قمة 'الفرز' العربي


قمة 'الفرز' العربي
عبد الباري عطوان
بات من المؤكد، ان قمــــة عربيـــة طارئـــة ستعقد في الدوحة بعد غد الجمعة، رغم قرار غياب بعض قادة دول محور الاعتدال العربي عنها، وبالذات الرئيس المصري حسني مبارك والعاهل السعودي عبدالله بن عبدالعزيز.
انعقاد القمة هذه، بعد فشل محاولة وزراء الخارجية العرب تصدير ازمة المجازر الاسرائيلية في قطاع غزة الى الامم المتحدة، واستجداء وقف لاطلاق النار من حلفائهم الامريكان والغربيين، بات ضروريا حتى يتعرف المواطن العربي على مواقف زعمائه الحقيقية من هذا التغول الهمجي الاسرائيلي، والخطوات التي يمكن ان يتخذوها في مواجهته، بعد ان طفح الكيل، واتضحت حرب الابادة الاسرائيلية لمليون ونصف المليون فلسطيني في ابشع صورها.
هذه القمة ستحدث 'فرزا' في المواقف العربية، وستظهر للعيان من هو مع العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة، ومن هو ضده، من يريد ان يعمل على وقفه، ومن يريد له الاستمرار حتى يحقق اهدافه كاملة في ترويض المقاومة، ونزع سلاحها، وكسر شوكتها، واعادة القطاع الى بيت الاستسلام العربي.
هذا الفرز مطلوب، بل هو حتمي، لتمزيق حالة النفاق، ونزع الأقنعة عن الوجوه المتواطئة مع العدوان، الداعمة للجلاد، بصورة مباشرة او غير مباشرة، ضد الضحية التي تسحق عظامها الصواريخ الاسرائيلية من كل الاتجاهات برا وبحرا وجوا.
من حق اطفال قطاع غزة الذين تحرق طفولتهم البريئة، واجسادهم الطرية، القنابل الفسفورية الاسرائيلية ان يعرفوا من هو معهم ومن هو مع العدو، الذي يقذف بحممه من كل الاحجام والاوزان ضدهم ويأسرهم في مركز الاعتقال الذي اسمه غزة، الذي هو اسوأ واكثر بشاعة من نظيراته النازية، لان الاخيرة لم تكن تتعرض للقصف المكثف والوحشي بالصورة التي نراها حاليا في القطاع الضحية.
فهذا الخذلان الرسمي العربي هو الذي يشجع اسرائيل على تصعيد عدوانها، وتكثيف قصفها، مثلما يشجع حلفاءها في الغرب على دعمها، وتوفير الحماية لها في المحافل الدولية. فطالما ان العرب، وكبارهم بالذات، لا يتحركون، ويديرون وجوههم الى الناحية الاخرى، ويفتحون إعلامهم لمن يؤيد الجلاد ويلوم الضحية، فلماذا يتحرك الاوروبيون والامريكيون لوقف العدوان؟
ومع ذلك لا نتردد في القول ان الحضور نفسه لا يعني الحصول على صك براءة من تهمة التواطؤ، والظهور بمظهر من فعل ما هومطلوب منه في هذه اللحظة الاكثر حرجا في تاريخ الأمة. فالقمم العربية التي اقتصرت على بيانات الشجب والتنديد كانت اسوأ من تلك التي لم تنعقد، لأن ما يجري حالياً في قطاع غزة اكبر كثيراً من كل القضايا السابقة التي استدعت التداعي الى عقد مؤتمرات قمة طارئة. فنحن امام حرب ابادة، وتطهير عرقي، وافناء شعب بكامله لم يرتكب اي ذنب غير التمسك بحقه في مقاومة احتلال عنصري ظالم همجي، وهو حق كفلته كل الشرائع الدولية.

لا نريدها قمة مثل كل القمم الأخرى، يلقي خلالها الزعماء خطبا ثورية رنانة، تنقلها محطات التلفزة العربية او بعضها، لأن فضائيات المقاطعين للقمة ستقاطعها ايضاً، وانما نريدها قمة أفعال، قمة تتخذ خطوات عملية تتصدى للعدوان، وتفرض عقوبات على من يدعمونه ويتسترون عليه،وفي الغرب خصوصاً.
هناك خطوت عملية كثيرة يمكن ان يتخذها الزعماء المشاركون، نوجزها في النقاط التالية:
اولا: وقف كل الاتصالات وقطع كل العلاقات الدبلوماسية مع اسرائيل، واغلاق سفاراتها ومكاتبها التجارية في العواصم العربية، ونتمنى من دولة قطر المضيفة لهذه القمة ان تبادر بهذه الخطوة وتغلق المكتب التجاري الاسرائيلي او تجمده، مثلما فعلت هي وسلطنة عمان كرد على مجازر اسرائيلية مماثلة، واستجابة لطلب دول عربية اسلامية قبيل انعقاد القمة الاسلامية في الدوحة قبل عشر سنوات.
ثانيا: ان تقدم الدول العربية النفطية المشاركة في هذه القمة على استخدام سلاح النفط، ولا نقول بوقفه تماما عن الدول المستهلكة، وانما بتخفيض كميات الانتاج حتى ترتفع الاسعار بصورة تؤذي هذه الدول الداعمة أساساً للعدوان الاسرائيلي، ومعظمها في اوروبا، مع بيع النفط للدول الفقيرة بأسعار تشجيعية. هذه الخطوة اذا اتخذت، وفي هذا التوقيت الذي يعاني فيه الاقتصاد الغربي من حالة ركود وانكماش، ستحدث اثراً كبيراً من حيث تغيير مواقف الدول الغربية المتواطئة مع العدوان.
ثالثا: تستطيع الدول المشاركة ان تبث الرعب في نفوس الامريكيين والاوروبيين اذا ما قررت وقف تعاونها الأمني والاستخباري معهم على صعيد محاربة تنظيم 'القاعدة' والجماعات الاسلامية المتشددة الأخرى، وعلينا ان نتذكر ان السعودية استخدمت هذا السلاح بفاعلية عندما هددت بريطانيا بوقف التعاون الأمني والاستخباري معها اذا لم توقف التحقيقات في رشاوى صفقة 'اليمامة' للأسلحة، التي تورط فيها امراء من الأسرة الحاكمة، وتجاوبت بريطانيا سريعاً مع هذا التهديد، وأوقفت التحقيقات فعلاً، وبررت ذلك بحماية امنها القومي وأرواح مواطنيها.
رابعا: دول شمال أفريقيا العربية، الجزائر والمغرب وليبيا وتونس وموريتانيا تملك سلاحا قوياً في يدها للضغط على أوروبا، وهي ورقة التعاون مع الاتحاد الأوروبي لوقف قوارب الهجرة السرية، ويكفي ان يقول زعماء هذه الدول إنهم سيتوقفون عن القيام بدور 'البوليس' لمنع المهاجرين من الانطلاق من سواحلهم، حتى تهرع الدول الأوروبية اليهم مستجدية التراجع عن هذا القرار. وتكفي الاشارة إلى أن سبعين الف مهاجر غير شرعي وصلوا إلى أوروبا في العام الماضي، رغم التنسيق المحكم بين هذه الدول ونظيراتها الأوروبية، ويمكن أن يتضاعف هذا الرقم خمس مرات أو أكثر اذا تراخت قبضة الحكومات العربية في هذا الصدد.
خامسا: تشكل الجزائر أهمية استراتيجية خاصة بالنسبة إلى أوروبا من حيث كونها المصدر الوحيد للغاز لهذه الدول، بعد الاتحاد الروسي، وأوروبا التي تحصل على أربعين بالمئة من احتياجاتها من الغاز من روسيا، تريد مصادر بديلة آمنة لتقليص اعتمادها على الغاز الروسي، خاصة بعد ما سمته أوروبا بـ 'الابتزاز' الروسي الأخير الذي تمثل في وقف هذه الامدادات لأسباب سياسية. فلعل الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ابن الثورة الجزائرية يلتفت إلى هذه المسألة ويستخدم ورقة الغاز لانقاذ أشقائه من المحرقة في قطاع غزة.

اننا نناشد الزعماء المشاركين في هذه القمة ان يعتبروا هذه النقاط الخمس بمثابة ورقة عمل لقمّتهم، وان يخرجوا باجراءات عملية ترتقي إلى مستوى الخطوات المطلوبة هذه وغير المسبوقة. لأن من سيقاطعون هذه القمة، وهم من العيار الثقيل، ينتظرون فشلها، ويتمنون خروجها بعبارات الشجب والتنديد فقط حتى يسخروا منها من خلال آلتهم الاعلامية الجبارة.
عقد هذه القمة، ووسط هذه الظروف، ورغم الضغوط الهائلة من قبل الأطراف العربية المعارضة لها، هو انجاز كبير، وقمة التحدي، وتحرير للقرار العربي من هيمنة من يرهنون أنفسهم ودولهم للمشاريع الأمريكية - الاسرائيلية في المنطقة، ولن يكتمل هذا الانجاز إلا بقرارات عملية حقيقية تنزل برداً وسلاماً على أهل غزة، وكل الشعوب العربية التي انتصرت لهم في هبتها الاحتجاجية الرائعة. فإذا لم توقف هذه القرارات والخطوات المنتظرة العدوان، فإنها ستزيد من صلابة المقاومة، وستعزز قدرتها على الصمود، والاستبسال في ميادين المواجهة.

0 التعليقات:

إرسال تعليق