أحمد المسلمانى يكتب: هيكل.. وقفة مع الأستاذ


أحمد المسلمانى يكتب: هيكل.. وقفة مع الأستاذ

تأملت طويلاً مشروع الكاتب الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل، كنت ألجأ إلى كتاباته ملتمسا الرأى كلما ضاقت المعلومة أو متقصَّيا المعلومة حين يختلط الرأى.. فوجدته - فى حالات عديدة - شاهداً حين يجب أن يكون قاضياً، وقاضياً حين يجب أن يكون شاهداً، وغائباً حين تتعقد القضايا وترتبك الأحكام وتتبدل مواقع الادعاء والاتهام!

■■

يرى المفكر الكبير د. جمال حمدان، فى أستاذنا الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، الصحفى الأول فى العالم.. ويراه جيلى أكبر من ذلك بكثير.. فهو يتجاوز الصحفى إلى ما هو أبعد وأوسع وأعمق.. وأبقى.

ولأنى واحد من ذلك الجيل الذى يرى فى الأستاذ هيكل ربما أكثر مما يراه فى نفسه، ويضعه فى مكانة.. ربما لم يبذُل هو الجهد الذى يضعه فيها، بقدر ما بذلنا نحن الحب لنبقيه عليها.

ولأنى واحد من جيل عاصر عدداً وفيراً من رؤساء التحرير الذين يتفاوتون فى الفساد ويتساوون فى الجهل.

ولأنى واحد من جيل عاصر مشهداً سياسياً مضطرباً يتصدره زحام من سياسيين عديمى الموهبة وآخرين حديثى الولادة.

ولأنى من جيل تجاوز الأيديولوجيا إلى المنطق، والصراخ إلى العلم والخطابة إلى المعرفة.. لأنى من ذلك كله فقد أذهلنى إلى حد الصدمة الحديث الأخير للأستاذ هيكل فى قناة «الجزيرة»، والذى نشرته «الدستور» و«الأسبوع» و«العربى».

■■

لقد فكرت فيما إذا كان مناسبا الرد على الأستاذ هيكل، وسط حملة عليه يقودها أناس قد أُملى عليهم، فكانوا لما تلقوا من أمر صاغرين.

ولكن حديث الأستاذ الذى اعتبره أضعف حديث أدلى به كاتب كبير فى شأن كبير.. لم يتركنى فى حيرتى طويلا، فقد كان احتمالى لحجم الأخطاء أضعف مما أحمل من مودة، وتحمّلى لصدمة الضعف أكبر مما أحمل من قوة الصبر.. أو فضائل التقدير.

السطور التالية هى فقط عناوين شارحة لبعض مما يسمح به المقال والمقام.

(١)

قال الأستاذ فى تفسير صمته الطويل فى التعليق على ما يجرى فى غزة: «عندما تصل الأحداث إلى هذه الدرجة من السخونة فإننى أفضل باستمرار النظرة على مجمل الحوادث».. وهذا قول غريب، فماذا يفيد التحليل بعد بلورة الحدث وانتظام الوقائع واكتمال المشهد.. إنها حكمة بأثر رجعى.. يتسنّى لصغار الصحفيين التحلى بها.. وأما مقام الأستاذ فكان الأجدر به أن يتحدث ويشرح وينصح فى اليوم لا فى بداية الأسبوع الثالث.

لقد أصبح الأستاذ كالآخرين.. صمت حين صمت الجميع، وتحدث حين تحدث الجميع!

(٢)

قال الأستاذ «إن قناة الجزيرة قد لعبت دورا كبيرا فى التعبئة».. وهو قول غير صحيح، ذلك أن الجزيرة التزمت المهنية والحياد، وسمحت لقادة إسرائيل بمثل ما سمحت لقادة حماس.. وجودا وحدودا.. وطبقت الجزيرة بدقة تامة شعارها «الرأى.. والرأى الآخر».. وهو شعار يقف على النقيض تماما من فكرة التعبئة.. لقد قال الأستاذ فى شأن «الجزيرة» ما لم تقله فى نفسها.

(٣)

قال الأستاذ عن أعضاء حركة حماس «جاء أناس تختلف أو تتفق معهم» ثم مضى يغازل حماس بمديح رقيق، ولم يلتفت الأستاذ إلى خطورة هذه العبارة «تتفق أو تختلف» واعتبرها جملة عرضية لا تهم فى التحليل.. رغم أن هذه هى الجملة المركزية فى التحليل.. هل تتفق مع حماس أم تختلف؟ وفيمَ الاتفاق وفيمَ الاختلاف؟.. وكعادة الأستاذ ترك أخطر القضايا إلى جاذبية الحكى وبلاغة السرد!

(٤)

قال الأستاذ عن تعقب أجهزة السلطة لحكومة حماس بعد وصولها الحكم إن «حماس قامت بإزاحة هذا الطابور الخامس وبدون عواطف.. وكان لديها حق شرعى» وهكذا وصف الأستاذ السلطة الفلسطينية قولا واحدا بأنها «طابور خامس» أى سلطة تجسس إسرائيلية.. أى أن السلطة فى التحليل الأخير هى جزء من جهاز الموساد، وهذه هى الترجمة السياسية لوصف «الطابور الخامس» وهو اتهام خطير لا دليل عليه، ثم شامل لم يستثن أحداً.. وهو فوق ذلك يؤسس للانقسام.. إنه بمثابة إعلان مبادئ للحرب الأهلية.. حماس تحارب الموساد!

(٥)

قال الأستاذ إن رغبة الرئيس بوش تمثلت فى أن يكون عام ٢٠٠٨ هو عام التسوية.. وأن الخطة الأمريكية التى كانت إسرائيل عنصرا فاعلا فيها تستهدف حلا دائما ينهى الصراع العربى الإسرائيلى.. وهو تحليل فى مجمله غير صحيح.

والكل يجمع أن حكم الرئيس بوش، الذى تأسس تحت حطام مركز التجارة العالمى وانتهى تحت حذاء منتصر الزيدى.. وبينهما حرب فى العراق وأخرى فى أفغانستان وثالثة فى وول ستريت.. لم يكن أبدا ليخطو بالقضية الفلسطينية خطوة واحدة.. فضلا عن أن يقوم بوش بحل شامل.. إن كلام الأستاذ يضئ وجه بوش ويحسن صورة واشنطن.. ويلقى كل التبعات على حماس!

(٦)

قال الأستاذ: «إننى أعرف أن إدارة بوش وافقت وشجعت». وقال: «فيما أعرف فقد ذهبت مجموعة من الدفاع والمخابرات الخارجية وأحاطت أوباما علماً» واستخدام الأستاذ عبارات «إننى أعرف».. «فيما أعرف» يوحى بأن الأستاذ قد اتصل بأى من الرئيسيين بوش أو أوباما أو قادة الإدارة الأمريكية.. ولكن الأستاذ لم يقل من أين يعرف.. لاسيما أن ما قاله الأستاذ لا جديد فيه على الإطلاق.. بل هو المنطق العام للأمور.. يمكن أن يصل إليه عامة المشاهدين والقراء!

(٧)

قال الأستاذ «الدول العربية التى تسمى معتدلة.. لا أعرف هى معتدلة فى ماذا؟».. وهى سخرية ليست فى محلها.. ذلك أن هذه الدول تعتمد الواقعية السياسية، التى تتوسط الحفاظ على الحقوق دون التورط فى خسائر جديدة.. والمدهش أن الأستاذ هيكل أنهى حواره ناصحا «علينا أن نجد طريقا ما بين المذلة والكبرياء لنسير فيه».. وكنت أفهم أن تكون هذه مواءمة السياسى لا طموحات المثقف.. ذلك أن المثقف لا يتوسط طريقين أحدهما مذلة.. وإنما يختار حتماً «طريق الكبرياء».

(٨)

دعا الأستاذ حزب الله ألا يتدخل فى المعركة، وقال: «إن دواعى النصرة والجهاد ليست مطلوبة»، وقال «إن تدخل حزب الله اليوم فيه خطأ.. ولا ينبغى أن ندفعه ولا ينبغى ابتزازه».. وهذا كلام رقيق ودافئ، ولكن الرقة هنا خارج السياق.. وذلك أن الشرعية الدينية والسياسية لحزب الله إنما تنهض على عقيدة «النصرة والجهاد».

إن الأستاذ إذ يصف الداعين لحزب الله بالاتساق مع مشروعه وعقيدته بالابتزاز.. إنما يقوم بإبطال حتمية النصرة وفريضة الجهاد، وهكذا يدعو الأستاذ حزب الله إلى عكس مبادئ حزب الله.. إلى ترك ما يؤمن إلى ما لا يؤمن.. وما يعتقد إلا ما لا يعتقد!.

(٩)

قال الأستاذ: «إن حماس لا تعرف حركة العالم بالقدر الكافى» وأن «حماس لم تستفد من التهدئة».. والأخطر هو قول الأستاذ: «كنت أتمنى ألا تطلق حماس صواريخها»..

وقد أذهلتنى هذه العبارات، ذلك أن الأستاذ طيلة حديثة كان يغازل حماس غزلاً صريحاً، ويلتمس لها كل الأعذار.. ويمنحها الدلال الكافى فى كل مواقع الحوار.. وقد مر على أخطر العبارات دون أن يتوقف أو يوقفه المحاور أو تلتفت القناة أو الصحف الناشرة.. إن حماس برأى الأستاذ لا تفهم فى السياسة الداخلية ولا الخارجية.. وقد أخطأت بإطلاق الصواريخ. وظنى أن هذا هو منطق إسرائيل، أن حماس حركة جاهلة، وأنها أخطأت فى إدارة الهدنة وعدم تجديدها.. وأن صواريخها هى سبب الحرب عليها.

كانت الأمانة تقتضى أن يكون الأستاذ صارماً وحاسماً فى شرح رأيه فى حماس وفى تعقيدات الصراع، ولكن الأستاذ عاد إلى شعر الغزل من جديد ليقول: «إن حماس تعرضت لأكثر مما هو لازم»، إن الأستاذ لم يقل ما هو اللازم وما هو الأكثر من اللازم.. والشاهد عندى أن الأستاذ لا رأى له فى حماس.. وأنه ليس عميقاً فى شأن الخريطة الفلسطينية الجديدة بما يكفى.. وأننا إزاء احتمالين.. إما أنه لا يعرف.. أو أنه لا يريد.. وفى كل ضعف.

(١٠)

قال الأستاذ «يجرحنى الاعتقاد عن دور مصر فى حصار حماس».. وكلمة الجراح فى كلام الأستاذ غريبة، وهى أقرب إلى قول شاعر، وكان الأنسب أن يقول الأستاذ اعتقاده.. هل تشارك مصر فى حصار حماس؟ وإذا كانت إجابته نعم.. ففيم زيارات الوزيرين عمر سليمان وأحمد أبوالغيط إلى الأراضى المحتلة؟ وفيم زيارات خالد مشعل وقادة حماس إلى القاهرة؟ وفيمَ مجمل لقاءات المسؤولين المصريين مع حماس، والتى تزيد أحياناً عن المرة فى اليوم الواحد.

وفيمَ اتهام صحف وأجهزة العالم لمصر بتهريب السلاح وغض النظر عن الأنفاق؟..

.. إذا كان وصف الأستاذ لذلك بالحصار.. فما يكون الحوار؟

(١١)

قال الأستاذ: «مصر موجودة فى الصراع العربى الإسرائيلى للدفاع عن مصر فى حد ذاتها، حتى بدون انتماء عربى». وهذا قول يخالف حقائق التاريخ.. ذلك أن ثورة ١٩١٩ قد تنبهت لخطورة الحركة الصهيونية فى نهاية العشرينيات، وسجل تراث الوفد والزعيم مصطفى النحاس رغبة قديمة فى خوض القتال ضد الصهيونية، أثناء ثورة ١٩٣٦ وبعدها.. وبعد عقد من الزمان خاضت مصر حرب ١٩٤٨ فى فلسطين.. ولم يكن الدافع وراء كل ذلك وما بعده ما يقوله الأستاذ من أنه دفاع عن مصر فى حد ذاتها.

إن تحليل الأستاذ هنا ليس ضعيفاً وخاطئاً فحسب، ولكنه يحرم مصر من المكانة الأخلاقية التى احتلتها بفضل دفاعها عن القضية الفلسطينية.

(١٢)

قال الأستاذ: «أنت فى مصر على حدودك إسرائيل فيها ٢٠٠ قنبلة نووية».. «وهذا يفرض عليك إما أن تخضع لابتزاز القوة فتصبح فى أزمة.. أو تطلب حماية أمريكية أو أن تملك سلاحاً نووياً.. والظروف صعبة جداً، والتكلفة غير معقولة وأنت وقعت على الاتفاقية».. ثم يمضى الأستاذ هيكل بعد أن حطم باب الأمل وأغلق باب السياسة: «عندما تكون إلى جانب دولة نووية وأخرى لا تملك هذا السلاح.. هذا لا يحتاج لأن ترسل إسرائيل أكثر من سكرتير ثالث فى سفارتها لإبلاغ ما تشاء لوزير الخارجية»، هكذا فى حالة تيئيس شاملة.. أطفأ الأستاذ كل الأنوار.. إما الانبطاح أو العمالة.. ولا سبيل غير الاستسلام أمام سكرتير ثالث من سفارة إسرائيل.. وحيث إننا لا نملك لعقود قادمة أى قنبلة نووية.. فلا حل غير الانبطاح أو العمالة!.

(١٣)

قال الأستاذ نقلاً عن ساركوزى نقلاً عن «هاآرتس» نقلاً عن الموساد: «إن الرئيس مبارك قال إنه لا يجب أن تنتصر حماس».. هكذا الأستاذ الذى علمنا التحقق من المصادر.. ينقل أخطر اتهام من صحيفة إسرائيلية ليعيد ويزيد فيها.. كأنه وقع على سبق صحفى نادر.

إن اللحظة التى كانت الوطنية المصرية فيها تحتاج حماية الأستاذ.. خذلها الأستاذ لينضم إلى صحافة صفراء وقنوات صفراء، نقلت الصراع مع إسرائيل إلى الصراع مع مصر.. وحوّلت اتجاه الحجارة من رشق جنود إسرائيل إلى رشق نوافذ القاهرة.

(١٤)

قال الأستاذ رداً على سؤال الجزيرة: هل تطرد مصر السفير الإسرائيلى؟ أم تجمد خطوات التطبيع أم توقف تصدير الغاز؟.. قال: «ولا أى حاجة من ذلك».. ثم عاد ليقول «صدِّر كما تشاء».. و«حتى فيما يخصّ صفقة الغاز فإن فيها مصالح ضيقة».. وهكذا لم يدن الأستاذ بوضوح تصدير الغاز لإسرائيل، بل قال «صدِّر كما تشاء».. وقال على مطالب الحركة الوطنية المصرية «ولا أى حاجة من ذلك» ثم ذهب الأستاذ يحدثنا عن أن كل ما يرجوه هو «الاتساق بين مصر السياسية ومصر التاريخية».. أى أن الأستاذ ترك السياسة، حين كان يجب أن يتحدث فى السياسة، واستدعى نظريات التاريخ حين كان يجب أن يستدعى حقائق المشهد.

(١٥)

وبعد.. كانت هذه معالم وقفة قصيرة مع الأستاذ.. فى حديث رأته بعض الصحف المصرية «أخطر حديث للأستاذ» ورأيته ـ فى اجتهادى المتواضع ـ أضعف حديث للأستاذ.. وهنا تبقى المعضلة الأكبر.. ذلك أن الأستاذ الذى كان يجالس ويناقش كبار رجال الفكر والسياسة ذات يوم، بات يجالس عدداً من المعجبين والحواريين الذين لا يملكون إزاء سحر الأستاذ غير آيات التسبيح.

وظنّى أن أغلب أخطاء الأستاذ إنما جاءت من رجال حول الأستاذ.. يهتفون إذا أشار، ويخشعون إذا تحدث، ويستشهدون إذا أمر.

فى السابق صنع المفكرون مكانة الأستاذ، وفى الحاضر يكسر المريدون ما صنعه المفكرون.

0 التعليقات:

إرسال تعليق