مُذلون مُهانون.. مسروقون!


عزت القمحاوى
لا أقوى على مغادرة مغتربى المصرى إلى مغترب جديد، من دون صحبة جيدة أو سند من العظماء الكبار: ماركيز، بورخيس، فلوبير، أو دستويفسكى.
حتى الغربة لا نستطيع أن نغيرها بغربة جديدة إلا مع رفقة تعيننا على قطع المسافات. وقد كان الدور على دستويفسكى هذه المرة، وكنت غارقاً مع بطله الإشكالى «اليوشا» فى رواية «مذلون مهانون» عندما فتحت الكمبيوتر لإطلالة ضرورية على أرض غربتى الأصلية، ورأيت اسم نبيل البوشى المتهم فى قضية توظيف الأموال الجديدة. لم أدقق جيداً على البنط الصغير للخبر، البوشى أم اليوشى؟! الاسم الذى أقرؤه للمرة الأولى يبدو غير مصرى، تصورت والله أنه قفز من صفحات الرواية إلى شاشة الكمبيوتر، اليوشى ليس بعيداً عن أليوشا الاسم الذى يفضله دستويفسكى ولا تخلو منه رواية من رواياته. وحتى بعد تدقيق الاسم لم أتأكد بعد من مصريته، وهذا ليس مهماً على أية حال، فالمهم هو أن شيئاً ما وقع (لن نجازف بتسميته جريمة وإن سميناه علينا أن نحدد المتهم بدقة). هى مجرد قضية جديدة، وعلينا كمصريين أن نتذكر واحدة من أهم فضائلنا، وهى القدرة على الضحك والتنكيت حتى مع جرائم القتل والنصب، كى لا نلحق بالضحايا كمداً. ولابد أن القراء يذكرون، من بين النكات التى انتشرت بعد إعلان اتهام هشام طلعت مصطفى فى قضية سوزان تميم، نكتة تقول إن المطربة المقتولة عندما صعدت وجدت الأميرة ديانا والمطربة ذكرى فى انتظارها، وبادرتاها باللوم: «مش قلنا بلاش رجال أعمال مصريين»؟! غداً إذا ما عاد نبيل البوشى المتهم فى قضية التوظيف الجديدة وقابل المتهمين بقتل سوزان فى الحبس هل يعاتبانه: مش قلنا بلاش دبى؟! دبى مقبرة رجال الأعمال اللى مش ولابد (أعنى الأعمال لا الرجال) فهل هى مصادفة، أم أن هذا التكرار يرسم خريطة المال اللعوب بين القاهرة والإمارة الخليجية؟ قد لا يكون هذا هو السؤال المهم الآن، لكن الربط بين جرائم القتل وجرائم النصب فى البورصة والتوظيف ليس فيه أى اعتساف؛ فالخسارات المفاجئة تقود إلى القتل فى حالات كثيرة. ونحن لم ننس بعد صدمة المهندس المضحوك عليه فى البورصة، الذى قتل أسرته لينقذها من فقر فرضه عليه النصابون. الذى يهمنا الآن، هو السؤال عن سر التكرار البليد لقضايا النصب، التى تنتهى عادة باتهام الضحايا بالطمع! الطمع، هو التهمة التى أطلقها محامى رجل الأعمال الهارب من رواية عن روسيا القيصرية إلى مصر الجمهورية، وهى ذات التهمة التى أطلقت فى أزمة توظيف مدينة نصر، وقد لاقت التهمة استحسان الإعلام: حقاً، لا نصاب بدون طماع! لم نعرف كيف انتهت أزمة نصاب مدينة نصر، ولم تدع لنا الكوارث المتلاحقة فرصة لنتذكرها، حتى جاءنا البوشى. لكننا على الأقل نتذكر أن الأول كان مدعوماً بابن وزير، والثانى مدعوم بوزير، أو أن الوزير دعمه قبل أن نستوزره. وإذا كانت الحكومة لم تستح وتصدر توضيحاً لتبرئة ابن الوزير أو إدانته ومعاقبة أبيه، فمن غير المنتظر أن تهتم بتحديد صلة وزير الزراعة بالبوشى. ومن غير المتوقع أن تستحى من استمرار شركات التوظيف فى ممارسة أنشطتها وكوارثها بكل هذا الاطمئنان. ولن تعترف أنها المسؤولة عن استمرار الظاهرة، بسبب طردها الأموال الصغيرة من السوق، وهو ما تناولته فى مقال سابق هنا، حيث لا يوجد مجال آمن لاستثمار أموال التكنوقراط، سواء جمعوها من الداخل أو الخارج، وأموال الشباب قليلى الخبرة العائدين من غربة قاسية. ما لا تستبيحه الحكومة من أموال هؤلاء بالبلطجة (بزعم المصلحة العامة) أو بالتعويق والإرغام على الخسارة، لا يهرب من رمضائها إلا إلى نار التوظيف. والمجد للقياصرة على حجر السلطة أو فى السجون المكيفة، والموت للمذلين المخدوعين والطماعين فى عش للمجرمين يدعى وطن أحياناً.

0 التعليقات:

إرسال تعليق