جريمة المحرقة لن تمر

جريمة المحرقة لن تمر
فهمي هويدي


ما حدث قبل ستين عاماً في أيام النكبة يتكرر الآن في غزة.. لكن السلوك الإسرائيلي اختلف في الدرجة في حين أن الموقف العربي اختلف في النوع

بعض الحكومات العربية بدت في التعامل مع العدوان أكثر توافقاً وتناغماً مع الدول الغربية، منها مع شقيقاتها العربيات. وكان ذلك أوضح ما يكون في أصداء قرار مجلس الأمن الأخير بخصوص وقف العدوان علي غزة.


إحدي الخلاصات التي نخرج بها من متابعة المشهد في غزة أنه لا شيء تغير في إسرائيل، لكن العرب هم الذين تغيروا.

(1)

«قتلت ما بين 80 إلي مائة فلسطيني، من النساء والأطفال. الأطفال كانوا يقتلون بتحطيم رؤوسهم بالعصي. لم يكن هناك منزل واحد بلا جثث. أجبر الرجال والنساء علي البقاء في بيوتهم بلا طعام أو ماء. ثم جاء الجنود لكي يفجروا المنازل بالديناميت. أمر قائدنا أحد الجنود بإحضار امرأتين إلي المنزل الذي كان علي وشك تفجيره».. جندي آخر افتخر بأنه اغتصب امرأة عربية قبل إطلاق النار عليها وقتلها. أمر الجنود امرأة عربية أخري معها جنينها بتنظيف المكان لمدة يومين، وبعد ذلك أطلقوا النار عليها وعلي طفلها. القادة المتعلمون من ذوي الأخلاق الحسنة، الذين كانوا يعدون «أفضل الرجال» تحولوا إلي قتلة في معارك الطرد والإبادة التي انطلقت من الاقتناع بأنه كلما كان هناك عرب أقل، كان ذلك أفضل لإسرائيل.

«كان علينا أن نهاجم اللاجئين الفلسطينيين، انقسمنا إلي ثلاث مجموعات، كل واحدة ضمت أربعة أشخاص. شاهدت مع زميل لي عربياً يقف عند منحدر التل. قال لي زميلي جبيلـي: هار، جهز سكينك. زحفنا نحو الرجل الذي كان يردد لحناً عربياً، فسارع جبيلي إلي الإمساك به، وأنا أغمدت السكين في عمق ظهره. رأيت الدماء تتدفق علي قميصه القطني المخطط. ودون أن أضيع أية ثانية، تصرفت تصرفاً غريزياً وقمت بطعنه مرة أخري بالسكين، تأوه الرجل وتمايل ثم سقط مضرجًا في دمائه».

هذان النّصان لا يصفان شيئاً مما يحدث في غزة هذه الأيام، ولكن الأول منهما جزء من شهادة جندي شارك في احتلال قرية الدوليمه الفلسطينية عام 1948، نشرتها صحيفة «دافار» الإسرائيلية في 9/6/1979، أما الثاني فهو مقتبس من يوميات جندي اسمه مائير هارتزيون، تحدث فيها عن تجربته مع الجيش الإسرائيلي في بداية الخمسينيات، التي نشرت في تل أبيب عام 1969، وكانت صحفية «هاآرتس» قد سألته حينذاك عما إذا كان يشعر بوخز الضمير من جراء ما فعل، فنفي ذلك، وقال إن طعن العدو بالسكين «شيء رائع» يمنحك إحساسًا بأنك رجل حقاً. ( القصتان وردتا في ثنايا كتاب صدر مؤخراً عن دار الشروق الدولية حول « إرهاب إسرائيل المقدس»).

(2)

هذا الذي حدث قبل ستين عاماً يتكرر الآن في غزة. لكن السلوك الإسرائيلي اختلف في الدرجة، في حين أن الموقف العربي اختلف في النوع. فإسرائيل ظلت علي موقفها في الفتك بالفلسطينيين واستباحة دمائهم. في الأربعينيات أرادت تهجيرهم والآن تريد تركيعهم. ووقتذاك استخدمت السلاح والآن أضافت إليه الحصار. وما فعله النازيون معهم حين وضعوا اليهود في معسكرات الاعتقال ثم ساقتهم إلي غرف الغاز، فإن الإسرائيليين حولوا غزة بالحصار إلي معسكر للاعتقال، وأقامت لهم محرقة بأسلوب آخر، حيث عمدت إلي قصفهم ودك بيوتهم فوق رؤوسهم من الجو والبر والبحر. بل لم يتورعوا عن ضرب مقرات المنظمات الدولية (الصليب الأحمر ووكالة غوث للاجئين) وقصف سيارات الإسعاف وتصفية المسعفين. الأمر الذي يعني أنهم ضاعفوا من وحشيتهم واستهتارهم وتنكيلهم بالفلسطينيين.

أما اختلاف الموقف العربي في النوع، فيظهر جليًا حين نلاحظ أنه في الأربعينيات كان هناك توافق بين الحكومات والشعوب العربية علي ضرورة مواجهة العدوان الصهيوني. الذي أسفر عن وجهه في منتصف الثلاثينيات، الأمر الذي وفر مناخاً مواتياً لفتح الباب واسعاً لتطوع المجاهدين من أنحاء العالم العربي والاسلامي، ولإشراف الجامعة العربية علي جمع المال والسلاح لمقاومة تقدم العصابات الصهيونية. وهو ما انتهي بإعلان الحكومات العربية في عام 1948 - من خلال اللجنة السياسية بالجامعة - زحف الجيوش المصرية والسعودية واللبنانية والعراقية والأردنية لمساندة شعب فلسطين « لأن أمن فلسطين وديعة مقدسة في عنق الدول العربية»، كما ذكر البيان الذي صدر بهذا الخصوص.

لست هنا بصدد تقييم النتائج التي يعرفها الجميع، لأن ما يعنيني في اللحظة الراهنة هو المدي الذي بلغه اختلاف الموقف العربي علي الصعيد النوعي. فلا الحكومات العربية اتفقت مع بعضها البعض علي مواجهة العدوان، بل عجزت حتي عن أن تعقد قمة لاتخاذ موقف موحد. ولا توافقت تلك الحكومات مع شعوبها، التي مازالت أغلبيتها الساحقة علي الأقل ثابتة علي موقفها الذي عبرت عنه في عام 1948.

الأدهي من ذلك والأمر، أن بعض الحكومات العربية بدت في التعامل مع العدوان أكثر توافقاً وتناغماً مع الدول الغربية، منها مع شقيقاتها العربيات. وكان ذلك أوضح ما يكون في أصداء قرار مجلس الأمن الأخير بخصوص وقف العدوان علي غزة. ناهيك عن اللغط المثار حول الموقف من العدوان ذاته ومن حصار القطاع بوجه عام.

ومادمنا بصدد المقارنة، فإننا لا نستطيع أن نتجاهل في رصد الموقف الغربي، الذي أفزعته الممارسات النازية الألمانية بحق اليهود في أربعينيات القرن الماضي، هو ذاته الذي يقف الآن متفرجاً - بعضه يشجع ويبارك - المحرقة النازية الإسرائيلية بحق الفلسطينيين.

(3)

رغم أن أي تقييم لنتائج المحرقة لا يزال مبكراً، إلا أن ثمة أمورًا برزت في الأفق الآن، بحيث يمكن التعامل معها كمؤشرات مقطوع بها، أو مرجحة عند الحد الأدني. من ذلك مثلاً أن ما جري في غزة لن يمر بسلام، لا عربياً ولا فلسطينياً. وفي هذا الصدد ينبغي أن ننتبه باستمرار إلي أن الشارع العربي يعيش الحدث في غزة يوماً بيوم بل ساعة بساعة. وأذكر في هذا الصدد بأنه إذا كانت إسرائيل تمارس الآن بدرجة أعلي ذات الجرائم التي ارتكبتها في فلسطين، فإن تفصيلات تلك الجرائم لم يتعرف عليها العرب والمسلمون إلا بعد سنوات من وقوعها، وأن الإعلام كان ضعيفاً في أربعينيات القرن الماضي. لكن الأمر اختلف الآن تماماً، لأن الناس أصبحوا يتابعون ما يجري في غزة ساعة بساعة، وفي أحيان كثيرة فإن مشاهد المحرقة تنقل إليهم مباشرة عبر بعض الفضائيات، ولا ينبغي أن يستهان بهذه التعبئة المستمرة التي شحنت الشارع العربي بمختلف مشاعر السخط والغضب. ليس علي إسرائيل وما تفعله، ولكن علي العجز الذي ظهر في مواقف الأنظمة العربية ذاتها. وهذا وجه الخطر في الموضوع.

ذلك أن مواقف الأنظمة العربية، التي وضعت أغلبها موضع الاتهام إما بالتقاعس أو بما هو أبعد من ذلك وأسوأ، أحدثت أزمة ثقة عميقة بين الجماهير وبين تلك الأنظمة. صحيح أن ثمة فجوة تقليدية بين الأنظمة والشعوب في العالم العربي بسبب احتكار السلطة وشيوع الفساد وغياب الديمقراطية، لكن الاتهامات التي أصبحت توجه إلي تلك الأنظمة في ظروف الحرب الراهنة، سواء بالتقاعس أو بالموالاة للطرف الآخر، لم تعمق من تلك الفجوة فحسب، وإنما أفقدتها رصيد الثقة والاحترام. وفي غياب الشفافية وإزاء استمرار التشنج الإعلامي الراهن، لم يتح للناس أن يتبينوا الحقائق. الأمر الذي وسع من نطاق الشبهات وأبقي علي بعض الدول في قفص الاتهام.

لا ينكر في هذا الصدد أن المقدمات التي تعرف عليها الناس كانت عنصراً مساعداً علي تثبيت الاتهامات وإثارة الشكوك. ذلك أن اشتراك بعض الدول العربية في حصار الفلسطينيين بالقطاع، ومنعها إيصال المعونات والمواد الاغاثية إليهم، والتلكؤ حتي في السماح للأطباء المتطوعين بدخول القطاع للمشاركة في علاج المصابين، إضافة إلي التصريحات السياسية البائسة التي عبرت عن التحامل علي الفلسطينيين، وتبرير قيام الإسرائيليين بالمذبحة. هذه العوامل وغيرها أسمهت في تعزيز الشكوك والشبهات. يكفي أنها أثارت عند كثيرين تساؤلات حائرة عن حقيقة مواقف تلك الأنظمة، وهل هي تعبر عن شعوبها حقاً، أم أنها تقف في الاتجاه المعاكس وتعبر عن مصالح ومواقف الأطراف الأخري.

لا أظن أننا عشنا زمناً تعمقت فيه أزمة الثقة في بعض الأنظمة العربية، ولا أثيرت حولها الشكوك والشبهات، كهذا الزمن الذي نعيشه الآن. وذلك وجه الخطورة في الموضوع. ذلك أن شعوبنا التي احتملت في السابق ممارسات كثيرة من الأنظمة المختلفة، يصعب عليها ويهينها ويجرح كرامتها، أن تحتمل طويلاً أوضاعاً من هذا القبيل الذي استجد. لا أعرف بالضبط ما الذي يمكن أن يحدث، لكني فقط أقول أن الممارسات المخزية الراهنة، التي تشعر شعوبنا بالذل والعار، أصبحت تفوق طاقة الصبر عند الناس، خصوصاً أولئك الذين لديهم بالأساس ما يكفيهم من المرارات والأوجاع. وليت الأمر وقف عند حدود المهانة وجرح الكبرياء، لأن المشهد لم يخل من «فضية أيضاً، بعد أن وجدنا فنزويلا تطرد سفير إسرائيل لديها، وموريتانيا تستدعي سفيرها في تل أبيب، وتركيا تعلق اتصالاتها مع إسرائيل، ومهاتير محمد يدعو من ماليزيا إلي مقاطعة البضائع الأمريكية، في حين يسود الخرس عواصمنا، ويخيم عليها «صمت الحملان»!

(4)

هل يمكن بعد الذي جري أن يتحدث أحد عن السلام مع إسرائيل؟ - أرجو ألا يسارع أحد إلي المزايدة علي قائلاً أنني أدعو إلي الحرب، التي لم تستبعدها إسرائيل وتتحسب لها باستمرار، لأن ما أدعو إليه حقاً هو سلام مشرف لا يشترط علينا الركوع أو الانبطاح مقدماً. ذلك أن الجنون الذي مارسته إسرائيل في ممارساتها الوحشية في غزة، لم يهدم فقط بيوت القطاع لكنه أيضاً هدم كل ما حاولت إسرائيل أن تبنيه من أوهام السلام طوال الثلاثين عاماً الأخيرة. وقد شاءت المقادير أن تقدم إسرائيل علي محرقة غزة في العام الثلاثين لتوقيع معاهدة السلام مع مصر (عام 1979)، لتطوي صفحتها وتجهز علي ما بقي لها من آثار، خصوصاً بعدما أصبح السؤال المركزي في العالم العربي: هو أليس من العار رغم الذي جري، أن تحتفظ أي دولة عربية بعلاقات من أي نوع مع إسرائيل؟ - بسبب من ذلك، فلعلي لا أبالغ إذا قلت أن نكسة شديدة أصابت أوهام السلام التي حاولت أن تروج لها إسرائيل. أعادتها خطوات بعيدة إلي الوراء، حتي أزعم أن إسرائيل قد تحتاج إلي عشر سنوات أخري لكي تعود إلي فتح ذات الملف مرة أخري.

الملاحظة الأخيرة في هذا الصدد أن إسرائيل حين أرادت أن تحرق غزة فإنها حرقت أصدقاءها معها، وفي المقدمة منهم أبو مازن وجماعته الذين كان غاية جهدهم منذ وقعت الواقعة، أنهم جلسوا إلي جوار الهواتف يناشدون الآخرين ويستعطفونه، حتي إن أبو مازن لم يجرؤ علي الاحتجاج والإعلان عن قطع مفاوضاته مع إسرائيل. الأهم من ذلك أن الجريمة أعادت اللحمة إلي الصف الوطني الفلسطيني الذي عاني من التصدعات والانقسام. وهي لحمة يمكن أن تنتقل بالوضع الفلسطيني إلي طور مغاير تماماً إذا ما استمرت مقاومة غزة في صمودها الأسطوري. لأن ذلك الصمود إذا ما تحقق فإنه لن يختلف في أثره عن عصا موسي، التي ذكر القرآن الكريم أنه حين ألقاها «فإذا هي تلقف ما يأفكون».


0 التعليقات:

إرسال تعليق