ضحكت هاكيتس فعلاً


ضحكت هاكيتس فعلاً
بقلم د. أحمد خالد توفيق

يقولون إن صورة واحدة تغني عن ألف كلمة، ويقول الخبثاء: لكنك تحتاج إلي ست كلمات كي تقول هذا ! تذكرت هذه المقولة عندما رأيت رسمًا كاريكاتورًيا رائعًا لفنان موهوب، يمثل إسرائيل غولاً ذا عدة أذرع ينقض بها علي أقزام عرب شكلهم يوحي بالشفقة، والرسم يلخص عدة مقالات كاملة تتكلم عن دولة عصرية تتمتع بعلاقات دولية ذكية وتكنولوجيا وسلاح متطور ونظام ديمقراطي حقًا، فكيف لا تتوقع أن تقهر هذه الدولة ربع مليار عربي يمزقون أنفسهم طيلة الوقت ؟ لا يملك المرء
أن يشعر بإعجاب بهذه الدولة، لأنه كإعجابك بالبعوضة أو بكتريا الطاعون أو فيروس الإيدز.. لا أحد يحب فيروس الإيدز لكنه يبهرك علميًا عندما تدرس تركيبه.. كيف إنه متكيف وانسيابي ومصمم بدقة لمهمة القتل. كيف استطاعت هذه المجموعة من شذاذ الآفاق القادمين من أوروبا، المسلحين بأسطورة أن يصيروا حقيقة تدعمها 300 قنبلة نووية، وأن يظلوا أحياء يومًا آخر وسط ربع مليار عربي يمقتونهم كالجحيم ؟ لابد أن تنبهر بهذه القدرة وتتساءل عن السبب الذي جعل هؤلاء يحركون المنطقة كلها تبعًا لمصالحهم وأجندتهم.

إسرائيل أداة بارعة متقنة، لكن هل تملك القدرة علي البقاء حقًا ؟.. ستون عامًا فقط مرت عليها، تسببت خلالها في عدد لا حصر له من حروب شرسة وبحور من الدماء ومجازر ومآس وثأر لا يسقط بالتقادم، ومن الواضح أنها لا تذوب أبدًا في الوسط الذي غرست فيه ولا تتكيف.. كلما مرت الأيام تفاقم الأمر أكثر وازدادت العداوة.. حتي مع حال العرب الخامل الحالي، فهم مصرون علي رفض هذا النبت السرطاني. هل تقدر إسرائيل فعلاً علي الاستمرار ؟.. لا أعتقد ولا أتصور.. الجسم يطرد العضو الغريب المزروع مهما طالت المدة ما لم تمُتْ المناعة، والظاهر هنا أن المناعة لم تمُت. فلا أعتقد أن يهوديًا في العالم سيحتفل بمرور مائة عام علي قيام دولة إسرائيل.

لست محللاً سياسيًا، بل أعتمد علي معرفتي بطبائع الأشياء، لكنني وجدت في كلمات الراحل العظيم د.عبد الوهاب المسيري ما يؤكد هذا الرأي كثيرًا. عبد الوهاب المسيري ظل حتي آخر لحظة يؤمن بأن نهاية إسرائيل قريبة جدًا.. بل إنه اعتبر أن فترة عشرين عامًا تفصلنا عن تلك النهاية طويلة جدًا، وهي أقرب إلي التفاؤل الصهيوني، ونحن نعرف طبعًا أن الرجل يعرف ما يقول، وأنه كرس أربعين عامًا من حياته لدراسة الصهيونية واليهودية، فلن يدهشني أن يعرف أكثر من الحاخامات أنفسهم. هناك مفكرون يهود كثيرون توقعوا الشيء ذاته، ومنهم الفرنسي (جاك أتالي) الذي كتب مقالاً شهيرًا عن هذا في الإكسبريس الفرنسية.

الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لم يقدر علي أن يكون إحلاليًا بالكامل - كما حدث في أمريكا وأستراليا - أي أن يبيد السكان الأصليين ليحل محلهم، وقد نجح في هذا ما بين عامي 1948 و1967، ثم بعد عام 1967 وبعد ما ضم كتلة فلسطينية بشرية ضخمة، بدأ يعتمد علي فكرة المعازل البشرية للسكان الأصليين و الأبارتايد، مع التركيز علي فكرة المستوطنات لخلق واقع جديد علي الأرض بحيث تصير العودة لحدود 1967 مستحيلة. الصراع والتحفز الحربي لفترة ستين عامًا شيء مرهق فعلاً، وقد بدأ هذا يظهر عليهم، لكنهم كذلك غير مستعدين للسلام.. هذا هو المأزق التاريخي الذي وقعت فيه إسرائيل.. تريد سلامًا لكنها كذلك لا تريد إعطاء أي حقوق للعرب ولا تريد التنازل عن حلم الأسطورة التي تعتبر هذا وطنهم الذي وعدهم الله به.. المشروع كما يراه الباحث الكبير مليء بالشروخ، لكنه لا يسقط لأن أسباب بقائه تأتي من الخارج.. أي إن إسرائيل أقرب إلي كوب زجاجي مهشم لا يبقيه سوي يد الغرب التي تمسكه. لا تنس أن السبب في وجودها هو هواية أوروبا لتصدير مشاكلها للخارج.. يومًا ما سوف تتراخي قبضة الغرب عن هذا الكوب المزعج وعندها..

المقاومة مهما كان الثمن الذي تبذله حققت الكثير جدًا، ومنه " فقدان المجتمع الإسرائيلي للثقة بنفسه إلي حد كبير، وانهيار الإجماع علي الاستيطان، وحدوث هجرة معاكسة داخل إسرائيل، وتفكك الوضع الاقتصادي، إضافة إلي معاناة الجيش الإسرائيلي المستمرة".. وللمرة الأولي منذ ميلاد إسرائيل رسمت لنفسها حدودًا بعدما كانت دولة بلا حدود.. إن تطلعاتهم تنكمش..

حتي علي مستوي الأسطورة نفسها فإسرائيل مخالفة للديانة اليهودية، وخطيئة توراتية كبري اسمها «ضحكت هاكيتس» أي «التعجيل بالنهاية»، وهذا يعني أنه تم تغيير العقيدة اليهودية من الداخل من أجل أغراض إمبريالية توسعية.. يجب ألا ننسي أن جماعة «ناطوري كارتا» ما زالت تحرق العلم الإسرائيلي كل عام باعتبار إسرائيل وطن الزنادقة. الأغرب أن المسيحيين الإنجيليين أهم سند للصهيونية يدعون في الواقع إلي تجميع اليهود في فلسطين تمهيداً إما لتنصيرهم أو لإبادتهم. طبعًا لا أحد يذكر هذا الجزء بتاتًا.

يري د. المسيري - أستعمل الفعل المضارع باعتبار كلماته باقية - أن الإسرائيليين يواجهون كمًّا عربياً وكيفاً عربياً، فالإنسان الفلسطيني ينمو ويستوعب العصر، فلم يعد هو مزارع البرتقال البسيط الساذج الذي يرقص الدبكة طيلة اليوم ثم يموت برصاصة في رأسه .. ويقول أستاذ جغرافيا في الجامعة العبرية: «الفلسطينيون سيهزموننا في غرف النوم ومدرجات الجامعة»، فلا تنس أن المرأة اليهودية هي أقل نساء العالم خصوبة، والمرأة الفلسطينية علي العكس تمامًا.

تذكرت هذا كله وأنا أري عصبية الإسرائيليين وتوحشهم في الحرب الحالية.. هناك انفلات أعصاب لا شك فيه، وقد رأيت متحدثهم الرسمي يوشك علي سب مذيعة قناة الجزيرة، ويؤكد في صلف وعنف:«إسرائيل لا تحتاج إلي مبررات ولسوف نضرب المدارس والمساجد لأن إسرائيل دولة قوية جدًا». شيء ما في كلماته ولغته جعلني أشعر بالحقيقة.. هذا رجل خائف فعلاً.. لهذا هو متوحش..

هذه حرب لا تجرؤ إسرائيل علي أن تفكر في خسارتها.. لو خسرتها بعد عامين من هزيمتها في لبنان، ولو هزمت علي يد ميليشيات محاصرة ضعيفة التسليح، فمعني هذا أن هيبتها وقوتها الرادعة انتهت للأبد. ما معني أن تخسر الحرب ؟.. عندما تقضي دولة نووية أسبوعين في محاولة القضاء علي المقاومة أو منع إطلاق الصواريخ فلا تنجح، ويموت جنودها وتسقط الصواريخ - مهما كانت بدائية - علي قواعدها، فهي تخسر فعلاً. عندما لا تجد حلاً سوي قصف البيوت الآمنة وذبح الأطفال، ولا تخجل من كون هذه أحقر حرب خاضتها في تاريخها، فإنها تخسر الحرب أو خسرتها فعلاً، وكما قال صديق لي ساخرًا: «يعني معني كده إنه لو عند حماس دبابة واحدة كانت حتخلّص !!».

إنهم يخسرون بلا توقف.. المظاهرات التي تغلي في العالم كله، والعالم العربي الذي يوشك علي التوحد بمعجزة علي مستوي الشعوب علي الأقل، وحساب الدم الذي يتضخم بلا توقف.. ثم هم يخالفون قاعدة استراتيجية مهمة ذكرها «هيكل» علي لسان أحد قادتهم: «يجب صيد مصر بالحربون وصيد الشام بالشبكة».. أي أنه يجب التعامل مع مصر بعنف وقسوة، بينما يجب التعامل بكياسة جراحية مع أهل الشام. السبب هو أنه لا يجب ترك ثأر دائم مع الجيران.. طبعًا صار لدي كل بيت في فلسطين - والعالم العربي في الواقع - دين دم لابد من سداده يومًا ما.

نعم.. هم يزدادون عصبية وبالتالي توحشًا. الذئب المسعور هائج يضرب رأسه في القفص ويمكن أن يقضم أية يد يجدها أمامه، ولنا أن نتوقع عددًا لا بأس به من المذابح قبل أن تواجه إسرائيل الحقيقة: إنها فشلت مرة أخري.

نعم .. لا أعرف المستقبل، ولا أعرف ما في جعبتهم ولا كم سيكلفنا هذا، لكن النظر لهذا الوضع يقول: إن استمرار إسرائيل مستحيل.. لن تنجح في إبادة الفلسطينيين بالكامل، ولن تمتزج أبدًا بالوسط المعادي المحيط بها الذي يلفظها بلا توقف. أتذكر هنا كلمات أحد مفكريهم الساخرين الذي يوصي آخر من يغادر البلاد أن يطفئ النور ويغلق صنبور الماء قبل أن يركب الطائرة إلي بولندا!
aktowfik@hotmail.comهذا البريد محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته

0 التعليقات:

إرسال تعليق