معبر رفح.. خيار مصر الإستراتيجي المغيب


معبر رفح.. خيار مصر الإستراتيجي المغيب
د. باكينام الشرقاوى

الانطباع السائد أن رأي الجماهير العربية، وعلى رأسها الشعب المصري الغاضب تجاه العدوان الإرهابي الإسرائيلي على غزة، والمطالب بفتح معبر رفح، إنما هو رأي عاطفي انفعالي لا يدرك حسابات الرشادة الموضوعية ولا يعي متطلبات الأمن القومي المصري، ومن ثم فإن الانسياق وراءه إنما يدفع مصر إلى منزلق الصدام مع إسرائيل وتبني سياسات غير رشيدة وغير متوازنة تهدد المصلحة القومية المصرية.

ولكن عند محاولة تفنيد آراء كثير من المفكرين المستقلين ومؤسسات المجتمع المدني وغالبية النخبة المثقفة، وحتى آراء المواطنين العاديين المعبر عنها بالقلم في تعليقاتهم على كثير من المقالات الصحفية أو بالمظاهرات في الشوارع، ربما يمكن الزعم أن الرؤية الجماهيرية التي تطالب بفتح معبر رفح تأتي الأكثر واقعية وتوافقا مع المصلحة القومية لمصر.. كيف؟

رؤية الجماهير أكثر واقعية

أولا: لأن الخطوات التي تطالب بها هذه التيارات تخرجنا من منطق الخيار الضيق بين ثنائيتين متطرفتين متناقضتين: إما التمسك بالسلام كخيار إستراتيجي أوحد من طرف واحد، أو الحرب المفتوحة غير محسوبة العواقب، حيث تقع معظم أدوات الضغط السياسية والدبلوماسية والقانونية التي تطالب بها كثير من قوى المجتمع المصري في منطقة الوسط.. تلك المنطقة الرمادية التي تبعدنا عن التسليم المفرط لإسرائيل أو الاستعداء المتهور لها، فإدارة معبر رفح ستظل ورقة في يد مصر يفرضها الواقع الجغرافي والتاريخي، ويمكن استخدامها كأداة للتواصل مع غزة وإبقاء النفوذ المصري بها حيا من جانب، وموازنة التعنت الإسرائيلى وإجباره على احترام الدور المصري من جانب آخر.

ثانيا: لكي تستعيد مصر الإجماع العربي على مكانتها ودورها المحوري في النظام الإقليمي العربي (المفكك والمنقسم والمخترق)، عليها اتباع سياسة خارجية متوازنة – بالفعل وليس بالكلام - بشكل يجعلها على صلة حوارية مع جميع الأطراف (حتى المختلف معهم) ويدعم من مركزها في خطها التحالفي مع الغرب.

ولتكن لنا في تركيا أسوة حسنة.. فلعله من الأجدى أن تبادر مصر بكسر المناخ الاستقطابي السائد في المنطقة، ولتكن لها الريادة في ذلك من خلال التعامل مع المطالب الشعبية في العالم الإسلامي والتلميحات الرسمية من بعض الدول بقدر أكبر من الانفتاح وسعة الصدر، بل استثماره من أجل تقوية الموقف المصري أمام إسرائيل والعالم.

ويجب عدم اعتبار المطالبة بفتح معبر رفح اختزالا للقضية الفلسطينية في معبر أو مزايدة على دور مصر، بل إدراكا لأهمية أوراق الضغط التي تملكها مصر إذا ما أخذت قرارا بتحويل هذا المعبر لمنفذ حياة لا يربط فقط غزة بمصر بل بمحيطها العربي والإسلامي، وهو الربط الذي إذا تم بالسرعة والدقة والكفاءة المطلوبة فسيعيد لمصر هيبتها المفقودة ويكرس صورتها كلاعب إقليمي رئيسي بيده أن يغير من موازين اللعبة لصالحه قبل صالح أي طرف آخر.

ثالثا: إن تنشيط دور مصر الإقليمي لا يتم بدون تفعيل روابط حقيقية مع جميع الأطراف وأولهم حماس، فهي الحلقة الأضعف في شبكة علاقات مصر الإقليمية على الرغم من كونها الأهم في ظل المأساة الحالية، وذلك حتى تتدعم مصداقية الدور المصري.

ولا يمكن – شئنا أم أبينا - إغفال ما تتمتع به حماس من تعاطف شعبي لكونها رمز المقاومة في القضية الفلسطينية (القضية العربية المحورية في الذاكرة المصرية ورمز المقاومة ضد إسرائيل الدولة الغاصبة للأراضي الفلسطينية والقاتلة للفلسطينيين وللمصريين في الوعي المصري) بل ربما هناك مصلحة أخرى لصيقة بالنظام المصري وعلاقته بأهم جماعات المعارضة، وهي إضعاف حلقة الاتصال بين حماس والإخوان المسلمين أو تفعيل الهدف المشترك بين الحكومة والمعارضة، وهو الدفاع عن الشعب الفلسطيني للتخفيف من الاستقطاب الحاد الذي تشهده الساحة السياسية المصرية منذ سنوات.

إن اتباع النهج التصالحي كلما أمكن وتكريس التكامل بين الرؤى – ولو في حده الأدنى - يجعل العافية تدب من جديد في الحياة السياسية المصرية.

رابعا: يمكن لفتح منظم ومنضبط ودائم لمعبر رفح أن يحقق البعد الإنسانى المتفق عليه من الجميع والذي تحميه اتفاقيات القانون الدولي ويعطي شرعية دخول المساعدات الغذائية والطبية، ولكن بشكل مؤسسي يسمح للنظام المصري بمراقبة حدوده بفعالية ويمنح للفلسطينيين في قطاع غزة حدا أدنى من مستوى المعيشة.

خامسا: تقليل الفجوة الواسعة البادية للجميع بين النظام المصري والجماهير، وقد تمثل خطوة كهذه مصالحة داخلية تقرب المجتمع من حكومته بشكل يدفعها لأداء عام أفضل وفعال، فعادة ما تكون الخلافات الداخلية بين القوى السياسية في حدها الأدنى في ساحة القضايا الخارجية، مقارنة بمشاكل الداخل، وتكون ساحة لتجميع القوى المجتمعية وتعبئتها، والحكومات تلجأ إلى استغلال هذه التباينات في الداخل من أجل إكساب المواقف الخارجية مرونة أكثر وتوسيع مجال حركتها.

سادسا: إحراج إسرائيل (وليس مصر هنا) أمام الشعوب العربية والمجتمع الدولي إن هي تدخلت بأي صورة من الصور مثل قصف أو إعادة احتلال خط فيلادليفيا (محور صلاح الدين) الفاصل بين الجانب المصري والفلسطيني؛ فعلى الأقل ستكون مصر قد وفت بالتزاماتها الإنسانية والإسلامية والعروبية والأمنية، وأبدت سيطرة حازمة وقانونية على الجانب المصري للمعبر المفترض أنها تمتلك كامل السيادة عليه، وحاولت بأقصى ما تستطيع مساعدة الشعب الفلسطيني، لكن العدوان الإسرائيلي –وليس الحذر المصري - هو الذي حال دون ذلك.

الموقف الرسمي.. مردود عليه

علما أن مخاوف فتح معبر رفح جميعها مردود عليها:

أولا: لا علاقة بين دخول الإعانات الإنسانية لغزة وتكريس الفصل بين القطاع والضفة الغربية، فالحفاظ على الحد الأدنى من المعيشة الآدمية للفلسطينيين في غزة لا يعني إنشاء دولة فلسطينية منفصلة فيها، خاصة أن تأسيس الدولة الفلسطينية المستقلة مازال قيد مفاوضات ممتدة ومنذ أمد بعيد.

ثانيا: القول بأن فتح المعبر يعني الاعتراف بحماس.. وهل حماس احتلت أرضا أو جاءت بتزوير في الانتخابات؟ إنما هو خلاف فلسطيني - فلسطيني يجب أن تسعى مصر لاحتوائه وليس لنصرة طرف على آخر.

ثالثا: فتح المعبر لا يعني خرقا لأي اتفاقيات دولية، لأن مصر تتحكم في حدودها الدولية ولم تتعدها، كما أن مصر ليست طرفا في اتفاقية المعابر 2005 بين السلطة الفلسطينة وإسرائيل والاتحاد الأوروبي (وبالتالي فكل ما يترتب على الطرف المصري من واجبات بموجبها لا يصبح ملزما لمصر ما لم تقبل وتقر هي بهذه الواجبات، والاتفاقية أصلا لم تجدد منذ العام 2006، أي أننا أمام فراغ قانوني فيما يخص وضع معبر رفح).

أضف لذلك أن اتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني يعطي مصر الحق بل يفرض عليها واجب السماح للاحتياجات الضرورية الغذائية والدوائية بالدخول إلى القطاع.

رابعا: تنظيم دخول وخروج الفلسطينيين بشكل مرن - ولكن منضبط - لا يعني إخلالا بالأمن القومي ووقوعا في الفخ الإسرائيلي بالسماح بترحيل اللاجئين الفلسطينيين إلى سيناء، فالعكس هو الصحيح؛ فبفتح المعبر ربما تستطيع مصر تلافي أي احتمالات للنزوح الجماعي إلى داخل الأراضي المصرية عند استمرار تضييق الخناق على القطاع، فتظل الحركة عبر الحدود منظمة ومحكومة وتحت السيطرة.

خامسا: لا يمثل دخول عناصر فلسطينية إلى سيناء تهديدا أمنيا خطيرا، خاصة إذا ما قورن بالدخول المكثف للإسرائيليين إلى سيناء بسهولة ويسر، وإذا ما طبقت مصر ما تراه من إجراءات لتحديد من تسمح له بالدخول، على أن يواكب ذلك توسيعا لحركة المرور إلى غزة، خاصة بالنسبة للمعونات الدولية والعربية والتبرعات المصرية، فليس في هذا أي مساس بالأمن القومي، بل حماية ودعم له بتأمين الحدود والعمل على استقرار الأوضاع في مدخل مصر الشرقي.

رؤية لإحداث التوازن

لذا لابد من إعادة الاعتبار إلى جدوى وعقلانية المطالب الشعبية، ليس فقط بافتراض أن النظام معبر وممثل عن إرادتها، وإنما لأنها تعبر أيضا عن حس دقيق وإدراك واع للمصلحة القومية المصرية، ولأنها تعكس فهما شاملا وواسعا لمفهوم الأمن القومي المصري والعربي.

من المهم فك الارتباط بين جماهيرية وشعبية أى مطلب من جانب، وبين عدم عقلانيته وغوغائيته من جانب ثان.. إن كثيرا من الرؤى المجتمعية العامة تمتلك قدرا ملحوظا من الرصانة وتقوم على المنطق العقلاني والحسابات الواقعية.

وليس صحيحا أن الدوائر الحكومية تمتلك وحدها نفاذ البصيرة وتدرك ما لا يدركه الآخرون، فصياغة إستراتيجيات الأمن القومي لم تعد حكرا على العسكريين، وانفتحت على كافة قوى المجتمع في العالم أجمع، باستثناء العالم العربي، ولننظر إلى إسرائيل ذاتها كيف أن العدوان الإجرامي الحالي على غزة لا يمثل فقط رؤية المؤسسة العسكرية، بل يخاطب ويعبر في المقام الأول عن غالبية الرأي العام الإسرائيلي، وبالقول إن ديمقراطية الدولة الإسرائيلية تفرض على الحكومة أن تستجيب للضغوط الشعبية استطاعت إسرائيل أن تقدم خطابا يفهمه ويستوعبه المجتمع الدولي لتبرير السياسات العدوانية المتواصلة ضد الفلسطينيين.

ربما فات وقت انتقاد الموقف المصري من حصار غزة، والذي إن اختلف في السابق، فربما ما تفاقمت الأوضاع كما هو حادث الآن.. لكن عملية صنع القرارات السياسية عملية مستمرة تفرز في كثير من الأحيان فرصا لاستدراك ما فات وتفعيل المستجدات الداخلية والإقليمية والدولية عند تحديد ردود الأفعال الجديدة وصياغة السياسات المستقبلية.

ولعل إحداث توازن في السياسة الخارجية المصرية يرتبط أول ما يرتبط بتغير الإدراك الرسمي المصري لحماس باعتبارها تعبيرا عن التطرف الإسلامي وامتدادا لحركات المعارضة الإسلامية في داخل العالم العربي، وهي رؤية وإن صحت من المنظور الأمني الضيق، فإنها قاصرة من المنظور الإستراتيجي الأشمل، فإدخال المقاومة أو التهديد بها كأوراق في اليد العربية (والمصرية) على طاولة المفاوضات بجانب أنه يعكس إدراكا عقلانيا لمعطيات الواقع؛ فإنه ينوع من وسائل الضغط على إسرائيل ويفعلها، ويخدم على المدى البعيد القوى العربية في تحالفها مع الغرب ومن قبله في علاقتها بجماهيرها.

وأخيرا الاستقواء بالداخل لمواجهة الخارج أقل كلفة وأيسر سبيلا وأكثر أمنا، بل أكثر تأثيرا في الغرب أيضا.. هذا هو الخيار الإستراتيجي الثاني الواجب تبصره.

0 التعليقات:

إرسال تعليق