عمق «موقعة» دافوس بين أردوغان وبيريز



د. إبراهيم البيومى غانم يكتب:
كثير من أوهام «القوة والضعف» شارك في إزاحتها أردوغان وبيريز.. رئيس الوزراء التركي بصدقه وقوة منطقه والرئيس الصهيوني بكذبه وتهافته وتصوير الجاني بصورة الضحية

رئيس الحكومة التركية ظهر ممتلئاً بالثقة وقوة العزيمة مستشعراً ثقل الأمانة وكأن هموم العالم كله فوق رأسه.. وهذه الملامح نفتقدها تماماً في وجوه الحكام والمسئولين العرب الضاحكين في بلاهة رغم المصائب


أول الأوهام التي بددها أردوغان «وهم قوة الرواية الواحدة التي تحتكرها إسرائيل لوصف مجريات الصراع العربي الإسرائيلي وقال للعالم إن الحقيقة لها رواية أخري

ما حدث في دافوس مساء الخميس 29 يناير الماضي بين أردوغان وبيريز سيسجله التاريخ علي أنه «موقعة» بكل ما تحمل هذه الكلمة من معاني، صحيح أنها موقعة سياسية، ولكنها لا تقل في دلالاتها وأبعادها الاستراتيجية عن المواقع الحربية. خرج أردوغان من هذه الموقعة منتصراً بعد أن أزاح كثيراً من الأوهام التي ظلت مهيمنة علي الرأي العام العالمي«الأوروبي والأمريكي تحديداً»، وفضحت مواقف لكثير من الأنظمة العربية، بل ومواقف بعض الحركات الإسلامية من القضية الفلسطينية، وبرهنت علي أن غطرسة القوة العارية من الأخلاق هي كبيت العنكبوت في وهنه وهشاشته.

قال أردوغان ـ مراراً وتكراراً ـ في تعقيبه علي ما جري في دافوس إنه مؤتمن علي كرامة تركيا، ولن يسمح لكائن من كان أن يمسها بسوء لأنها دولة إقليمية كبري، وإنه مضي زمن النظر إليها كدولة تابعة. «أنا رئيس وزراء تركيا، ولست زعيم قبيلة». هذه هي نوعية الخطاب الذي يتحدث به أردوغان، وهذا هو الموقف الذي ألهب مشاعر الجماهير عبر العالم الإسلامي، ولدي أحرار العالم، ودفع عشرات الآلاف من الأتراك للخروج ليلاً رغم شدة البرد لاستقبال رئيس وزراء حكومتهم الذي انتخبوه بإرادتهم الحرة. وهذه هي المرة الأولي التي يخرج فيها الأتراك بعفوية لاستقبال أحد زعمائهم منذ ما يزيد علي أربعمائة سنة عندما توقفت الفتوحات العثمانية في قلب أوروبا.

كثير من أوهام «القوة والضعف» شارك في إزاحتها كل من أردوغان وبيريز. أردوغان بصدقه وقوة منطقه، وبيريز بكذبه وتهافته. كلام بيريز الذي حاول أن يبرر به عدوان الكيان الصهيوني علي غزة جاء بنفس الطريقة التقليدية التي أسستها الدعاية الصهيونية قبل أكثر من قرن من الزمان علي الأكاذيب وقلب الحقائق، وتزوير الواقع، وتصوير الذات الصهيونية الجانية بصورة الضحية، وتصوير المجني عليه «الفلسطيني» بصورة الجاني.

أردوغان ظهر في دافوس ممتلئاً بالثقة، مستعصماً بقوة الحق التي يؤمن بها، وقوة الوعي بهذا الحق، وقوة العزيمة علي الذود عن هذا الحق في حدود مسئوليته كرئيس حكومة منتخب بإرادة شعبية حرة. ظهر قوياً بيقظة ضميره، مستشعراً ثقل الأمانة التي يحمل عبء أدائها، متجهماً كعادته؛ وكأن هموم العالم كله فوق رأسه. هذه الملامح نفتقدها تماماً في وجوه الحكام والمسئولين العرب، ونجدهم علي الدوام مهما كانت المصائب التي يجرونها علينا، نراهم ضاحكين في بلاهة، مبتسمين في بلادة كلما وجدوا كاميرات الإعلام مسلطة علي طلعاتهم البهية !. عمرو موسي ظهر في الصورة يقهقه قبيل بدء الجلسة التي غادرها أردوغان احتجاجاً علي حرمانه من تفنيد مغالطات بيريز.

بيريز ظهر في مشهد دافوس مفلساً في منطقه، غارقاً في الشعور بغطرسة القوة. وبدا منعزلاً في ذات اللحظة عما حدث في العالم من تغيرات عميقة بفعل ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، هذه التغيرات التي جعلت من المستحيل الاستمرار في احتكار الحقيقة، أو إخفائها أو تزييفها. عزلة بيريز علي هذا النحو جعلته يقدم خطاباً تبريريا للعدوان الإجرامي علي غزة معتمداً نفس استراتيجية التضليل والخداع القديمة، والضرب علي عقدة الاضطهاد التي استخدمتها الصهيونية في وخز الضمير الأوروبي والأمريكي باستمرار. ظهر بيريز مطمئناً إلي أن خطابه سيمر بكل ما فيه من مغالطات كما اعتاد أن يمر الخطاب الصهيوني في كل المحافل الدولية دون أن يتصدي له أحد، وأخذته سكرة غطرسة القوة عندما صفق له الحاضرون في قاعة المنتدي.

أول الأوهام التي بددها أردوغان هو «وهم قوة الرواية الواحدة» التي تحتكرها إسرائيل لوصف مجريات الصراع العربي الإسرائيلي. تدخل أردوغان قال للعالم إن الحقيقة لها رواية أخري، أما الرواية الإسرائيلية فزائفة، وكاذبة، وعيب أن يظل العالم أسيراً لها. بيريز رفع صوته أثناء حديثه أكثر من المعتاد، ولاحظ أردوغان أنه ينظر إليه علي نحو غير لائق، فعاجله بعبارات تجعله يفوق من سكرته قائلاً له: «ارتفاع صوتك هو تعبير عن نفسية متهم. عندما يأتي الحديث عن القتل أنتم تعرفون القتل جيداً». أردوغان وحده فقط من بين زعماء العالم وجد في نفسه الجرأة علي قول ذلك، وتوجيه نقده وتوبيخه علناً للجالسين أمامه في القاعة الذين صفقوا لبيريز لأنهم «يصفقون للجرائم الإسرائيلية. صحيح أن مدير الجلسة ـ صحفي يهودي بالواشنطن بوست ـ لم يمكن أردوغان من إتمام روايته لحقيقة ما جري، ولكن رسالته وصلت للعالم كله، وربما بأسرع مما لو كان أكمل روايته، ومن هنا قلنا إن وهم احتكار إسرائيل لرواية مجريات الصراع انتهي، وأصبح جزءاً من الماضي.

الوهم الثاني هو «إمكانية إضعاف المقاومة بعزلها دوليا»، ومن ثم الاستفراد بها، والاستقواء عليها ليس فقط بالحلف الاستعماري الأوروبي الأمريكي ـ فهذا قديم ولا جديد فيه ـ وإنما أيضاً بحلفاء من الأنظمة العربية ومن دول الجوار. هذا الوهم كثف المسئولون الإسرائيليون التأكيد عليه خلال العدوان الأخير علي غزة، تارة بالترويج لمقولة وجود مصلحة مشتركة إسرائيلية ـ مصرية لمواجهة حماس، وأنه لابد من إضعافها لأنها «تهدد الاستقرار في مصر» ـ كما قال عاموس جلعاد ـ وتارة بتأكيد قادة العدو علي أن «الاعتدال العربي يشارك إسرائيل في حربها ضد حماس» «نيوزويك 11/1/2009». صحيح أن هناك ما يدل علي نجاح السياسة الصهيونية في خلق قاعدة مصالح مشتركة مع محور الاستبداد/الاعتدال العربي، بما يعني عزل المقاومة وتشديد الحصار عليها، غير أن قوة التدخل التركي الذي عبر عنه أردوغان في دافوس جاء ليكسر هذه العزلة، ويهدم فكرتها الأساسية وهي: أن المصلحة المشتركة بين دول المنطقة وإسرائيل تعني عزل المقاومة. هذه الفكرة هدمها موقف أردوغان لأن تركيا ليست فقط من دول الاعتدال في المنطقة، وإنما لها علاقات دبلوماسية كاملة ومصالح اقتصادية وعسكرية كبيرة جداً مع إسرائيل، ولكن لم يمنعها ذلك من الوقوف إلي جانب الحق الفلسطيني، وتبني رواية المقاومة. ويشكل هذا الموقف إحراجاً شديداً لدول الاعتدال العربي الأخري التي تسهم في عزل المقاومة، وقد يدفعها للتراجع عن هذا المسار. لم تخرج تركيا فقط من الصف الساعي لعزل المقاومة، وإنما تصر علي التعامل مع اختيار الشعب الفلسطيني الذي أسفرت عنه الانتخابات التشريعية، وهو اختيار المقاومة التي تقودها حماس بأغلبية تشريعية 65%.

الوهم الثالث الذي أسقطه أردوغان في دافوس من يد بيريز هو «فزاعة الإرهاب». بيريز كرر وصف المقاومة بالإرهاب، وأصر علي دمج العدوان الوحشي علي غزة ضمن ما يسمي «الحرب علي الإرهاب». أما أردوغان فقد طالب المجتمعين في دافوس بضرورة التمييز بين المقاومة والإرهاب، وقلب الطاولة علي بيريز بقوله «عندما يأتي الحديث عن القتل فأنتم أعلم الناس بالقتل»، وسبق له أن وصف عملية اغتيال الشيخ أحمد ياسين بأنه «إرهاب دولة» قامت به إسرائيل، ولم يجرؤ حاكم عربي واحد علي قول ذلك. كرر أردوغان القول في دافوس بأنه «يتوجب علي الرئيس أوباما إعادة تعريف الإرهاب والمنظمات الإرهابية، وتأسيس سياسة أمريكية جديدة في المنطقة وفق التعريف الجديد». هذا الكلام يعني أن تركيا ترفض الإذعان لما تقوله أمريكا وإسرائيل بشأن اعتبار المقاومة مرادفاً للإرهاب. الموقف الأردوغاني في نقد المفهوم الأمريكي للإرهاب يكتسب قوة مضافة من كون تركيا داخلة في اتفاق شراكة استراتيجية وقعته سنة 2006 مع أمريكا، ويسهم كذلك في كسر الحواجز النفسية التي ظلت تحول لفترات طويلة دون إدانة إسرائيل علناً. موقف أردوغان يقول إن نقد إسرائيل ليس ممكناً فقط، وإنما هو واجب والتزام أخلاقي قبل أن يكون عملاً سياسياً. أردوغان قال للعالم بموقفه في دافوس: «إن تركيا لن توضع علي مائدة الطعام ليأكلها النظام العالمي بعد اليوم».

0 التعليقات:

إرسال تعليق