لا صوفية ولا صوفيون



من أول السطر
إبراهيم عيسى

حينما يتصارع المتصوفون (أو الذين يقولون عن أنفسهم إنهم كذلك) علي المناصب فمن المفترض أن نسحب منهم الصفة مع المنصب!

من علامات الساعة المصرية هو هذا المشهد الصوفي الحاصل الآن الذي يعبر عن تناقض حاد وفصام عميق بين الصوفية الحقيقية وبين هذا التكالب الذي نراه من وبين مشايخ الصوفيين علي مقعد ومنصب ونفوذ والذي منه.

الصوفية الحقَّة هي التسليم لله والزهد في إغراءات الدنيا والتعفف عن الإقبال علي مكاسبها وامتيازاتها، الصوفية الحقة هي الوصل بين العبد وربه والقطع بين العبد وانجراره لشهوته في المال والنفوذ والجاه والسلطان، الصوفية الحقة هي أبعد ما تكون عن هذه المأساة الدائرة والكاشفة عن تحول الجماعات الصوفية - كما كل المجتمع المصري - إلي أنهم يقولون ما لا يفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون، المجتمع يزعم الإيمان والتقوي وتنتشر فيه ظاهرة الحجاب وإطالة اللحي وارتداء النقاب واقتناء «السبح» والحرص علي الطقوس الدينية والإلحاح في الكلام عن الحرام والحلال وإنتاج واستهلاك الفتاوي، والثرثرة حول الأخلاق في الوقت الذي تنتشر فيه الرشوة في كل مكتب ومصلحة في مصر وفي الوقت الذي تسيطر فيه قيم الفهلوة والعشوائية والعمولات والسمسرة والسكوت علي الظلم والقتل الوحشي والتحلل الجنسي، مفهوم أن تعيش المجتمعات أحيانًا في منحني حضاري هابط، لكن المؤسف أن هذا يجري تحت غطاء التدين القشري والإسلام الشكلي والتمسح في الدين والتظاهر بالورع بينما كل هذا دهان ودخان للتغطية علي صعود وتمكن وتمكين أسوأ ما فينا وأسوأ من فينا علي حياتنا وما فيها!

كثير مِمَّن يتمسَّحون بحبهم لآل البيت النبوي الشريف ويدَّعون أنهم من نسل الأشراف تجدهم خدامًا عند معاوية، وضمن خدم الاستبداد، وتجد ممن يمارس التعذيب أو التزوير أو متورط في قضايا فساد سياسي ومالي ينسب نفسه للأشراف أو يزعم حبًا لآل البيت، وهم ساكتون عن الحق متواطئون مع الفسدة ممالئون ومنافقون للسلطة وماسحو جوخ فكيف يكون الصوفي أو محب آل البيت ضمن آلة الديكتاتورية ومنظومة الاستبداد ومن حماة الفساد والفَسَدة بصمتهم أو بتواطئهم أو بتورطهم مع نظام حكم آخر ما يمكن أن نصفه به هو التصوف؟! فإذا كان حاكم من حكامنا يتمتع بذرة من روح المتصوفة لَخَشَع للرحمن وتذلل للواحد القهار والْتزم العدل وخضع قلبه واستغني عن مقعده وعافه وتعفف عنه وبرَّأ أبناءه وأقاربه من ذنب الجلوس علي مقاعد السلطة وصرف المحيطين به عن اكتناز الذهب والفضة وتراكم الثروات. المفارقة المحزنة والمخزية أن يكون الصوفي بلا صوفية وأن يكون الصوفي درعًا حاميًا وجدارًا واقيًا للاستبداد والفساد، الصوفي الحق هو الذي لا يخشي إلا الله ولا يلهث وراء السلطة ولا خلف ذوي السلطة، بل يجعل السلطة امتحانًا ومحنة ويجعل من نفسه ضميرًا رقيبًا حسيبًا علي كل حاكم ومسئول؛ لأن الصوفي الحق - بزهده وتعففه - أقوي من أي سلطة أو سلطان، أهم من أي حاكم أو محكوم، المؤسف أنه في كل مؤتمر سياسي أو انتخابي للحزب الحاكم تجد المحسوبين علي مشايخ الصوفية يتقدمون صفوف المدح والدعم والتأييد والنفاق، وكأن الصوفية قد تم اختطافها لمداهني سلطة وممالئي حاكم ومنافقي حكم، وهي التي تترفع زاهدة وترتفع عالية وترقي محلقة فوق دنايا الدنيا، (قطعًا لا تخلو الحركة الصوفية من روعة شيوخنا من أبي حامد الشاذلي وحتي شيخنا صالح أبو خليل).

الصوفية ليست ملابس خشنة أو مرقعة ولكنها ليست بِدَلاً إيطالية الصنع كذلك، الصوفية سماحة، لكن ليست تهاونا، الصوفية ليست زهدا مطلقا ولكنها تعفف مؤكد، الصوفية تسليم ولكنه تسليم لله وليست استسلاما لسلطان وحاكم، الصوفية ليست حركة معارضة، لكنها ليست حركة منافقة بَكْماء صمَّاء عن الظلم والاستبداد، الصوفية ليست فقرًا وفاقة لكنها ليست ترفًا وسفهًا، الصوفية ليست مجموعات للهروب من الواقع، بل جماعات لمواجهة الواقع بالحب والوجد لله والانتصار للمستضعفين والاستعلاء علي غرائز الدنيا وغواياتها، الصوفية ليست جماعات تأييد ومبايعة، بل جماعات لإطلاق الأمل وإشراق البركات والمدد، إن نافق الكل لا يجب أن ينافق الصوفي؛ فالوصل مع الله يقطع الوصولية مع البشر، وإن استسلم الجميع لا يستسلم الصوفي؛ فهو يعلم أن نصر الله قادم مع مدده، ومهما استحكمت العتْمة فإن نور الله يسطع في قلب الصوفي فلا يضل، هذا هو الصوفي الحقيقي، بينما ما يسود مجتمعنا هو الزور ذاته الذي زيَّف كل شيء حتي الصوفية والتصوف.. هذا البلد في حاجة فعلا إلي المدد!

0 التعليقات:

إرسال تعليق