أزمة معابر المعرض!


عزت القمحاوى
'رضينا بالهم والهم بنا لم يرض'.
هذا المثل المصري ينطبق على علاقتنا معشر القراء بمعرض القاهرة الدولي للكتاب طوال أربعين عاماً، حيث تكرار تأخر وصول الكتب إلى ما بعد الافتتاح، وحواديت الرقابة التي لا يمكن للشيطان ذاته أن يعرف الجهات التي أمرت بالمصادرة ولا حجم الظاهرة. وعندما يتسامح محبو الكتب مع كل هذا ويحملون أنفسهم إلى مركز المعارض الفسيح، يشعرون بأنهم في سيرك حقيقي، أو سوق شعبية، تختلف عن الأسواق بوجود الكتب إلى جوار بائعي البالونات والشاورما والمحارم الورقية وملابس البحر وكاسيتات واسطوانات الدعاة الجدد، جنباً إلى جنب مع حاملي 'بطاريات التنوير' على منصات يجري الكلام من فوقها موجة وراء موجة، عاماً بعد آخر، من دون الشعور بأثر للنور في آخر المعرض أو النفق!
ومع كل هذا، كان ذلك الكرنفال مناسبة للقاء بين الكتاب العرب، قليلهم من المدعوين وكثيرهم ممن يأتون خصيصاً إلى المعرض على نفقتهم أو يوقتون رحلاتهم السياحية في وقت إقامته ليعبروا منه ليوم أو يومين.
هذا المعرض الضخم والفارغ، ككثير من الأشياء والكيانات المصرية، كان أهم ما فيه المقهى الذي يقدم المشروبات الساخنة والشيشة، ويمثل استراحة ومكاناً للتجمع واللقاء.

' ' '

هذا العام فقد المعرض نصف قيمته بفقدانه المقهى، وفي هذا قولان، إذ يقول موظفو هيئة الكتاب المنظمة إنها مسألة إدارية وتعذر في الاتفاق مع متعهد للمقهى، بينما يبدو الأمر أغرب من هذا، حيث الهواجس الأمنية، والخوف من التجمعات في وقت لم تزل فيه تفاعلات الحرب على غزة مستمرة، ومن الخطر اختلاط الغضب المصري المقيم بالغضب العربي الزائر!
وتسبب هذا الخوف في اعتداء ثان على تقاليد المعرض بافتتاح متأخر يوم الجمعة، في الثانية ظهراً لتفادي مظاهرات ما بعد الصلاة.
أما البوابات والمعابر فهي الأزمة الحقيقية، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الأمن.
تفتيش ذاتي للرواد وتطفل على الأوراق الخاصة ومشاجرات مع المثقفين، خلقت رهاب الزيارة، لدى كثير من محبي الكتب، الذين يجدون في المعرض فرصة لاقتناء كتب الدور الزائرة، التي لم يزل الوصول إلى كتبها صعباً على مدار العام، على الرغم من كل ما قيل تحت خيمة الجامعة العربية، وتحت خيام معارض الكتب العربية في هذه العاصمة أو تلك عن معاملة أكثر إنسانية للكتاب من سلطات الجمارك، لكن ظلت الأفكار على المعابر العربية تتعذب عذاب الفلسطيني على معابر إسرائيل. ولم تزل المعارض، على الرغم من كل سلبياتها، فرصة لعبور الكتب.

' ' '

قبل خسارة الناشرين الذين لم يبيعوا، والقراء الذين لم يشتروا، تأتي خسارة وزير الثقافة الطامح إلى قيادة ثقافة وآثار العالم، ويتصور أن الطريق إلى اليونسكو يبدأ من القاهرة، ويرى في المعرض فرصة لتمجيد إنجازاته الرهيبة، عبر مناسبة أهدته محور ندوات (خمسون عاماً على إنشاء وزارة الثقافة المصرية).
خمسون عاماً ليست شيئاً، إذا كان وزير واحد يحتكر عشريناً منها. هل لهذا التجميد علاقة بالحياة أم بالموت؟
لا أحد مجبرا على الإجابة، ويستطيع المثقف النزيه أن يغلق عينيه عن مشكلات الرقابة المتصاعدة والانصياع لكل جهات الحجر على الرأي، ولن يضيره أن يتغاضى عن محرقة راح ضحيتها نصف الحركة المسرحية المصرية، وعن تساقط مساعدي الوزير المزمن في أيدي العدالة، وعن الثروة الشخصية للوزير، وعن سعر لوحاته قبل وبعد الاستوزار. بعد التعالي الواجب فوق هذه التفاهات لا يعود هناك وزر أو غضاضة أو حياء في كيل المديح لوزير رسخ عشرين عاماً على قلب الثقافة المصرية، وبنى عشرات المتاحف التي لا يدخلها أحد، وأقام عشرات المهرجانات التي لا تفيد أحداً، وأتى بمهرجان المسرح التجريبي، بينما بنى الوزراء الأوائل المسارح وشجعوا العروض الكلاسيكية البالية!
والحقيقة أن مرور خمسين عاماً على الوزارة المصرية يصلح مناسبة للنظر فيما فعله تأميم الأفكار، وتكفي مقارنة حيوية النصف الأول من القرن العشرين في الثقافة المصرية، وموات النصف الثاني، لكي نرى أثر الزواج المحرم بين السلطة والمثقف الذي لم يذق لذة العيش في حظيرة السلطة المصرية حتى تلقفته حظائر الخليج الأكثر بذخاً.
خمسون عاماً كان أكبر أهدافها تحويل سؤال المثقف عن موقع رأسه بين الرؤوس، إلى البحث عن موقع لمؤخرته على كرسي في جلسة افتتاح ندوة أو معرض، وحتى هذه حرم منها كبار المفكرين، إذ جرى افتتاح المعرض من قبل رئيس الوزراء المصري بدلاً من الرئيس.
وهكذا تحققت اشتراكية الثقافة، وتساوى المفكرون مع مستهلكي الأفكار، إذ حيل بينهم وبين متعة الاختيار لحفل الافتتاح، مثلما حيل بين القراء والكتب على مدار أيام المعرض!

0 التعليقات:

إرسال تعليق