رؤيتك على طول الخط..؟
قال لى بشىء من التردد: أصل بينى وبينك.. أنا قلت لنفسى إنه ربما الأفضل أن أقول لهذا المبعوث الأمريكى ما يود هو أن يسمعه، بدل أن أفاجئه بما يغضبه.. لكننى فوجئت به يستمع للحجة وعكسها بروح رياضية!.

هذا إذن هو المغزى من تجربة ذاتية أتذكرها كثيراً، خصوصا أن خسائرنا تضاعفت من كل أولئك الذين يقولون لأمريكا ما تود هى أن تسمعه بدلا عن مصارحتها بالحقيقة المجردة، خصوصا أن قضايانا نحن هى التى توجد على المحك، وحتى لو كانت أمريكا ستغضب.. إذن لتغضب. هذا أفضل من أن نفرط اليوم لكى نعانى من العواقب غدا، لقد تحول اتفاق أوسلو فى أرض الواقع إلى مصائب لا حدود لها، مصائب تجاوزت حتى ما كنت أخشى من حدوثه وعبرت عنه فى مقالاتى المنتظمة بجريدة «الحياة» وفى تعليقات عديدة بإذاعة مونت كارلو وحوارات مع إذاعة «بى. بى. سى».

ومنذ ذلك الاتفاق فى 1993 اصطنعت إسرائيل لافتة مضيئة اسمها السلطة الوطنية الفلسطينية ومن تحتها حولت الواقع الفلسطينى إلى جحيم، والفريق الواحد صاحب القضية تحول إلى قبائل تتصارع فيما بينها على فتافيت، أما إسرائيل التى تحتل الأرض فلم تعد تدهش أحداً بمذابحها المروعة ضد الشعب الفلسطينى تحت الاحتلال، وبعد حماية أمريكا لها ولكل جرائمها لم يلتفت أحد إلى صورة رئيس البرازيل معبراً عن غضبه يوم السبت 17 يناير قائلاً: إن استمرار أمريكا فى احتكار قضية السلام فى الشرق الأوسط أصبح جريمة ضد البشرية.

0 التعليقات:

إرسال تعليق