محنة غزة بين النكبة العربية والنجدة التركية


إبراهيم البيومي غانم أستاذ العلوم السياسية يكتب: محنة غزة بين النكبة العربية والنجدة التركية
فاجأت تركيا عدة أطراف دولية بهجومها الدبلوماسي المكثف علي الشرق العربي منذ اليوم الأول للعدوان النازي الإسرائيلي علي غزة. واستندت تركيا في هجومها هذا إلي عناصر قوة كثيرة تمتلكها، وأهمها: قوة شعبية حكومتها
بدلالة الانتخابات الديمقراطية، وقوة الاستراتيجية التي تتبناها كدولة إقليمية مركزية تدرك مكانتها وتتصرف بحجم هذه المكانة، وقوة علاقاتها بمختلف أطراف الصراع في المنطقة وفقاً لمبدأ «لسنا مع أحدهم ضد الآخر» الذي يعتبر من أهم المبادئ التي وضعها كبير مستشاري رئيس الحكومة التركية أحمد داود أغلو.


أول الأطراف التي فاجأتها الدبلوماسية التركية هو النظام الرسمي العربي، الذي لا يزال يتخبط في حالة مروعة من الهرج والمرج، ويعاني الإفراط في العبث إلي حد يبعث علي الغثيان؛ فمن صدام المبادرات العربية في «قاعات القمم» بين القاهرة، والدوحة، والكويت، والرياض، إلي الكوميديا السوداء، والتصريحات البهلوانية التي مارسها عدد من قادة هذا النظام الرسمي؛ معبرين تارة عن قلة الحيلة، والشعور بالعجز عن فعل شيء، أو متحولين تارة أخري ـ وبقدرة قادر ـ من حكام أصحاب سلطة وقرار، وقادة جيوش، وأصحاب فخامة وجلالة وسمو، إلي تقمص دور المواطن العادي الذي لا حول له ولا قوة، أو في أحسن الأحوال تقمص دور محلل سياسي من الدرجة الثالثة. أحدهم شرح لنا أسباب العدوان علي غزة ورده إلي رفض حماس تمديد التهدئة دون أن يقول لنا تمديدها إلي متي وتحت أي شروط؟ وآخر ذكر إحصائيات بأعداد الشهداء والجرحي وتوقع المزيد، وثالث ولول علي الضحايا من شهداء المحرقة، ورابع تبرع بقطرات من دمه الفاسد لدعم الفلسطينيين الذين تذبحهم إسرائيل بجواره. أما أمين عام الجامعة فقد اختار لغة مسجوعة تنتمي فقط إلي عصر المماليك حيث الركاكة اللغوية المتخمة بالمحسنات البديعية فارغة المعني.

مفاجأة تركيا للنظام الرسمي العربي بهجومها الدبلوماسي لم تفلح في إخراج هذا النظام من حالة الفوضي التي يتخبط فيها، بدليل أنها نأت عن الانغماس أكثر من اللازم في بهلوانيات القمم العربية. ويبدو أن جولة أردوغان الأولي بين دمشق وعمان والقاهرة والرياض كانت لجس نبض هذه العواصم الأمريكية؛ حيث توجد القوة التي يمكن الاعتماد عليها، وهو ما ظهر في تركيز الدبلوماسية التركية عملها مباشرة مع من بيدهم قوة الحل والعقد: حماس، ودمشق، والقاهرة،
وطبعاً تل أبيب. ويبدو أن تركيا ستحتاج إلي وقت أطول كي تمسك بنبض النظام العربي بعد أن فقدته لمدة طويلة قاربت ثمانية عقود بدأت بعد إلغاء الخلافة واستمرت إلي نهاية القرن العشرين.

ثاني الأطراف ـ وثالثها أيضاً ـ التي فاجأها الموقف التركي هو العدو الإسرائيلي والإدارة الأمريكية؛ وهما يرتبطان بعلاقات وثيقة مع تركيا منذ عشرات السنين. صمتت أمريكا علي رد فعل أردوغان صمتاً مريباً حتي الآن. أما إسرائيل فقد حاول بيريز استيعاب الموقف القوي الذي اتخذه أردوغان رداً علي الإهانة التي وجهها رئيس حكومة العدو إليه عندما زار أنقرة واجتمع به قبل خمسة أيام فقط من شن العدوان علي غزة، مؤكداً رغبة إسرائيل في متابعة المفاوضات غير المباشرة مع سوريا؛ دون أن يذكر له أي شيء عن نيته في مهاجمة غزة، فلما وقع الهجوم انتفض أردوغان لإدانته، ونقل القضية إلي برلمانه وعرضها أمام ممثلي شعبه الذي انتخبه، واعتبر أن أولمرت بكذبه وخداعه أهان الشعب التركي بأكمله، وليس شخص أردوغان فقط. خدعه كرئيس أحد أكبر ثلاث دول في الشرق الأوسط. وكأن أردوغان بهذا التأكيد أراد أن يلزم من سيأتي بعده ـ عندما يرحل عن رئاسة الوزراء لأي سبب، نفس سياسته تجاه إسرائيل؛ لأن إسرائيل خدعت تركيا كدولة وليس أردوغان كشخص. هذا ما قصدناه بالقول إن أحد مصادر قوة تركيا في تدخلها في أزمة غزة هو ديمقراطيتها، وقوة رؤيتها الاستراتيجية والتصرف بحجم مكانة الدولة وليس بأقل أو أصغر منها.

توالي التصعيد في الموقف التركي علي لسان أردوغان من تحميل إسرائيل المسئولية الكاملة عن العدوان، وتبرئة
حماس من رفض تجديد التهدئة، إلي المطالبة بتعقب قادة إسرائيل لمحاكمتهم أمام محكمة الجنايات الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، والمطالبة أيضاً بفرض عقوبات علي إسرائيل لعدم التزامها بقرارات مجلس الأمن رغم إلزاميتها، وكلها مواقف لم تجرؤ قيادة عربية واحدة علي الاقتراب منها؛ بل إن محمود عباس رفض التوقيع علي إحالة قادة إسرائيل للمحاكمة الجنائية الدولية!!. وتتناثر في الأيام الأخيرة معلومات تفيد أن جهاز الموساد الإسرائيلي يحذر من أن غضبة أردوغان قد لا تقف عند حد التنديد والإدانة الكلامية كما يفعل الحكام العرب، وإنما قد تنتقل إلي تجميد اتفاقية التعاون الاستراتيجي مع إسرائيل، وحرمانها من التسهيلات العسكرية الممنوحة لها بموجب هذه الاتفاقية.

تلويح تركيا لإسرائيل بأنها إزاء مقايضة بين استمرار علاقاتها معها إذا أوقفت العدوان، أو المغامرة بفقدان هذه العلاقات وخسارة المزايا الاستراتيجية العسكرية والاقتصادية إذا استمرت في عدوانها، هذا التلويح لم يدعمه موقف عربي مماثل ومنسجم مع «لغة المصلحة»، أو لغة القوة التي لا تفهم إسرائيل غيرها. وأردوعان لا يهزل، وسبق له أن ألغي اتفاقاً مع إسرائيل لصيانة طائرات إف 4 والدبابات التركية بمبلغ 20 مليار دولار؛ حتي لا تلوي إسرائيل ذراعه، وأحال المهمة لشركة تركية أدت المطلوب بكفاءة أفضل، وبتكلفة أقل.

جاء الموقف العربي الرسمي عبثياً هزلياً وقت الجد. وهذه الفجوة بين الموقف التركي والموقف العربي هي التي أضاعت الكثير من ثمرات الصمود الأسطوري للمقاومة الباسلة في ميدان المعركة لمدة بلغت أربعة أضعاف المدة التي استغرقها جيش العدو الإسرائيلي في تدمير أربعة جيوش عربية في عدوانها سنة 1967.

الخذلان العربي الرسمي لم يثن الدبلوماسية التركية عن الاستمرار في هجومها المكثف، علي طريقة الجولات المكوكية بقيادة أحمد داود أوغلو، الذي يعد بحق كيسنجر السياسة التركية، بل ستثبت السنوات المقبلة أنه يتفوق عليه. ولكن رغم قوة المساعي التركية وتفانيها وتأكيدها أكثر من مرة أنها تأخذ دور أحد، فإن فرص نجاح هذه المساعي ستظل محدودة هذه المرة. وستعمل إسرائيل والولايات المتحدة ـ إلي جانب الخذلان العربي ـ علي عرقلة الدور التركي والالتفاف عليه بكل السبل؛ كي تحرم تركيا من كسب مواقع لها في هذا الصراع، وكي لا تصبح لاعباً يصعب ترويضه فيما بعد، خاصة أن تلميحات أردوغان إلي أجداده العثمانيين ودورهم في حماية اليهود تحمل دلالات كثيرة باتجاه تكريس تركيا كدولة إقليمية كبري يجب أن يحسب حسابها، وأن زمن النظر إليها كعضو في حلف الأطلسي فقط قد ولي.

لا تمسك تركيا إذن بالمفتاح السحري لحل الصراع العربي الإسرائيلي دفعة واحدة، ولكن دخولها علي خط التفاعلات المتطاحنة فيه سيضيف له مذاقاً جديداً. قد يتمخض الدور التركي هذه المرة علي الأرض في صورة رئاستها قوات دولية يجري نشرها علي المعابر، أو علي حدود غزة في إطار ترتيبات العودة للتهدئة، علي غرار ما حصل في لبنان من إرسال قوات دولية بعد عدوان يوليو 2006، ولكن هذا الهجوم الدبلوماسي التركي فتح صفحة جديدة في علاقتها بالمنطقة، وسيكون له تأثيراته في قضاياها العالقة. وفي كل الأحوال فإن هذا التحرك التركي قدم درساً للدول العربية الكبيرة، خاصة مصر، في كيفية التصرف بحجم عمقها الحضاري، وعلي قدر مكانتها الدولية والإقليمية.

0 التعليقات:

إرسال تعليق