فى زمن الفتنة


في زمن الفتنة
فهمي هويدي

لا يفاجئنا الاجتياح الإسرائيلي، بقدر ما يصدمنا التفسخ العربي الذي يستدرجنا إلي فتنة لا قبل لنا بها، والوهن الذي كشف عن تناقضات تجعل الحليم حيراناً.

(1)

هل يعقل مثلاً أن تنقض إسرائيل علي غزة لتسحقها، وفي ذات الوقت ينطلق القصف الإعلامي العربي العربي، حتي يقول أحد المعلقين الإسرائيليين (زفاي باريل في هاآرتس 29 ديسمبر) إن من يتابع الإعلام المصري يخيل إليه أن المعركة بين مصر وحماس، وليس بين إسرائيل وحماس. لقد فطن أبو مازن إلي هذه المفارقة، فاصدر قراره بوقف الحملات الإعلامية بين فتح وحماس، بعد خمسة أيام من التراشق العبثي،

الذي تبنت فيه بعض الأبواق في رام الله نفس مقولة السيدة تسيبي ليفني - وزير خارجية إسرائيل - وكوندوليزا رايس - الوزيرة الأمريكية - التي ما برحت تؤكد أن حماس هي المسئولة عما جري. قرار أبومازن كان عاقلاً، وإن جاء متأخراً خمسة أيام، وإن احتاج إلي تكملة تتمثل في وقف الحملات الأمنية أيضا وإطلاق أكثر من 600 معتقل لديه.

ما حدث في الساحة الفلسطينية يستحق أن يحتذي به في بعض الدول العربية الأخري، وبوجه أخص في مصر والسعودية. وأرجو في هذا الصدد أن نلاحظ أمرين، الأول أن الانقضاض الإسرائيلي الراهن وإن أعلن عَّرابوه أنه موجه ضد حماس، إلا أنه يستهدف فكرة المقاومة في أساسها. آية ذلك أن إسرائيل قبل أن تحاول قتل قادة حماس، حرصت علي أن تشيع أكبر قدر من الدمار والترويع بين سكان القطاع. ناهيك عن أنها قبل الحملة العسكرية واصلت حصارها الإجرامي لغزة، لتجويع أهلها وتركيعهم، وإقناعهم بأن في المقاومة مقتلهم وليس حلمهم أو عزتهم.

الأمر الثاني المهم أن مظاهرات الغضب التي خرجت في أنحاء العالم العربي والإسلامي تظل علامة صحة وعافية وأن تخللتها تجاوزات تفهم في سياق الانفعال والحماس الزائد. وحين أصاب الموقف المصري بعض رذاذ ذلك الانفعال، فإنه ينبغي أن يستقبل من جانب القاهرة -شأنها في ذلك شأن كل الكبار- بتفهم ورحابة صدر. علما بأنه يمكن تصويب التجاوزات بأسلوب مهذب ورصين يصوب ولا يصعد. ويحتوي ولا يشتبك. وللعلم فإن الانتقادات التي وجهت إلي الموقف المصري يتردد أكثرها في الصحف المصرية المستقلة والمعارضة، لكنها تقابل بصبر مقدَّر.

ومن الأمور التي تلفت النظر في هذا السياق، أن نقد الموقف أو السياسة من جانب بعض المتظاهرين في الخارج، اعتبره البعض إساءة إلي مصر. وهو أمر يستحق إعادة النظر لكي يعطي حجمه الطبيعي. إذ لا ينبغي أن يختزل الوطن في قرار أو أشخاص بذواتهم، لأن مصر الباقية أكبر من كل ذلك. والذين يطوفون بأرجاء العالم العربي ويحتكون بالمشاعر العربية في كل مكان، يعون هذه الحقيقة جيدا. وكما أن هناك في مصر من ينتقد أوضاعًا بذاتها في البلد، في حين لا يتردد في أن يفدي البلد بحياته، فإن نفس الشئ حاصل في العالم العربي، حيث يقف محبو مصر والغيورون عليها في مقدمة ناقدي بعض أوضاعها، منطلقين في ذلك من أملهم في أن تستعيد عافيتها ودورها في تجسيد حلم الوطنيين العرب، الذين يستشعرون اليتم في غيابها.

إن السياسة الأمريكية في عهد الرئيس جورج بوش لقيت من النقد والتجريح ما لم يحدث في أي مرحلة اخري، وبوش شخصيًا تعرض للضرب بالحذاء في بغداد، ولم يقل أحد أن شيئًا من ذلك إهانة للولايات المتحدة، بل إن كثيرًا من المثقفين الأمريكيين اعتبروا ممارسات بوش أكبر إساءة لأمريكا - وما حدث مع بوش يسري بذات القدر مع نيكولا ساركوزي في فرنسا وجوردن براون في إنجلترا وغيرهما من زعماء الدول الديمقراطية، التي تعتبر الإهانة الحقيقية أن يختزل الوطن في شخص أو سياسة بعينها.

(2)

خذ أيضًا ذلك الفصام المدهش الذي يعيش في ظله العالم العربي الآن. فالجماهير العربية تقف كلها الآن في صف الغضب والنقمة علي إسرائيل وما ترتكبه من جرائم يومية. بينما الأغلبية الساحقة في القمم العربية تعيش في واد آخر، يخيم عليه الهدوء والدعة، الأمر الذي يعطي انطباعًا قويًا بأن المسافة شاسعة للغاية بين الجسم والرأس في العالم العربي، وأن التحام الاثنين بات ضرورة ملحة، حتي لا يبدو أحدهما غريبًا عن الآخر.

لقد سئلت أكثر من مرة في الفترة الأخيرة، لماذا لم يؤد الغضب العارم الذي يجتاح العالم العربي إلي تحريك السكون في بحر العرب الراكد. وكان ردي من شقين، أولهما أنغضب الشارع العربي والأصوات العالية التي تتردد فيه، اخترقت ذلك السكون، فأوصلت صوت الشارع الي مسامع القادة العرب، كما أنه كان ولا يزال لذلك الصوت صداه في العالم الإسلامي، فضلا عن العالم الخارجي. والصور التي نشاهدها علي شاشات التلفزيون صباح مساء - شكرا لقناة الجزيرة- دالة علي أن صوت الغضب العربي لم يذهب سدي، وأن هناك من يتسلم الرسالة فينتبه وينتفض متضامنًا مع شعب غزة الصابر والصامد.

ولئن قيل أن الغضب لم يغير شيئا في المواقف العربية المعلنة - فإن هذه الملحوظة تبدو صائبة تمامًا، ولكنها تكشف عن حقيقة أخري يتعين الانتباه إليها، تشكل الشق الثاني في إجابتي عن السؤال سابق الذكر. هذه الحقيقة تتمثل في أن المجتمعات العربية ما زالت أضعف من أن تؤثر في القرارات السياسية التي تتعلق بمصيرها. ان شئت فقل إنها باتت عالية الصوت وقليلة الفاعلية. فهي تُحدث ضجيجًا ولا تغير واقعًا. صحيح أن ذلك الضجيج يختزن في أعماق الإدراك العربي، لكن ذلك المخزون قد يستغرق وقتًا طويلاً لكي يتحول من فكر إلي فعل. وهذه الثغرة لا سبيل إلي علاجها إلا من خلال الحل الديمقراطي الذي يفتح الأبواب لتقوية المجتمع بما يجعله شريكًا في القرار وقوة ضغط حقيقية تعلق عليها آمال الإصلاح والتغيير، ذلك أن المناخ الديمقراطي الذي يفتح الأبواب واسعة لتنامي دور القوي السياسية والمؤسسات المدنية والمنظمات الاهلية. يوفر للمجتمع تلقائيًا «العضلات» التي تمكنه من فرض إرادته، بحيث يصبح شريكًا لا تابعًا وفاعلاً لا خانعًا.

(3)

خذ كذلك ما جري حين أراد العرب أن يتواصلوا فيما بينهم لاتخاذ موقف إزاء المذبحة الإسرائيلية، فأدركوا أنه لا سبيل الي تحقيق ذلك إلا إذا تمت الاستعانة «بصديق» من غير العرب. في الوقت ذاته اكتشفنا نحن «المشاهدون» العرب أن الأطراف الفاعلة التي تتحرك علي المسرح السياسي العربي، كلها من غير العرب. إذ فوجئنا حين وقعت الواقعة أن ثمة فراغًا عربيًا هائلاً، وأن اللاعبين الحقيقيين في تلك الساحة الفارغة هم الجيران الأتراك والإيرانيون والإسرائيليون، إضافة إلي القوي الغربية بمختلف مسمياتها.

لقد دعا الأتراك لإصلاح ذات البين بين المتخاصمين العرب، وحمل الدعوة التي فوجئت بها أنقرة السيد أحمد أبوالغيط - وزير الخارجية المصري - الذي قدم إليها أفكارا للتعامل مع الأزمة الراهنة، التي لم تكن تركيا طرفًا فيها. وكان يمكن أن تنتقل هذه الأفكار مباشرة إلي دمشق وإلي قيادة المقاومة الفلسطينية، ولكن مصر وجدت نفسها أمام لحظة استثنائية لم تستطع فيها أن تخاطب تلك الأطراف العربية، فلجأت الي الوسيط التركي، الذي لا سابق خبرة له بالتناقضات العربية العربية، وانحصرت خبرته فيما حققه من نجاح في حل الصراعات التركية مع الجيران بمن فيهم سوريا والعراق وإيران.

إنني هنا أسجل المفارقة فقط، منبهًا إلي أنني لست ضد الوساطة التركية، لاقتناعي بأن الوسيط التركي سيكون أكثر نزاهة واستقامة من وسطاء آخرين أخفوا تحيزاتهم عن الأعين، فأفسدوا أكثر مما أصلحوا. ومن ثم أصبحوا جزءًا من المشكلة وليسوا جزءًا من الحل. لقد تمنيت أن تتم الوساطة التركية في ظروف أفضل، ومع ذلك ادعو إلي تشجعيها والتجاوب معها، لكن لا أعول عليها كثيرًا، لأن الأمور أشد تعقيدًا وتركيا حديثة الخبرة بالخرائط والصراعات العربية-العربية.

(4)

التناقضات ظهرت بصورة أشد وضوحًا حين طرحت فكرة عقد القمة العربية للبحث فيما يمكن أن يفعله القادة العرب في مواجهة المذبحة الإسرائيلية. ذلك أن صيغة المحاور ظهرت علي الفور في الأفق، ولاحت بوادرها أثناء اجتماع القمة الخليجية التي تمت في مسقط. ففي حين تحمس بعض القادة لانعقاد القمة العربية، فإن آخرين عارضوا الاقتراح. وفيما علمت من بعض من شاركوا الاجتماع فإن المؤيدين تطلعوا إلي أن يتوافق الزعماء العرب علي خطوات عملية في مواجهة العدوان، وتردد أن أحدهم راودته فكرة التلويح بسلاح النفط، من خلال اقتراح تخفيض إنتاجه أسوة بما جري في عام 1973، حيت ذهب الملك فيصل رحمه الله إلي أبعد، وقاد حملة وقف إنتاج النفط وتصديره إلي الدول الغربية، تعبيرًا عن التضامن مع الرئيس أنور السادات.

الذين عارضوا الاقتراح انتقدوا رفض استمرار التهدئة، وحملوا حركة حماس بالمسئولية عما جري. وذهب أحدهم إلي أنها وحزب الله يتحركان في إطار المشروع الإيراني. بل إن أحد وزراء الخارجية انفعل أثناء المناقشة ووصف المقاومين في حركة حماس بأنهم «شرذمة» لا تتوقف عن إثارة القلاقل في المنطقة.

فيما علمت أيضًا فإنه حين تصاعد الخلاف بين الطرفين، طرح اقتراح دعا إلي الاسترشاد برأي أحد الزعماء العرب في الموضوع. ورشحت شخصية خليجية من مؤيدي عقد القمة للقيام بالتشاور المطلوب. وحين تمت الاتصالات التمهيدية للقيام بالمهمة، فإن الرد جاء سلبياً، فلم يعقد اللقاء، وصرف النظر عن الاقتراح.

في تلك الأثناء كانت الدعوة قد أطلقت لعقد اجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب ولم يكن باعثًا علي التفاؤل في البداية أن يتحدد موعد الاجتماع بعد مضي أربعة أيام من وقع المذبحة (بدأت يوم السبت والاجتماع عقد يوم الأربعاء)- وكانت وجوه بعض الوزراء الخارجيين في ختام الاجتماع، وعلامات خيبة الأمل التي ظهرت عليها معبرة بشكل كاف عما دار في الجلسة المغلقة. ذلك أن الحوار الذي دار كان صورة مكبرة لما حدث في قمة مجلس التعاون الخليجي. ومن طريف ما حدث بعد الاجتماع أن أحد وزراء الخارجية العرب أجري اتصالاً هاتفيًا بإحدي القنوات الفضائية لكي يعلن علي شاشتها براءته من البيان الذي صدر باسم الوزراء.

أسوأ ما في البيان الذي خيب آمال الذين أحسنوا الظن بالاجتماع، خصوصًا في أعقاب الخطبة العصماء التي ألقاها السيد عمرو موسي في بدايته، أن وزراء الخارجية نفضوا أيديهم من المشكلة وأجهضوا فكرة اجتماع القمة العربية. وكانت وسيلتهم إلي ذلك أنهم قرروا الاحتكام إلي مجلس الأمن أولاً، وقالوا في بيانهم إنهم إذا فشلوا فإنهم سيتشاورون في مسألة القمة بعد ذلك. وهم أكثر العارفين بأن مهمتهم فاشلة، لأن الفيتو الأمريكي يتربص بإيقاف أي محاولة للتعبير المتوازن عن مظلومية الشعب الفلسطيني، وهو ما حدث بالفعل.

كانت النتيجة أن العرب عجزوا عن أن يخاطبوا بعضهم البعض فوسّطوا تركيا. وتنصلوا من عقد القمة العربية بإحالة الأمر إلي مجلس الامن. ثم راحوا يلومون المجلس لأنه تباطأ أو سّوف في اتخاذ القرار الذي يريدونه، في حين أن المجلس اقتدي بهم، ولم يكن موقفه أفضل من موقفهم هم.

0 التعليقات:

إرسال تعليق