محمود عوض .. الممنوع ..!!

سامى كمال الدين

هل محمود عوض ممنوع من الظهور فى تلفزيون مصر ..؟!!
هل محمود عوض ممنوع من الكتابة فى صحافة مصر ..؟!!

أشطب السؤالين السابقين ، وتعالى أحدثك عن محمود عوض ..!!
حاضر الذهن دائما ً.. فى حالة تركيز عالية، منساب بالحكايا، لديه قدرة على الصمت والهدوء رغم أنه يجاور السفارة الاسرائيلية..!!
الكاتب الكبير محمود عوض الذى عاش عصورا ًوجاور عظماء وتخرج فى مدرسة أخبار اليوم ورفض – ومازال – أن يكون للكيان الصهيونى قيد أنملة فى بلادنا، لكى تمر إلى بيته بجوار كوبرى الجيزة لابد أن تقف أمام المعبر أو الكمين الذى يقف عليه مجموعة من الضباط والعساكر لتسأل من أنت و إلى أين ذاهب ؟! ويحتار من هم مثلى لمن يذهبون هناك سوى محمود عوض ..!!
فليس معقولا ًأن تذهب الى السفارة الاسرائيلية مثلا ً، وقد اختار محمود عوض البقاء فى هذا المكان – ليس حبا ًفى علم السفارة المرفرف أعلى البناية المجاورة ولكن إجبارا ًلمن رأوا فى مؤسسة أخبار اليوم أن قلم فى قامته يجب أن يصمت .. فالصمت من شيمة الحكماء ..!!
النظام المصرى أيضا يرى فى محمود عوض ما لا نراه نحن ، يرى أن محمود عوض لا يحب مصر ولا تهمه مصلحتها فى شيئ ، ويرى أن محمود عوض يجب أن يصمت ، فما سيقوله فى التلفزيون المصرى سيضر بالأمن العام ويضر بمصلحة البلد ،..!!
عندهم حق .. هم أحرار فى بلدهم ، ولكن لى عندهم مطلب ، وهو أن يعاملوا محمود عوض مثلما يعاملون جيرانه فى السفارة ، فالنبى وصى على سابع جار ، فلو عاملوا محموض عوض مثلما يعاملون جيرانه ، الرجل سوف يفيدهم كثيرا، ولن يؤذيهم مثلما يفعل جيرانه مع النظام ..!! يحيا محمود عوض الآن فى جريدة عربية بعد ما أصاب سوء النظر العديد من رؤساء تحرير الصحف فى مصر وعدم مقدرتهم على جذب قلم فى قامة محمود عوض، ولا أعرف ما الذى يضايقهم فى قلم بهذا الوزن وهذه القيمة له آلاف القراء الذين يلهثون خلف مقالاته ويسعون إلى تتبع رؤاه وتفكيره خاصة انه كاتب شامل من طراز فريد يكتب فى الأدب وفى السياسة وفى الفن، ويبحر عبر " شخصيات " تمثل أساطين الفكر والأدب العربى ليكشف رؤاها وتفكيرها وحياتها .
محمود عوض الذى يقدم النصيحة للأجيال المختلفة ، ويتبنى العديد من الموهوبين فى بلاط صاحبة الجلالة ، وعلى استعداد لأن يذهب الى الموهبة حتى عقر دارها ويأخذ بيدها الى الطريق الصحيح ، وهو عكس قامة أخرى هى الأستاذ هيكل ، فعلى الرغم من أنهما نفس الجيل ونفس المكانة إلا أن من ينظر الى تجربة كل منهما سوف يتوقف كثيرا وقفات تحتاج الى مقال أخر يفرد لها ..
يميل محمود عوض كثيرا ًإلى البساطة فى أسلوب كتابته والجملة القصيرة والبداية عبر أقصوصة أو حكاية .. إنه القالب الروائى الذى يجعلك مصرا ًعلى الوصول إلى النهاية بأى طريقة، فهو " يجيب رجلك " من أول جملة، فإذا أراد الكتابة عن طه حسين مثلا ًيبدأ كالآتى " لم أكن أنوى الكتابة عن طه حسين .
طلب منى صديق أن أتوسط له عند طه حسين لكى يوافق على أن يسجل للتلفزيون حديثا ًأدبيا ًومناقشة محدودة .
وافق طه حسين .
سألت صديقى : كم من الأجر سيصرفه التليفزيون لطه حسين فيما لو تم تسجيل هذا الحديث ؟
بعد عملية جمع وضرب وقسمة وطرح وخصم، المبلغ هو : 18 جنيها ًو60 مليما ً !
بالصدفة، سألت عما تتقاضاه راقصة مبتدئة عن المدة نفسها . فعلمت أن ماتتقاضاه حضرة الراقصة المبجلة هو 28 جنيها ً.
إننى لم أمتعض، ولم أبتهج . فقد فهمت الدرس بوضوح : إن هز البطن أهم لمجتمعنا كثيرا ً- وكثيرا ًجدا ً- من هز العقل . قلة عقل .
حكاية سمعتها من محمد عبد الوهاب لثالث مرة .." وهنا أنت تلهث مثلى وراء محمود عوض لتعرف الحكاية التى بالتأكيد سوف تكون عن طه حسين، فهو يحكى .. يجذب كما محمد التابعى و إحسان عبد القدوس ومصطفى وعلى أمين وأحمد بهاء الدين .. جيل أنشأ مدارس صحفية لها مكانتها وقاماتها السامقة يلخصه محمود عوض عبر حكايته مع إحسان عبد القدوس والصفحة الأخيرة فى أخبار اليوم .." حدث هذا منذ سنوات .. استدعانى إحسان عبد القدوس، رئيس التحرير الذى أعمل معه فى جريدة "أخبار اليوم"..
وقال لى : ممكن تفكر فى موضوع تكتب عنه فى الصفحة الأخيرة هذا الأسبوع ؟!
سألته مندهشا ً: أى صفحة أخيرة ؟
قال إحسان : الصفحة الأخيرة من " أخبار اليوم " !
قلت محاولا تذكيره : إن كاتبها الثابت هو أنيس منصور .
رد إحسان : أعرف ذلك .. ولكننى أريدك أن تكتبها هذا الأسبوع .. قلت : لماذا ؟
رد إحسان : لأن أنيس اختفى، ولا أدرى أين هو الآن .. ولا متى سيرسل مقاله الأسبوعى ..
قلت له : صحيح أن اليوم هو موعد تسليم مقالات الصفحات الثابتة من الجريدة .. ولكن أنيس دقيق فى مواعيده كساعة سويسرية .. وربما نستطيع انتظار مقال أنيس حتى صباح الجمعة ..
فقد إحسان أعصابه لأول مرة منذ عشر دقائق .. ورد فى عصبية : أنا هنا رئيس عمل، ولست زعيم قبيلة ! أريد مقالا منك للصفحة الأخيرة غدا ً..!
عند كلمة " غدا ً" أحسست أن إحسان وصل إلى النقطة التى يستحيل عندها التفاهم معه ..
بالطبع إحسان رئيس عمل .. ولكنه يتعامل معى بالحب .. وليس بالسلطة !
وبالإضافة إلى ذلك فإن الأفكار لاتأتى للكاتب بقرار من رئيس التحرير .. حتى لو كان هذا الرئيس هو إحسان عبد القدوس ! إن إحسان بالنسبة لنا لم يكن أبدا ً"رئيسا ً" للتحرير . كان إحسان هو الصديق والأخ الأكبر والأب وحامل همومنا والمخفف عن آلامنا . كان واحدا ًينتمى بحكم شهادة الميلاد إلى جيل آخر .. ولكن بحكم المشاعر ينتمى إلى جيلنا .. مضروب مثلنا، متواضع رغم أنفه، غنى بالأمل كأى شاب، فقير فى السلطة كأى كفاءة، مهزوم كأى فنان، الذى يستطيع أن يحرك جبلا .. برقته، وليس بعضلاته !
لقد خرجت من مكتب إحسان مباشرة إلى منزل أم كلثوم !
وفى اليوم التالى عدت لإحسان بمقال عن أم كلثوم، لكى يرسله إلى المطبعة فورا ً، وينشر فى العدد الذى صدر بعد يومين من أخبار اليوم !
فى الأسبوع التالى تكررت نفس القصة...
فى اليوم التالى عدت له بمقال عن طه حسين – وللمرة الثانية – نشره إحسان فى الصفحة الأخيرة .
ثم .. ظهر أنيس منصور، بعد اختفائه فى الإسكندرية لمدة أسبوعين . فى هذه المرة كنت أول من نقل الخبر إلى إحسان .. ثم استدرت خارجا ًمن مكتبه .
نادى إحسان متسائلا : إيه رأيك تكتب فى صفحة عن الشيخ الباقورى ؟
قلت : أى صفحة ؟
رد مبتسما ً: أنت تكتب .. وأنا أنشر !
قلت : ما الذى تريدنى أن أكتبه عن الباقورى ؟
تساءل إحسان فى عصبية : من الذى يكتب، أنا .. أم أنت ؟
كانت عصبية إحسان هى دائما ًمثل جرس المدرسة .. انتهت الحصة نتكلم فى موضوع آخر !
غلب إيه ده يا ربى ؟! هم رؤساء التحرير مالهم ؟ ألم يسمعوا أبدا ً عن اختراع .. اسمه الديمقراطية ؟!
إننى خرجت من مكتب إحسان غير متحمس، لا للكتابة ولا للباقورى . وظل هذا هو حالى إلى حان موعد تقديم المقال .
وبينما أنا فى حالة اختفاء كاملة عن إحسان وعن أخبار اليوم .. عثر على مصور زميل فى الجريدة وصاح متحمسا ًبمجرد أن رآنى: أنت فين ؟ الأستاذ إحسان كلفنى بأن أذهب معك إلى الشيخ الباقورى لكى أصوره بمناسبة المقال الذى ستكتبه هذا الأسبوع !
قلت له : ولكننى لم أكتب شىء ..
رد المصور مذعورا ً: لا تكشفنا مع إحسان وحياة أبوك .. لقد علمت منهم فى الجريدة أنهم حجزوا صفحة خالية تماما ًمن الإعلانات .. لنشر هذا الموضوع .. صفحة غير الأخيرة .
هنا سألته بحماس : تقدر تعمل صورة كبيرة ؟ على خمسة أعمدة أو ستة مثلا ؟
رد : ياريت ..
شرحت للمصور فكرة الصورة، والمعنى الذى أريده منها، قبل أن أفكر حتى فى التحدث تليفونيا ًمع الشيخ أحمد حسن الباقورى .
وذهبنا إلى الباقورى . ونشرت الصفحة بعنوان " اعتذار إلى الله"!
فى هذا اليوم بدأ إحسان اجتماعه الاسبوعى معنا بسؤال من جانبه : مارأيكم فى هذه الصفحة الجديدة ؟ أنا قررت أن تكون بابا ًثابتا ً بعنوان " تحليل شخصيات " .. أو – من باب الاختصار – نسميها " شخصيات " ونظر إلى إحسان ضاحكا ًوهو يقول : الصفحة دى.. عهدتك !
.. وبدأت " عهدتى " ..
وبدأت معها مسئوليتى ..
كان إحسان كبيرا ًفى ثقته، فنانا ًفى أفكاره، رقيقا ًفى لهجته .. إنه لا يطلب، ولكن يقترح . لا يفرض ولكن يثير الحماس . لا يقرر ولكن يوحى . هذا رجل فنان يريد منك أن تسمو وتكتشف !
وبدأت أختار الذين أكتب عنهم ..
كان كل شخص يمثل بالنسبة لى معنى أريد أن أقوله . وبقدر إحساسى بالمعنى .. كان يأتى انفعالى بالشخص . بعضهم كان الانفعال يبدأ معه بالاختلاف .. وبعضهم بالموافقة التى تتحول بعد الفحص إلى اختلاف !
إنها صدمة التوقعات لكل شاب يجد نفسه فجأة وسط غابة نسميها السلطة !
وفى هذه الشخصيات أيضا ًعرفت دروسا ًكثيرة .. وابتسامات أحيانا .
وأنا تعلمت كثيرا من كتب محمود عوض مثل " ممنوع من التداول " ، "وعليكم السلام " ، " بالعربى الجريح " ، " أفكار ضد الرصاص " وشخصيات أم كلثوم التى يعرفها أحد وعبد الوهاب وغيرهم وغيرهم .
أستاذ محمود عوض .. شكرا .

0 التعليقات:

إرسال تعليق