«غزة» في قلب أفريقيا



الكاتبة الكبيرة عايدة العزب موسي تكتب:
الملحمة البطولية لأهالي القطاع ضد الاستطيان تشبه ما حدث في «ناميبيا» قبل قرن كامل.. أساليب الاستعمار لم تتغير والدم البارد أيضاً لم يتغير

الثورة في ناميبيا حدثت بعد قتل جنود الألمان لأحد رؤساء القبيلة لأنه تجرأ وطالب باسترداد أرضه لكن ثورة الأهالي قوبلت بوحشية منقطعة النظير

الملحمة الاستشهادة البطولية لشعب غزة ضد الاستيطان العنصري الإسرائيلي من أجل الأرض والوطن خاصة،
مثلها شعب أفريقي منذ قرن مضي عندما وقع علي شعب ناميبيا أكبر عملية إبادة في التاريخ الحديث، قرن كامل من الزمان وأساليب الاستعمار وأدواته لم تتغير، والأطماع البشرية تتزايد وتتوحش، والشعوب تطحن وتباد، والدم البارد يتجمد في العروق، فلا حمية ولا استنفار ضد المجازر ومرتكبيها.

الفرق بين الحالتين أن ملحمة غزة تعرض الآن علي الملأ ويعرفها القاصي والداني وتجد تعاطفاً وتأييداً، أما ما حدث لشعب ناميبيا فقد ظل في طي الكتمان وأسدل الستار علي المقاومة الباسلة التي أبداها الأهالي، ولم تكشف إلا بعد سنوات، وكان الكشف عنها ليس من ضمير أخلاقي ولا للحق التاريخي بل لصراع قام بين المستعمرين، عندما أرادت بريطانيا أن تنتزع من ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولي أقليم ناميبيا وكان يطلق عليه إقليم جنوب غرب أفريقيا، فأماطت اللثام عن جريمة إبادة الألمان لقبائل الهيريرو، ذلك أنه الحرب التي شنها الألمان علي شعب ناميبيا خلال أعوام 1904 ـ 1908 لم يكن الهدف منها إخضاع الأهالي فقط بل إبادتهم إبادة كاملة، أُبيد فيها 65 ألفاً من الهيريرو وكان يبلغ عددهم حينذاك 80 ألفاً أي ما بقي حياً 15 ألفاً يمثلون 17% فقط وقضي علي 83% منهم.


تبدأ المأساة الحزينة عام 1884 عندما عقد مؤتمر برلين الذي تم فيه تقسيم أفريقيا بين الدول الاستعمارية، وقضت الحدود السياسية التي رسمت علي الورق بأن تلتهم كل دولة استعمارية جزءاً من أفريقيا، وكان إقليم جنوب غرب أفريقيا من نصيب الألمان، وهكذا بجرة قلم ألحق الإقليم بألمانيا، وكان معني الإلحاق انتزاع الأرض والماشية من أهالي البلاد، في حين أن تقاليد الهيريرو وطقوسهم كانت تحتم عليهم أن يمتلكوا الماشية بأكبر قدر ممكن، فالماشية تعني بالنسبة لهم القوة في هذا العالم والخلاص في العالم الآخر لذلك كان مفروضاً عليهم أن يحموها، ورويداً رويداً وجد الهيريرو أن الأرض التي كانوا يتجولون في أنحائها« القبائل لم تعرف الملكية الخاصة بالأرض» وعيون الماء التي كانوا يستخدمونها صارت ملكاً للآخرين، وأدت مصادرة السلطات الألمانية لعدد كبير من الماشية التي وصفت بأنها سرقة بالجملة ودون حياء إلي غضب الهيريرو، وتحول الغضب إلي رغبة جامحة للتمرد فقاموا بانتفاضة عام 1904 استمرت أربع سنوات كبدت الألمان خسائر في الأرواح بلغت خمسة آلاف جندي ومستوطن ألماني.

كان من أسباب الانتفاضة احتلال الألمان لأراضي القبائل والوسائل الوحشية التي صورت للسيطرة عليهم وفقدان الصبر وقسوة حكم البيض، إذ كان قرار احتلال جنوب غرب أفريقيا يعني شيئاً واحداً لألمانيا هو أن تقوم القبائل بتسليم الأرض التي كانت ترعي فيها ماشيتهم، وذلك ليتاح للرجل الأبيض امتلاك الأرض والماشية.

بدأت الثورة علي إثر قتل جنود الألمان لأحد رؤساء القبيلة لأنه تجرأ وطالب باسترداد أرضه، وسرعان ما امتدت نيران الغضب كل مكان، كانت النظرة الألمانية لأهالي الإقليم كما أعلنها الحاكم الألماني أن الحظر الرئيسي من الهيريرو يأتي من كثرة عددهم وأن هذا سيبقي التهديد الحقيقي للمستوطنين البيض، لذلك فإن الشفقة بالأهالي هي في ذاتها قسوة تجاه البيض، وأن المستوطن الألماني الذي يساعد في تقليل عدد الهيريرو يقدم خدمة عامة، فأصدر أمراً بإبادة كل هيريرو سواء من كان معه سلاح أو من لم يكن، وسواء كانت لديه ماشية أو لم تكن.

كان أمر القائد الألماني «لا يلقي رجل ولا امرأة ولا طفل ولا رضيع أي رحمة، اختل كل واحد منهم ولا تقبض علي أسير، إنني أريد أن أتأكد من أنه لن يحدث بعد ذلك قط ثورة من الهيريرو، يجب أن نبيدهم حتي لا تضجرنا الثورات في المستقبل، ونتيجة لهذا الأمر أطلق الجنود النار علي الأهالي بصرف النظر عمن هم، وبعضهم كانوا أناساً مسالمين لم يشتركوا في الانتفاضة وآخرون كانوا نساء أو رجالاً طاعنين في السن ولم يكونوا قد خرجوا من بيوتهم قط، كان الألمان يتبعون كل من يقابلونه ويطلقون عليه الرصاص أو يبقرونه، كانت الغالبية من الأهالي غير مسلحة لم يكونوا مقاتلين كانوا فقط يتخذون طريقهم ليذهبوا بعيداً مع ماشيتهم، وذكرت حادثة مرعبة للقسوة التي لاقاها الأهالي وهو أن جندياً من الألمان وجد طفلاً رضيعاً من الهيريرو لا يتجاوز تسعة أشهر فحمله الجندي وأتي به إلي معسكره، وتجمع الجنود حوله وأخذوا يقذفون الرضيع بينهم من جندي إلي آخر كما لو كان كرة، وبعد أن أخذ منهم التعب من هذا اللعب قذف أحدهم الرضيع في الهواء ثم تلقاه بسنك البندقية الذي اخترق جسده.

ماذا كان يستطيع الهيرير وأن يفعلوا ومعهم نساؤهم وأطفالهم وماشيتهم وهم يواجهون جنود الألمان المدججين بأسلحة متطورة، لم يكن أمامهم إلا أن يقتحموا بلا سلاح ولا ذخيرة خطوط الألمان المجهزة بالبنادق سريعة الطلقات التي سرعان ما أجهزت عليهم، مات من مات وفر من بقي إلي المناطق الجبلية النائية في أراض رملية بلا ماء فحكم عليهم بالموت، وتبعثروا بلا حول ولا قوة وقد تحطمت أطرافهم وخارت قواهم وصار بعضهم جثثاً هامدة، وحتي من استسلم منهم وهم في الرمق الأخير كان الجند يضربونهم بالسياط حتي الموت جزاء لهم علي مقاومتهم، ومن استطاع الهرب من يد الجنود الألمان أبادتهم الصحراء وهلكوا من الجوع والعطش.

أعلن الهيريرو الاستسلام بعد أن فقدوا أرضهم وقطعانهم وحريتهم وحياتهم العائلية وتمزقت وحدتهم القبلية، فاستدع الحاكم الألماني الزعماءالمستسلمين وأمر بإطلاق الرصاص عليهم ليكونوا عبرة لغيرهم من القبائل الأخري، ومن عاش بعد ذلك صار عبداً ولم يسمح لأي فرد منهم بالحصول علي أرض أو ماشية، ووزعوا علي مزارع المستوطنين البيض وأجبرت النساء أن يصرن محظيات للأوروبيين، نعم لقد تخلصوا من رعب التدمير المنظم ليدخلوا في رعب العبودية.

استمر القمع الألماني مدة 25 سنة حتي هزمت ألمانيا في الحرب العالمية الأولي 1914 ـ 1918 واستولت عصبة الأمم علي مستعمراتها فمنحت حكومة جنوب أفريقيا «كانت ذلك الوقت تتبع بريطانيا» حق إدارة الإقليم، وبعد الحرب العالمية الثانية رفضت الحكومة العنصرية لجنوب أفريقيا التخلي عنه وتسليمه إلي مجلس الوصاية التابع للأمم المتحدة الذي صار يشرف علي إقليم الانتداب بل تحدت المنظمة الدولية بمحاولة إدماجه في أراضيها.

أصبحت قضية إقليم جنوب غرب أفريقيا من أشهر القضايا التي تمثل عجز الأمم المتحدة عن تنفيذ قراراتها وقدرة حكومة جنوب أفريقيا علي تحديها، وتنقلت القضية بين محكمة العدل الدولية التي قررت عدم شرعية ضم الإقليم إلي جنوب أفريقيا وإلي الجمعية العمومية التي ألغت الانتداب ورفض جنوب أفريقيا الانسحاب منه.

مع تداول القضية في الأروقة الدولية اتضح للوطنيين أنه لا فائدة ترجي من الإجراءات الدولية، فقامت الحركة التحررية بزعامة منظمة سوابو «حزب منظمة شعوب جنوب غرب أفريقيا» الذي أعلن الكفاح المسلح ضد حكومة جنوب أفريقيا التي كانت سياستها العنصرية لا تقل في بطشها عن الحكم الألماني، وظلت الحركة الوطنية تواصل الكفاح المسلح حتي حصل الإقليم علي استقلاله عام 1990 واندحر الاستطيان العنصري وعادت الأرض إلي أحفاد شعب الهيريرو، فالأرض لابد أن تعود إلي أصحابها مهما طال الزمن.

0 التعليقات:

إرسال تعليق