ما بعد غزة

هبة رؤوف عزت
ربّ ضارة نافعة، صحيح أن الضرر كان بالغاً والابتلاء كان شديداً لكن الله له من كل أمر حكمة في ترتيب الكون ونواميس وسنن لا تتخلف، وقد حصدنا في غزة ما زرعناه كأمة من قرون لكن علينا أن نبدأ الغرس ونضع الفسائل في التربة الطاهرة ولا نيأس أبداً حتي لو أراد العدو أن يقنعنا أن لا أمل وأن توازنات القوة تضمن له تمرير جرائمه دون محاسبة أو ردع.

منذ عدة أيام كان لي شرف الجلوس علي منصة مع رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فقد عقد اتحاد الأطباء العرب مؤتمرا صحفياً لبعض الأطباء المصريين الذين ذهبوا لغزة أثناء القصف الوحشي،
وقرروا أن يدخلوها من معبر رفح رغم المخاطر والقنابل الفسفورية وألا ينتظروا الهدنة أو وقف إطلاق النار، وطلب مني المنظمون وهم الاتحاد وموقع متحف هولوكوست فلسطين وهو موقع علي الإنترنت لتوثيق الجرائم الإسرائيلية كم فعل اليهود في توثيق الإبادة النازية وابتزوا العالم بأكثر مما يستحقون كضحايا وقتلي لا خلاف علي حقوقهم القانونية والدولية والإنسانية والمعنوية، لكنهم حولوها لتجارة رابحة أو «صناعة الهولوكوست» كما أسماها «نورمان فنكلشتاين» الأستاذ الجامعي اليهودي الأمريكي الذي يعلن بوضوح في كل كتاب وفي كل مناسبة أن الكيان الصهيوني مرفوض وهو الذي فقد أفراد أسرته في الهولوكوست لكن رؤيته لما فعلته وكالة الدفاع عن حقوق ضحايا الهولوكوست وما تفعله إسرائيل بالفلسطينيين جعلته في صف الحق والعدل.

رأست الجلسة والتي بدأت بثلاثة من الأطباء تحدثوا عما شاهدوه وعرضوا صورا لما أسموه مشهد الجرحي الذين جاءوا للمستشفيات، فكان تعليقي أنهم ليسوا جرحي بل أشلاء بشرية حية، فمنهم من أكلت القنابل الفسفورية ساقيه ومنهم من أكلت بطنه وتوالت الصور الواحدة تلو الأخري فشعرت أني سيغُشي عليَّ من الصور فما بال من عاش المذبحة؟ وما بال من عالج وطبب؟! كانت صورة فتاة محترقة وقد فقدت ساقيها وبدت بقايا عظام الفخذ فقط وتخشب جسدها الصغير المتفحم هي القاصمة، لم أستطع الاحتمال فقمت وطلبت من طبيب من المشاركين أن يرأس الجلسة وغادرت، متوجهة لمكتب أمين عام الاتحاد وسألته عن دور الاتحاد في توثيق الجرائم فقال إن دورهم هو إرسال الأطباء وإن التوثيق هي مهمة الصحفيين، لكنني أعلم أن الأطباء دخلوا بعد مفاوضات شاقة بدعم من المخابرات المصرية مع الطرف الإسرائيلي في حين منع العدو دخول الصحفيين! وهو ما يلقي بمهمة صعبة علي الطبيب الذي يدخل في أي منطقة نزاع أن يعالج ويوثق في الوقت نفسه. هذه الصور التي شاهدتها التقطها الأطباء بكاميرات الموبايل وهي باهتة ودرجة نقاوتها لا تسمح للصحفيين بالاستفادة منها كما ينبغي، وقد تمت دعوة كل المراسلين الأجانب في القاهرة فلم يحضر إلا عدد قليل جداً، فهم لا يتحمسون لتغطية مثل هكذا أخبار ولو فعلوا فهم يعلمون سقف النشر في الموضوع، ومن كان ينشر من الجرائد الأجنبية أثناء الحرب لن ينشر بعد توقفها لأسباب معلومة ومفهومة من سيطرة الصهاينة وأعوانهم علي آلة الإعلام الغربية، فإذا كان أصدقاء مبارك من رؤساء الدول والحكومات قد جاءوا لشرم الشيخ ليتحدثوا عن معبر ومنع السلاح عن حماس، ثم ذهبوا لإسرائيل ليدعموا حقها في الأمن، فإن الإعلام الغربي لن يكون أكثر شجاعة.

نحن في حاجة لجمع كل ما تيسر من صور توثق للجرائم، وفي حاجة لتوثيق أسمائهم وهواياتهم وصور رسمية لأوراقهم الشخصية، وفي حاجة لأخذ شهادة من نجا منهم وعمل أفلام تسجيلية تروي ما حدث ونشرها علي نطاق واسع، وفي حاجة للدأب في متابعة قضايا دولية لمحاسبة مجرمي الحرب الصهاينة علي ما فعلوا، ونحن صبرنا قليل ولا نواصل وبعد فترة ننسي.

فليكن شعار كل من يعمل في هذا المجال «لن ننسي ولن نغفر»..فدماء الأطفال الذين أطلق جنود الصهاينة الرصاص عليهم من مسافات قريبة والأم التي احتضنت أبناءها فتفحمت جثثهم وانكمشت حتي صارت في حجم جسد طفل والشيوخ الذين ماتوا وهم ينزفون بعد قصف سيارات الإسعاف، والمرضي المصابون جرحاً فوق جرح لقصف المستشفيات كلهم لهم في أعناقنا حق، ولن ننسي ولن نغفر.

إن رهان إسرائيل هو علي الذاكرة، تضخيم ذاكرتها ومحو ذاكرتنا، رفع صوتها وإسكات أصواتنا، الدفاع عن أسراها وذبح أطفالنا ، وتدمير وتجريف الأرض.

صورة من بين صور عديدة استوقفتني علي الإنترنت: صورة امرأة فلسطينية تحتضن شجرتها وخلفها جرافة إسرائيلية، تلك الجرافة لا تريد فقط إبادة الشعب، بل تغيير معالم الأرض وهو وما رواه محمود درويش حين تحدث عن صدمته الكبري وأزمته الكبري في حياته ملخصاً وجع الفلسطيني حين عاد بعد عام من فرار أسرته من أمام وحشية العصابات الصهيونية ليبحث عن دراه ومدرسته وشجرته فلم يجد شيئاً، وفقد للأبد طفولته وبقي بداخله هذا الطفل السجين في ظلمة الوحشة يبحث عن ذاته..طول عمره.

إحياء الذاكرة وإعطاء صوت للضحايا والمطالبة بحقوق القتلي هو مهمة الجميع، وما بعد غزة يجب أن يستمر.

جهود الشعوب هي الأبقي، فكل الساسة القواد لهم كراسيهم وجبال حلفائهم التي يحسبون أنها ستعصمهم من طوفان الغضب، أما نحن فعلينا مهام..حفظ الأوطان وحفظ الذاكرة ومواصلة زرع الفسائل ومواصلة رفع الصوت.

في المنتدي الاقتصادي الدولي قام أردوغان من جلسة مع بيريز «الذي لا يعرفه شيخ الأزهر وسلَّم عليه بيديه وهو مش واخد باله» وقال إنه لن يعود للمنتدي، لأن مدير الجلسة قاطعه، ونحن نحتفي بالمنتدي بحضور رسمي واسع، لكن منتدياتنا نحن الشعوب تعرف جيداً قضيتنا وتناصرنا، ففي أجندة المنتدي الاجتماعي العالمي الموازي في البرازيل والذي تعقده الحركات الاجتماعية المناهضة للرأسمالية المتوحشة والهيمنة الأمريكية من كل أنحاء العالم كانت غزة علي رأس القضايا ونشطت الحركات تجمع توقيعات مئات الآلاف علي عرائض دولية تطالب بمحاكمة مجرمي الصهاينة وصور ضحايا غزة حاضرة في القلوب..لسنا وحدنا فلدينا حلفاؤنا من الشعوب في كل مكان.

ما بعد غزة..طريق طويل..

طريق الصبر والمصابرة والرباط.

0 التعليقات:

إرسال تعليق