شهيدات غزة الأحياء


الكاتبة الكبيرة عايدة العزب موسي تكتب: شهيدات غزة الأحياء
بلغ عدد شهيدات القصف الإسرائيلي علي غزة 104 مناضلات، وكل نساء غزة شهيدات مناضلات، المرأة التي فقدت الابن أو الزوج أو الأب أو الأخ مناضلة شهيدة، فمع قسوة ومرارة الموت والفراق أصبح يقع عليها عبء مسئولية مواصلة الرسالة وبقاء الأسرة بعد فقد العائل.

إن المرأة التي كرَّست حياتها لتلد وتربي وتعلم وهي تدرك تماماً أن وليدها أغلي شيء لديها ستقدمه يوماً قرباناً لبلدها ووقوداً لثورة تحرر وطنها هي مناضلة شهيدة، تقدم ضناها للاستشهاد دون انحياز لفصيل أو لسلطة، فبوصلتها هي فلسطين الوطن،
ولولا المرأة الفلسطينية لما استمرت قضية فلسطين حية، فالفلسطينية الولود هي امرأة مناضلة نذرت نفسها مع كل الظروف القاسية التي تعيشها سواء أكانت في المخيَّمات أو في الشتات، أو داخل الأرض المحتلة كلهن يجمعن علي أمر واحد وهو ضرورة إنجاب العدد الأكبر من الأبناء ليواصلوا مسيرة النضال من أجل الأرض المغتصبة.

كان قدر الحزن والمأساة علي وجه الأم الغزاوية علي شاشات الفضائيات تدمع العيون وتفطر القلوب، ولكنها لم تكن تبكي ولا تولول، كان صوتها المبحوح بالألم يقول فقط: لقد ضاع كل شيء الأهل والبيت، في حين ظهر الرجال يبكون وينتحبون لفقدهم الأعزاء، ولم يكن هذا ضعفاً من الرجال ولا تبلداً أو تحجر قلب من النساء وإنما، لأن المرأة الفلسطينية كانت معدة نفسها لهذا اليوم.

أكثر من ثلاثة أسابيع مدة القصف الصهيوني علي غزة كانت صور الفلسطينيات تملأ الشاشات، ووصل صوتهن إلي أسماع العالم غرباً وشرقاً شمالاً وجنوباً وتعاطف معهن البشر من كل أنحاء القارات ما عدا القادة والمسئولين الذين صموا الآذان، ذكرتني قوة المرأة الغزاوية بواقعة تاريخية أفريقية كانت بطلتها امرأة أفريقية عندما وجدت العجز والخنوع من زعماء قبائل بلادها حملت السلاح وأعلنت حرباً ضروساً تذكر الآن بفخر في تاريخ غانا الحديث.

الحادث وقع في غانا والبطلة هي «ياه اشنتيوا» إحدي بنات قبيلة الأشانتي التي صارت بطلة بين شعبها، واليوم تتداول سيرتها في شعر البطولة والأغاني وتسمي باسمها المدارس والسيدات الأفريقيات الأمريكيات، وحازت لقب البطلة رقم واحد من النساء في تاريخ أفريقيا في الاستفتاءالذي جري عن أهم الشخصيات التاريخية في القارة الأفريقية في القرن العشرين.

كانت غانا تسمي قبل الاستعمار مملكة الأشانتي، ولعبت هذه المملكة دوراً رائعاًفي حماية منطقتها من الطلائع الأولي للمستعمرين ببطولة شهدت لها كتابات القرب ونسجوا حولها الأساطير والحكايات، ففي خلال القرن 19 ناضلت مملكة الأشانتي بقوة ضدالمستعمرين البريطانيين وسببت لهم متاعب باستمرار مقاومتهم لسنوات طويلة، عندما رفضت الخضوع فخاضت سلسلة من الحروب القاسية اشتملت علي العديد من الانتصارات والانتكاسات امتدت من عام 1833 حتي عام 1900 حتي خضع الأشانتي بسبب تفوق أدوات الحرب البريطانية.

كان من أهم هذه الحروب وأشهرها عام 1844 عندما قطع الأشانتي رأس الحاكم البريطاني سير «شارلز مكارثي» بعد هزيمة قواته، وقال الأشانتي وقتها إن الرجل الأبيض أتي بمدافعه إلي الأدغال فوجد الأدغال أقوي من المدافع، بعدها ظلت بريطانيا تسيم الأشانتي كل صنوف القهر والإذلال حتي عام 1900 حين انفجر القتال من جديد بين الأشانتي والبريطانيين، وكان هذه المرة بقيادة امرأة هي «ياه اشنتيوا» التي قادت جيشاً من الرجال حاربت به المستعمر، وبهزيمتها انهارت مملكة الأشانتي وأصبحت أراضيهم محمية بريطانية حتي اشتعلت في مارس سنة 1957 وتولي رئاستها الزعيم الأفريقي الوطني «كوامي نكروما» الذي صار اسمه رمزاً للفكاك من التبعية والانسحاق اللذين عانت منهما الشعوب الأفريقية لعدة عقود.

كان سبب حرب 1900 اعتقال البريطانيين ملك الأشانتي «بربمه الأول» ونفيه إلي جزيرة سيشل مع ثلاثين من الزعماء البارزين والكبار وبينهم أمه وأبوه وأخوه، وفشلت جهود الأشانتي لإعادة ملكهم والزعماءالآخرين، وبينما كان الأشانتي مجتمعين لتدارس الأمر وهم في أشد حالات السخط والخوف من تحدي البريطانيين الذين كانوا يطلقون الرصاص علي كل من يعارضهم، كانت «ياه أشنتيوا» تجلس بينهم تتلفت يميناً ويساراً إلي زعماء الأشانتي، وغيرهم من الرجال، وعندما لم تجد أحداً يتحرك أو مستعداً للتحرك ضد البريطانيين قامت من كرسيها وقالت مخاطبة لهم: «كيف يمكن لشعب شجاع ومعتز بنفسه مثل الأشانتي أن يجلس هكذا ويتفرج في حين أن الرجل الأبيض قبض علي ملككم وزعمائكم ونفاهم إذا كنتم رؤساء الأشانتي تتصرفون كجبناء ولا تحاربون، فاخلعوا ثياب الأسود التي تلبسونها.. أيها الرجال انهضوا وقاوموا الرجل الأبيض الذي هدفه الوحيد في بلادنا هو أن يسرق وأن يدمر، ومن الخير لنا أن نموت مدافعين عن بلادنا بدلاً من أن نعيش عبيداً، إذا لم تستطيعوا يا رجال الأشانتي أن تتقدموا إلي الأمام فأنا ياه اشنتيوا مستعدة ومؤهلة نفسي لقيادتكم للحرب، وبهذا الخطاب أعلنت المناضلة الأفريقية الحرب وقادت جيش الأشانتي ضد البريطانيين، وكانت هذه الحرب الأخيرة بين الأشانتي البريطانيين بدأت في مارس 1900 وانتهت في مايو 1901، وعرفت فيما بعد باسم حرب «ياه اشنتيوا».

ورغم عدم معرفة المناضلة الأفريقية بالتدريب العسكري فإن جيشها استطاع أن يحقق عدداً من الانتصارات مثل محاصرة القلعة التي كانت القوات البريطانية قد سيطرت عليها مما تسبب في المجاعة والأمراض للإنجليز، وأثبت هذا التكتيك فاعليته بحيث إن البريطانيين تركوا الحامية بعد أن تكبدوا خسائر كبيرة، ولكن بنادق البريطانيين أبادتهم وكعقاب لـ«ياه اشنتيوا» فقد وضعت في سفينة أبحرت بها إلي جزر سيشل مع 15 زعيماً من الأشانتي لتلقي هناك الملك بربمه الأول وسائر رؤساء الأشانتي، وماتت هناك بعد عشرين سنة في عام 1921 لم تكن «ياه اشنتيوا» المرأة الوحيدة في تاريخ غانا أو في تاريخ أفريقيا في القرن التاسع عشر، وعلي عكس تقدير الغرب للشعب الأفريقي فإن المؤرخين البريطانيين يذكرون نساء الأشانتي بكل احترام ويصفونهن بأنهن كن من أحسن الدبلوماسيين والمفاوضين في القرن 19، ولكن «ياه اشنتيوا» وانتفاضتها تبقي أمراً خارقاً للعادة.

في مارس عام 2000 أعيد إحياء ذكري «ياه اشنتيوا» وصدرت عملة غانا الوطنية تحمل صورتها ونقل رفاتها إلي بلدها وشهد دفنها موكب جليل كجزء من احتفالات يوم تحرير غانا الذي يوافق 26 مارس 1957، وهو اليوم الذي تعتبره غانا يوم إلغاء العبودية في المستعمرات البريطانية، وكان يوافق مرور مائة عام علي انتفاضة «ياه اشنتيوا» ضد البريطانيين، وقد استمرت الاحتفالات ستة أشهر ولا يوجد شرف يستحق أن يعطي أكثر من أن يستمر الاحتفال بها طوال هذه المدة.

إن الشعوب الأفريقية تلملم الآن تاريخ نضالهم القديم ويحاولون أن يحيوا ذكري أبطال مقاومتهم الوطنية، ويكشفون خبايا ماضيهم المجهول إعلامياً، والمستعمرون أنفسهم يخلدون أسماء قادتهم الغزاة في كتب تاريخهم وأدبياتهم المنشورة وأسماءهؤلاء مسجلة ومحفورة علي حوائط كنائسهم، أليس من واجبنا نحن أيضاً أن نمجد رموزنا؟! ألا تستحق المرأة الفلسطينية «الجندي المعروف لا المجهول» أن يزين أحد ميادين غزة بنصب يرمز لصمودها ونضالها وتضحياتها.

0 التعليقات:

إرسال تعليق