فى السياسات العليا.. والسفلى


الكاتب الكبير محمود عوض يكتب: فى السياسات العليا.. والسفلى

مع أن هناك الكثير الكثير مما فعلته إدارة جورج بوش الذاهبة بمنطقتنا وبالعالم طوال ثمانى سنوات وستنكشف أسراره ودوافعه مستقبلا.. إلا أن مؤرخى المستقبل لابد سيتأملون بعمق الأيام الأخيرة لتلك الإدارة فى السلطة.

فعلى الرغم من أن الثقافة السياسية الأمريكية اعتادت إطلاق توصيف «البطة العرجاء» على كل إدارة تدخل شهورها الأخيرة فى السلطة، إلا أن إدارة جورج بوش الذاهبة سجلت استثناء على تلك القاعدة. ففيما بين الانتخابات وحتى تسلم الرئيس الجديد السلطة رسميا فى 20/1/2009 ،يعنى نحو 11 أسبوعا، كانت إدارة جورج بوش عرجاء فى كل شىء، وعلى كل جبهة، ما عدا المتعلق بإسرائيل تحديدا.

وافقت تلك الإدارة إسرائيل فى حربها المتوحشة ضد أهالى قطاع غزة المحاصرين أصلا من قبلها بثمانية عشر شهرا. ودافعت تلك الإدارة عن الحرب وقامت بحماية إسرائيل من الإدانة فى مشاورات مجلس الأمن. ثم وعدت وزيرة الخارجية أعضاء المجلس بموقف ونفذت غيره عند التصويت.

وخرجت وزيرة خارجية إسرائيل تسيبى ليفنى تنسب لنفسها الفضل فى ذلك التغيير من خلال سبع مكالمات تليفونية قالت إنها أجرتها مع الوزيرة الأمريكية، بعضها بصوت غاضب مرتفع. أما رئيسها إيهود أولمرت فقد صرح بأنه هو الذى تحدث مع الرئيس الأمريكى جورج بوش تليفونيا وأقنعه بأن يأمر وزيرته بعدم التصويت لصالح القرار فى الحالتين، وبرغم إنكار ضعيف من وزارة الخارجية الأمريكية مرة، وإنكار أضعف من البيت الأبيض مرة، لحقت الإهانة الإسرائيلية بالوزيرة الأمريكية وانتهى الأمر.

نفس الوزيرة المهانة هى التى تابعناها تستقبل وزيرة خارجية إسرائيل فى واشنطن، وتوقع معها مذكرة تفاهم بالغة الخطورة يوم 16/1/2009.. يعنى قبل مغادرة الإدارة للسلطة بمجرد أربعة أيام. لماذا الاستعجال؟ وقطع الطريق على سياسات إدارة جديدة تالية جاءت حاملة شعار «التغيير»؟ ولماذا، بعد الإهانة العلنية بأيام قليلة توقع تلك الاتفاقية الأمنية التى تتحمل أمريكا بمقتضاها التزامات جديدة نحو إسرائيل، بل والتزامات أخرى تحملها لحلفائها فى حلف شمال الأطلنطى، وفى منطقة تمتد من غرب البحر الأبيض إلى شرقه إلى البحر الأحمر وشرق أفريقيا جنوبا إلى خليج عدن والمحيط الهندى شرقا؟

ابتلعت كوندوليزا رايس الإهانة إذن ووقعت المذكرة المفاجئة مع وزيرة خارجية إسرائيل. وإذا كان رئيسها جورج بوش قد خذلها مرتين.. فإنها تكون قد شربت من نفس الكأس المرة التى فرضتها سابقا على سلفها كولن باول. فخلال عمله كوزير للخارجية فى الولاية الأولى لجورج بوش حدث ذات مرة من توترات الموقف فى فلسطين أن وقف الرئيس جورج بوش أمام الكاميرات فى البيت الأبيض ليعلن أنه كلف كولن باول وزير خارجيته الواقف إلى جواره بالسفر فى مهمة عاجلة إلى إسرائيل والأراضى الفلسطينية وفوضه من السلطات بما يتطلبه الموقف.

فى الأيام التالية، وفى أرض الواقع، تأرجحت وتناقضت تصريحات كولن باول على مدار الساعة وطوال الأيام التالية بما انتهى بالوزير إلى الفشل الكامل. لم نعرف السر إلا من مذكرات باول المنشورة تاليا، وروى فيها كيف كانت تطلبه يوميا كوندوليزا رايس، وهى وقتها مستشارة الرئيس للأمن القومى، لكى تبلغه امتعاض الرئيس من تصريحاته وتحثه على تغييرها حتى لو كان هذا يعنى شعوره بالمهانة لأنه لم يفعل سوى تنفيذ تعليمات الرئيس له من البداية.

العلاقة الحرجة بين الرئيس ووزير خارجيته فى النظام الأمريكى تصبح أكثر حرجا بين وقت وآخر، خصوصا إذا كانت للرئيس رؤاه الخاصة المحددة فى جوانب من علاقات بلاده الخارجية. ولأن إسرائيل هى زاوية اهتمامنا هنا.. فقد حدث مثلا فى يونيو سنة 1990، وخلال جلسة استماع فى الكونجرس الأمريكى، أن لخص جيمس بيكر وزير الخارجية حينذاك الموقف مع إسرائيل على النحو التالى: «لقد بذلت الولايات المتحدة كل ما تستطيعه للتسوية التفاوضية بين العرب وإسرائيل... بدون جدوى. والآن حينما تقرر إسرائيل أن تكون جادة بشأن السلام فعليها أن تطلب هذا الرقم 4561414 (202) إنه رقم تليفون البيت الأبيض».

بعدها بسبع سنوات، وفى ظل رئيس آخر وإدارة أخرى، سئلت مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية: لماذا لم تذهبى بعد إلى الشرق الأوسط؟ فكان ردها: لأن الشرق الأوسط جاء إلينا.

وعلى رغم التشابه التقريبى بين المغزى فى كلمات بيكر وكلمات أولبرايت إلا أن الفارق بينهما كان فى جوهر الموضوع. فى حالة بيكر كانت الرسالة الأمريكية موجهة إلى إسرائيل. أما فى حالة أولبرايت فالرسالة موجهة إلى العرب أساسا. وبينما كانت إسرائيل فى الحالة الأولى هى المطالبة بأن تعطى، أصبح العرب فى الحالة الثانية هم المطالبون بأن يعطوا. وفى حالة بيكر كانت الرسالة الضمنية لإسرائيل هى أنه لا بديل أمامها سوى البيت الأبيض، لكن الوضع تغير فى الحالة الثانية ليصبح العرب هم الذين لم يعد أمامهم بديل سوى وزيرة الخارجية الأمريكية. وحتى فى تلك الحالة يتم تحويل المكالمة بين وقت وآخر إلى أحد مساعديها، دينيس روس مثلا.

أما فى حالة جورج بوش الابن ووزيرة خارجيته كوندوليزا رايس فقد سمحت الإدارة لنفسها فى ربع الساعة الأخير من عمرها السياسى أن تبرم مع إسرائيل اتفاقية أمنية خطيرة بغير أى تشاور مع من سمتهم «دول الجوار». نعرف أن وزير الخارجية فى أى نظام سياسى لا يصنع سياسة وإنما ينفذ سياسة يشارك فيها بصفته المستشار الأول لرئيس الدولة فى الشئون الخارجية. وفى النظام الرئاسى المعمول به فى أمريكا يفوض الدستور الرئيس بسلطات أكثر اتساعا من سلطات الإمبراطور فى روما القديمة. وأعضاء الحكومة لا يسمى أى منهم وزيرا وإنما سكرتيرا.

وحتى نائب الرئيس الذى يتم انتخابه مع الرئيس فى تذكرة انتخابية واحدة، لا يحدد له الدستور أى سلطات حقيقية إلا ما يفوضه به الرئيس. ومن زاوية اهتمامنا هنا فإن وزير الخارجية لكى ينجح فى إدارته لعلاقات بلاده مع الدول الأخرى لا بد أن يكون مدعوما من الرئيس بقوة ووضوح.

لكن فى التاريخ الأمريكى قد يحدث بين وقت وآخر أن يكون الرئيس أكثر احتياجا لوزير خارجيته بأكثر من العكس.. أو قد يحدث التضارب بين مصالح ضيقة للرئيس وبين رؤية وزير الخارجية لمصالح البلاد. هذا يعنى أن على الوزير أن يستقيل أو حتى أن يقيله الرئيس. إنما -ومرة أخرى.. من زاوية اهتمامنا هنا- فى التاريخ الأمريكى القريب جرى مثل هذا التضارب بغير أن يلجأ الرئيس إلى إقالة وزير خارجيته.

تلك الحالة تحديدا يمثلها الجنرال جورج مارشال. وهو الذى جرت تسمية البرنامج الأمريكى لإعادة تعمير أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية باسمه. لكن الأهم أمريكيا من ذلك هو أن جورج مارشال كان رمزا لانتصار أمريكا فى الحرب العالمية الثانية باعتباره رئيسا لهيئة أركان القوات المسلحة الأمريكية ومهندسا للأداء العسكرى الأمريكى فى جبهتى الحرب: أوروبا واليابان.

وتناولى لجورج مارشال هنا سيقتصر على موقفه المبكر من القضية الفلسطينية وصدامه القاطع مع هارى ترومان، الرئيس الذى اختاره وزيرا للخارجية فى يناير 1947 فى لحظة حاسمة بالنسبة للقضية وللمنطقة. لكن الحديث عن جورج مارشال وهارى ترومان يبدأ من الرئيس فرانكلين روزفلت. فبسبب شعبية روزفلت داخليا وزعامته العملاقة عالميا جرى انتخابه لرئاسة أمريكا مرة رابعة (بعدها جرى تعديل الدستور بما يحدد فترتين كحد أقصى لولاية الرئيس). روزفلت فى فترته الرابعة اختار هارى ترومان نائبا له وفائز معه انتخابيا.

لكن حالة روزفلت الصحية سرعان ما تدهورت بما أدى إلى وفاته فى 12/4/1945 فى ظرف بالغ الدقة بالنسبة لأمريكا والعالم. هناك حرب عالمية ثانية متسعة وأمريكا تقود معسكرها من الحلفاء وأهمهم بريطانيا والاتحاد السوفيتى فى مواجهة دول «المحور» وهم ألمانيا وإيطاليا واليابان. فى تلك الحرب لأمريكا وحدها قوات مسلحة تضم 16 مليون رجل وامرأة ولها أيضا أكبر حشد بحرى فى التاريخ من عشر بوارج و27 حاملة طائرات و45 سفينة حربية وطائرات ودبابات ومدافع وأموال وتكنولوجيا أكثر مما كان تحت تصرف أى دولة واحدة بمفردها بامتداد التاريخ.

واعتبارا من الساعة السابعة وتسع دقائق مساء 12/4/1945 ورث هارى ترومان المسئولية عن هذا كله كخليفة لروزفلت لاستكمال مدة ولايته رئيسا للدولة وقائدا أعلى لقواتها المسلحة. والمشكلة الكبرى فى هذا كله كانت هى أن ترومان لم يكن يعرف أى شىء عن مجريات الحرب أو خططها أو مراحلها. لم يكن يعرف أى شىء عن علاقات أمريكا بحلفائها ولا مراسلات روزفلت مع قادتها أو زعماء الدول الأخرى.

وكما ذكر ترومان نفسه لابنته مارجريت فيما بعد فإن الرئيس روزفلت «لم يتحدث معى مطلقا بما يجعلنى مؤتمنا على أسرار الحرب أو شئون السياسات الخارجية أو حتى بما يشغل باله أو يفكر فيه بشأن السلام بعد الحرب».

لم يكن ترومان يعرف أى شىء أيضا عن أهم مشروع علمى/عسكرى تمضى فيه أمريكا سرا منذ سنوات لصناعة أول سلاح نووى فى التاريخ. وباختصار، وكما سجل كاتب سيرة حياة هارى ترومان، فإنه خلال 82 يوما شغل فيها منصب نائب الرئيس لم يقابله الرئيس روزفلت على انفراد سوى مرتين. وبينما سافر روزفلت فى رحلة ممتدة وسرية فى مرحلتها الأولى، ذروتها كانت اجتماع يالتا مع الزعيم السوفيتى جوزيف ستالين ورئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل.. بقى ترومان فى واشنطن يقضى وقته فى مهام إجرائية كرئاسة جلسات مجلس الشيوخ أو يسلى نفسه بلعب البوكر مع أصدقائه.

وحتى بعد عودة الرئيس روزفلت من مؤتمر يالتا لم يجتمع مع ترومان أو يفضى له بحقيقة اتفاقاته السرية مع جوزيف ستالين ورئيس الوزراء البريطانى ونستون تشرشل. ولا أيضا شرح له خلفيات رحلته الخاطفة إلى مصر والبحيرات المرة فى قناة السويس حيث استقبل ملك السعودية عبد العزيز على متن سفينة حربية أمريكية، ولا أهمية اتفاقه مع الملك السعودى على إعطاء الشركات الأمريكية امتياز استكشاف وإنتاج وتسويق البترول لمدة ستين سنة تالية. اتفاق سال له لعاب الحليف تشرشل الذى كان يسعى إلى مثله وأخفاه عنه روزفلت طوال إقامتهما فى يالتا.

برحيل روزفلت المفاجئ أصبح على ترومان أن يرث مسئولياته الضخمة داخليا ودوليا، وبقدرات ذهنية وسياسية بالغة التواضع. وحينما اتجه إليه أحد المساعدين فى البيت الأبيض بعد دقائق من حلفه اليمين كرئيس ليقول له إن الصحفيين يريدون معرفة هل مؤتمر سان فرانسيسكو الخاص بتأسيس منظمة الأمم المتحدة سينعقد فى موعده بعد 12 يوما كما كان الرئيس روزفلت قد قرر.. أجابه ترومان تلقائيا:نعم.. بالتأكيد سيجرى المؤتمر فى موعده. وكان هذا تلقائيا هو أول قرار رئاسى يتخذه ترومان.

من الصباح التالى مباشرة أصبح على ترومان أن يستذكر بسرعة واجباته المنزلية وأصبح على أعضاء الحكومة أيضا إطلاعه على الملفات العاجلة كل فى اختصاصه، وأولها تقارير هيئة الأركان عن مجريات الحرب وكذلك التقرير بالغ السرية عن «مشروع مانهاتن» لصناعة أول سلاح نووى.كذلك أصبح عليه استقبال رؤساء وفود الدول القادمة لحضور اجتماع سان فرانسيسكو واختاروا المرور أولا بواشنطن، وأهمهم الوفد السوفيتى برئاسة وزير الخارجية مولوتوف ومعه السفير السوفيتى بواشنطن أندريه جروميكو.. إلخ.
وفى اليوم الثامن من تولى ترومان منصب الرئاسة الجمعة 20 إبريل 1945 وصل إلى البيت الأبيض الحاخام ستيفن ويلز الرئيس المناوب لـ «مجلس الطوارئ الصهيونى الأمريكى» لمناقشة الرئيس ترومان فى «مسألة إعادة توطين اللاجئين اليهود فى فلسطين». ولأنه كان قد طلب مسبقا رأى وزارة الخارجية فقد تلقى ترومان تحذيرا مكتوبا من الوزارة بأنه «عليك بالحذر البالغ لأن مشكلة فلسطين بالغة التعقيد».

واختار ترومان أن يختصر زمن المقابلة إلى ربع ساعة، معتذرا بعدها للوسيط الذى رتب للمقابلة. وسيط اسمه إدوارد جاكوبسون، يهودى صهيونى كانت أهميته أنه منذ وقت مبكر كان شريكا لترومان فى محل يمتلكانه لبيع الملابس فى كانساس. لكن هذا الشريك أصبح مؤخرا أهم شخص فى قاموس المنظمات الصهيونية داخل وخارج أمريكا لاعتبارات عديدة، فى مقدمتها أنه من الآن فصاعدا أصبح هو مفتاحهم إلى البيت الأبيض وإلى هارى ترومان شخصيا.

كانت المسألة الفلسطينية تزداد سخونة فى السنوات الأخيرة. فبريطانيا التى أصدرت «وعد بلفور» فى 1917 تعد فيه بالمساعدة فى إقامة وطن قومى لليهود فى فلسطين، هى نفسها التى أصبحت سلطة انتداب على فلسطين بقرار من عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى. وبتلك الصفة استخدمت بريطانيا وجودها وكل قدراتها للمساعدة فى تهجير يهود أوروبا إلى فلسطين بما هدد الفلسطينيين أنفسهم فى وطنهم فبدأت الصدامات المتكررة المتصاعدة. واستخدم اليهود الوافدون السلاح ضمن تنظيمات علنية وسرية لردع أصحاب الأرض وقمع ثوراتهم المتتالية.

وعندما لاحت فى الأفق نذر حرب عالمية ثانية أصدرت بريطانيا «الكتاب الأبيض» فى سنة 1939 لتقييد الهجرة اليهودية تهدئة للموقف فى فلسطين. لكن الوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية العالمية وباقى التنظيمات استمرت تعترض على تقييد الهجرة، وزادت من نشاطاتها فى أمريكا بعد أن لاح من حقائق الحرب أن نجمها صاعد بسرعة إلى عرش القوة العالمية.

وفى أرض فلسطين توسعت التنظيمات اليهودية المسلحة فى هجماتها لتشمل القوات البريطانية أيضا فى هجمات إرهابية. لم يذكر كاتب سيرة ترومان قيام منظمة الأرجون فى سنة 1945 باغتيال اللورد موين فى القاهرة، وهو وزير الدولة البريطانى المقيم بالمنطقة. لكنه ذكر مثلا أنه فى سنة 1946 نفذت الجماعات الإرهابية -بنص تعبيره- مذابح شتى، فنسفت جماعة «أرجون» فندق الملك داود فى القدس فقتلت 91 شخصا كلهم من المدنيين. أما فى الولايات المتحدة فكانت جماعات اليهود الأمريكيين تنظم حملاتها الدعائية بتركيز خاص على البيت الأبيض. وفى سنة 1947 وحدها أمطروا البيت الأبيض بأكثر من مائة ألف رسالة وبرقية للمطالبة بدعم إقامة دولة يهودية فى جزء من أرض فلسطين.

أما بالنسبة لهارى ترومان نفسه فقد ارتبط مبكرا بالنشاطات الصهيونية المحلية. وفى سنة 1943 مثلا، وقد كان عضوا فى مجلس الشيوخ، شارك فى اجتماع صهيونى بمدينة شيكاغو أعلن فيه أنه مستعد لعمل أى شىء «ممكن إنسانيا» لتوفير ملجأ ومأوى لليهود الناجين من قمع النازية. ومع توليه الرئاسة خلفا لروزفلت كان طبيعيا أن يصبح شريكه السابق فى بيزنس تجارة الملابس بكانساس سيتى، إدوارد جاكوبسون الذى أشرنا إليه سابقا هو همزة الوصل بين التنظيمات الصهيونية وترومان. وقد رأينا كيف رتب مقابلة لرئيس مجلس الطوارئ الصهيونى مع ترومان فى يومه الثامن كرئيس.

وفى مرة تالية ذهب جاكوبسون نفسه لمقابلة ترومان وقد صحب معه الحاخام من نيويورك آرثر ليلى ونائب رئيس شركة لبيع القمصان اسمه تشارلز كابلان. وبعد المقابلة استفسر منه الصحفيون عن موضوع المقابلة مع الرئيس فقال لهم مازحا «مابلان يبيع القمصان وأنا أبيع الملابس والحاخام يبيع الأفكار والعقائد».

وحسب ديفيد ماكليو، كاتب سيرة حياة ترومان، فإن ترومان كان لصيق الصلة بجاكوبسون ويثق فيه تماما. تلك الثقة الكاملة ستعطى جاكوبسون دورا وأهمية غير عادية مع تلاحق الأحداث. بل إن ترومان نفسه كتب قائلا فيما بعد أن جاكوبسون «كانت له أهمية حاسمة فى صناعة الأحداث» وهى أهمية لم تكن معروفة فى حينها. فقط لمس الجميع دوره الغامض حينما أصبح أول سفير لدولة إسرائيل لدى أمريكا بمجرد الإعلان عن قيامها فى سنة 1948.

لكن الوقت ما يزال مبكرا قبل تلك التطورات. فقط أصبح واضحا من البداية أن التنظيمات الصهيونية تستثمر بشدة فى هارى ترومان ومنصبه. وكما يروى كاتب سيرته فقد حدث ذات يوم أن عقدت مجموعة محدودة من اليهود الصهيونيين الأمريكيين اجتماعا فى مبنى حكومى فيدرالى بواشنطن، دعوا إليه أوسكار تشابمان، مساعد وزير الداخلية. ومن البداية نهض إبراهام فينبيرج، رئيس المجموعة، وهو صاحب مصنع ملابس فى نيويورك ومن كبار رجال المال، وكشف له كمية ضخمة من الأوراق المالية حتى أن جزءا منها تساقط على الأرض.

ثم أشار إلى تلك المبالغ وهو يتطلع إلى تشابمان قائلاً: «انظر.. إذا كان (الرئيس ) ترومان سيفعل شيئا فى شأن (إقامة) إسرائيل.. فحينئذ يمكننا أن نعمل معه «بيزنس كبير». ورد عليه تشابمان: «سأستكشف ذلك».

وتوجه تشابمان إلى البيت الأبيض ليخبر الرئيس ترومان بما جرى.وكان رد الرئيس: «قل لابن الحرام هذا إننى لا آخذ الأموال بمثل هذه الطريقة». وعاد مساعد وزير الداخلية لينقل هذا الرد إلى المجموعة الصهيونية. لكنهم بعدها بثلاثة أسابيع فقط عادوا ليعرضوا الأموال على ترومان نفسه مباشرة وبلا وسيط فقال لهم: اذهبوا إلى الجحيم.

لقد استمر ترومان يتلمس كل السبل الممكنة لمساعدة الصهيونيين. لكنهم مع ذلك واصلوا الضغط عليه بطريقة مهينة. ويذكر كاتب سيرته أنه حدث فى أحد الاجتماعات الوزارية أن شكا الرئيس ترومان نفسه لبعض مساعديه من أن رئيس مجلس الطوارئ الأمريكى الصهيونى كلما قابله تحدث معه بطريقة عاصفة وهو يدق بيده على المكتب.. «بينما لم يكن يجرؤ على بعض ذلك سابقا مع (الرئيس الراحل) روزفلت».

0 التعليقات:

إرسال تعليق