الكاتب والرئيس


في ذكري وفاة الكاتب الكبير «رجاء النقاش» ننشر واحدة من أهم كتاباته:
ظهرت شخصية السادات بوضوح أمام الرأي العام بعد أن تخلص من خصومه وألقي بهم في السجون إذ بدا رجلاً شديد العصبية كثير الشكوك تملأ الهواجس نفسه تجاه الآخرين

اليوم تمر الذكري السنوية الأولي علي وفاة الأستاذ الكبير رجاء النقاش بلا ضجيج بعد أن عاش حياته في بلاط الصحافة والأدب والنقد بلا أدني صخب، كان الرجل برغم انجازه الرائد أكثر النقاد تواضعاً وأريحية ربما لأنها عادة شيمة الكبار الذين يقدمون الكثير دون انتظار كلمة إشادة واحدة وحتي في قراءاته النقدية العميقة
كان النقاش هادئ النبرة غير متعال ليعطي درساً لمهندسي اللغة والمتعاملين مع النقد باعتباره عملية تشريح معقدة أن القراءة المتعاطفة مع النصوص هي أكثر الطرق لاكتشاف طاقاتها الجمالية الكامنة، فضلاً عن اكتشاف النقاش أحد أبرع الروائيين العرب السوداني الطيب صالح ومحمود درويش شاعر المقاومة الأول في الأرض المحتلة وكان الأستاذ رجاء أول من قدم هذه الأصوات إلي الثقافة العربية، بالإضافة إلي أصوات أخري كثيرة كلها تدين بالولاء لصاحب هذا الصرح الشامخ من الحب والتعاطف والرغبة في تأكيد أصالة الثقافة العربية في مواجهة دعاوي هدم دعائم الماضي وخلق قطيعة معرفية مع التراث العربي لمحو هوية الثقافة العربية.

«الدستور» قررت أن تحيي ذكري الأستاذ الكبير علي طريقتها بنشر واحدة من أهم كتابات الراحل العظيم.

> > >

في 4 فبراير سنة 1973، أصدر الرئيس الراحل أنور السادات «1918-1981» قراراً انفعالياً غاضباً بطرد ما يقرب من مائة كاتب وأديب وصحفي من أعمالهم الأصلية، وإلحاقهم بأعمال أخري لا تمت بأي صلة إلي الصحافة والثقافة، وكان لهذا القرار من جانب السادات صداه الواسع في مصر وخارجها، لأن هذا القرار الغاضب كان يشمل عدداً من الأسماء المهمة والمعروفة علي المستوي العربي، وبعضها معروف علي المستوي العالمي.

ومن هذه الأسماء نجيب محفوظ، وأحمد بهاء الدين، ويوسف إدريس، وغيرهم، وقد كان وراء هذا القرار قصة لعب فيها الأديب الكبير توفيق الحكيم «1898-1987» دوراً أساسياً. وقبل أن نتعرض لهذه القصة بالتفصيل لابد من التوقف قليلاً أمام شخصية السادات، وأمام بعض الظروف التي كانت قائمة في مصر في تلك الفترة المضطربة، والتي بدأت من 15 مايو سنة 1971، حينما تمكن السادات من القيام بانقلاب ناجح علي أنصار عبدالناصر الذين كانوا يمسكون بالمراكز الرئيسية في الحكم والسلطة، واستطاع السادات أن يقبض عليهم جميعاً ويضعهم في السجون، ثم ينفرد بعد ذلك بالكلمة العليا في حكم البلاد.

وبعد انفراد السادات بالسلطة ازداد الاضطراب الشعبي، خاصة في صفوف الشباب، لأن سيناء كانت تحت الاحتلال الإسرائيلي، ولم يستطع السادات أن يحسم الأمور ويبدأ المعركة ضد العدو إلا في 6 أكتوبر سنة 1973، أي بعد أكثر من سنتين من انفراده بالسلطة.

ظهرت شخصية السادات بوضوح أمام الرأي العام بعد أن تخلص من خصومه وألقي بهم في السجون، وقد بدا السادات أمام الجميع رجلاً من رجال السياسة الذين يعانون العصبية وكثرة الشكوك والهواجس التي تملأ نفسه تجاه الآخرين، فقد كان سريع الغضب سريع الانفعال، كثير الخيالات والأوهام. وقد سمعت من أحد الذين عملوا معه عن قرب أنه في تلك السنوات بعد انفراده بالسلطة كانت تنتابه لحظات غريبة يبدو فيها شخصاً غير متوازن، فقد كان يمشي في حديقة الاستراحة الرئاسية المعروفة في منطقة «القناطر الخيرية» وينفصل عن مرافقيه من الحراس والمساعدين، فيمشون وراءه بمسافة غير قصيرة، بحيث تتاح لهم رؤيته بوضوح، وإذا بالسادات يهز عصاه في الهواء ويتحدث إلي نفسه بصوت مسموع، ويفقد إحساسه تماماً بكل من حوله، ويواصل الحديث مع نفسه، ويضحك أحياناً، ويتجهم أحياناً أخري!

وقال الراوي الذي كان يحدثني: إن السادات بعد أن انفرد بالسلطة، كان لا يطيق المناقشات الطويلة مع أحد، حتي لو كان من المقربين إليه والذين يثق بهم ويشعر معهم بالاطمئنان، وقد اشتكي عدد كبير من المقربين إليه والمساعدين له هذا الأمر، فلم يعد السادات يستشير أحداً، ولم يعد يطيق أن يستمع من أحد إلي رأي يخالف رأيه، وكان يتهم زوجته السيدة «جيهان السادات» أحياناً، خاصة حين تناقشه أو تختلف معه، بأنها لا تفهم في السياسة، وأن عليها ألا تتحدث في مثل هذه الأمور. هذا ما صرحت به السيدة «جيهان» نفسها في بعض أحاديثها الصحفية والتليفزيونية.

وبالطبع فنحن نصدق هذه الصورة للسادات لأسباب عديدة، أهمها أن التصرفات العامة العلنية له كانت لا تخلو مما يؤكد صحة هذه الصورة في خطاباته التي كان يلقيها أمام الجماهير، أو عن طريق التليفزيون، وفي أحاديثه الصحفية، وفي قراراته الحادة المفاجئة، ثم في عدوله المفاجئ أيضاً في بعض الأحيان عن هذه القرارات. كل ذلك يكفي لتأكيد صحة ما كان يقوله بعض المقربين إلي السادات من أنه كان يعاني التوتر العنيف، والغياب أحياناً عن الإحساس بالواقع من حوله، وهناك أمثلة عديدة علي ذلك، فقد عقد السادات مؤتمراً صحفياً في سبتمبر سنة 1981، بعد أن كان اتخذ قراراً غير حكيم باعتقال نحو ألف وخمسمائة من الصحفيين والمفكرين، وأهل الرأي والسياسة والأدب والصحافة في مصر. وفي هذا المؤتمر الصحفي سأله مراسل أجنبي سؤالاً قال فيه: «هل قمت سيادتك باستئذان أمريكا قبل اتخاذك قرار اعتقال السياسيين المصريين؟!»، وبدلاً من أن يرد السادات بهدوء علي مثل هذا الاستفزاز المألوف في المؤتمرات الصحفية الحرة، بتذكير هذا المراسل الاستفزازي بأن مصر بلد مستقل، وأن حكومتها ذات سيادة علي أرضها، وأن هذا المراسل قد دخل مصر بتأشيرة من السفارة المصرية في بلاده، وليس بتأشيرة من السفارة الأمريكية.. بدلاً من هذا، فإن السادات اندفع في غضب لا يليق برئيس دولة ليقول وهو ينتفض من شدة الانفعال للمراسل الأجنبي ما معناه:

- لولا أنك أجنبي لأخرجت مسدسي وأطلقت عليك الرصاص!

ومعني هذا الكلام الذي قاله السادات أن المراسل الأجنبي ضيف.. ولا يجوز قتل الضيوف.. ولولا هذا لفعلها السادات، وقتل هذا الضيف الذي أثار غضبه!

ومثل هذه العبارات الانفجارية الاندفاعية غير المسئولة كثيراً ما تصدر عن السادات، كقوله المشهور سنة 1971 عن المعارضين السياسيين له إنه سوف «يفرمهم» وكلمة «الفرم» كلمة دموية قبيحة لا يصح مطلقاً أن يصدر علناً، وفي حديث عام إلي الناس من أحد السياسيين، حتي لو كان هذا السياسي من كبار الطغاة في التاريخ فهؤلاء الطغاة يحاولون عندما يتحدثون علناً إلي الناس، أن يكونوا أكثر تهذيباً ولطفاً في انتقاء الكلمات. فالطغاة المتمكنون من طغيانهم لا يكشرون عن أنيابهم أو يستخدمون الألفاظ الحادة في أحاديثهم، بل علي العكس فإنهم يدخرون هذا كله للافعال وليس للأقوال العلنية، أما الطغاة المتوسطون أو من هم دون المتوسطين، فهم وحدهم الذين يحرصون علي إظهار قوتهم - بمناسبة ودون مناسبة - في أقوالهم وتصرفاتهم الظاهرة للناس!

ولعل السادات تكون لديه أسباب من تجاربه وتاريخه الشخصي لهذا التوتر والاضطراب العصبي وسرعة الانفعال، فقد قامت حياة السادات من بدايتها إلي نهايتها علي «المغامرة»، والمغامرة ببساطة هي عمل يندفع إليه الإنسان دون أن يكون علي معرفة بنتائجه وقد تنتهي المغامرة بكسر رقبة صاحبها، أو تنتهي بالنجاح! والعامل الحاسم في المغامرة هو «الحظ»، وقد كان الحظ حليفاً للسادات في كل مغامراته العجيبة، لكنه خان السادات مرة واحدة فأرداه قتيلاً، وكان ذلك في 6 أكتوبر سنة 1981 حيث فقد حياته في حادث المنصة الشهير.

وهناك ما يلفت النظر في حياة السادات، حيث إن حياته انتهت باغتياله وأنه كان قد بدأ حياته في ساحة السياسة المصرية قبل ثورة 1952 بالمشاركة في اغتيال السياسي المصري أمين عثمان، وكان هذا الاغتيال لحساب الملك فاروق الذي كان يكره أمين عثمان ويظن أنه يعمل ضده، وإن كان اغتيال هذا السياسي سنة 1946 في الظاهر بهدف الانتقام منه بسبب صداقته للإنجليز، كذلك اشترك السادات في محاولة لم تنجح لاغتيال الزعيم الوطني الكبير مصطفي النحاس، وكانت المحاولة لحساب الملك فاروق أيضاً.. وكان فاروق يكره النحاس، لأن النحاس كان زعيماً للأغلبية الشعبية ما جعل منه عقبة كبري في سبيل انفراد فاروق بالسلطة الرسمية والسلطة الشعبية أيضاً.

ويقال إن السادات كان يقول لبعض المقربين إليه إن لديه هاجساً وإحساساً قوياً بأنه سوف يموت مقتولاً في حادث اغتيال، وذلك عقاباً له علي أنه شارك في بعض الاغتيالات في مرحلة سابقة من حياته. ويمكننا أن نصدق هذه القصة المنسوبة إلي السادات وإلي أقواله عن نفسه، لأن السادات كان في المرحلة الأخيرة من حياته يعيش في حالة تدين كبيرة، لا يحق لأحد أن يتشكك فيها، كان يحس بأن الله معه، فقد أصبح رئيساً للجمهورية، وهو ما لم يكن يخطر علي باله أو علي بال أحد، فلم يكن هو أقوي رفاق عبدالناصر أو أهمهم، بل لعله كان بين الجميع أضعفهم شأناً وأهمية، ثم إنه بعد أن تولي الرئاسة، استطاع أن يعصف برجال عبدالناصر الأقوياء ويضعهم جميعاً في السجن، وكانت التقديرات السائدة قبل هذه الضربة المعروفة بضربة «15 مايو» هي أن السادات سوف يخسر معركته مع الناصريين، لأنه لم يكن يملك في يديه أي شيء من مفاتيح السلطة، لكن السادات انتصر، وخسر أمامه خصومه الأشداء. وكان السادات يسمي نفسه ويسميه أنصاره، «الرئيس المؤمن» تعبيراً عن نزعة التدين القوية عنده.

هذه الحياة الصعبة المضطربة المليئة بالمغامرات والمفاجآت والتي لعب فيها «القدر» و«الحظ» أدواراً رئيسة ساعدت علي أن تتعرض شخصية السادات لما ظهر فيها وعليها من عصبية وإحساس عنيف مستمر بالتوتر.

وفي المقابل كانت السنوات الممتدة من 1971 إلي 1973 من أعنف سنوات التوتر والعصبية في مصر نفسها، فقد كان الرأي العام فقد ثقته بالوعود المتتالية للسادات بمواجهة إسرائيل، فيما كان يسميه «سنة الحسم»، والتي كان يؤجلها من وقت إلي آخر بحجج متعددة، بعضها كان مثيراً للسخرية، مثل الحجة المشهورة التي أطلقها السادات يوماً من أن «الضباب» قد عطل المعركة مع إسرائيل وقد ظهرت في مصر وقتها عشرات النكت المصرية عن حكاية الضباب هذه، ما كشف عن عدم اقتناع الناس بالأسباب التي أعلنها السادات لتأجيل المعركة مع إسرائيل من أجل تحرير سيناء.

يضاف إلي انعدام «لغة سياسية مشتركة» بين السادات وشعب مصر في تلك الفترة أسباب قوية أخري ساعدت علي اضطراب الأوضاع في مصر بصورة عنيفة، وكان علي رأس هذه الأسباب ازدياد الأزمة الاقتصادية في البلاد، فقد كان الناس يعانون أشد المعاناة الغلاء وضعف الأجور وسوء الخدمات العامة مثل المواصلات والهواتف وغير ذلك، وكان أفراد الشعب يتحملون ذلك كله باعتباره تضحية يقدمونها في سبيل تحرير أرضهم، وكان يضاف إلي ذلك سبب دقيق آخر ينشر السخط والمرارة بين صفوف المصريين، فقد كان الجيش المصري اتجه إلي تجنيد الشبان المتخرجين في الجامعات، وذلك بعد أن تبين في حرب 1967 أن المجندين غير المتعلمين لا يحسنون استخدام الأسلحة الحديثة ولا يجيدون التعامل معها، فهذه الأسلحة تحتاج إلي درجة عالية من التعليم والمهارة العقلية. وبذلك أصبح عشرات الآلاف من خريجي الجامعات جنوداً في الجيش لا يعرفون متي ينتهي تجنيدهم لكي يعودوا إلي حياتهم الطبيعية وإلي الأعمال التي تتناسب مع مؤهلاتهم العلمية.. والحقيقة أن الشاب الجامعي في مصر ليس مجرد إنسان يحلم بمستقبله الخاص، لكنه في أغلب الأحوال يكون بعد تخرجه مصدراً من مصادر الرزق الأساسية في عائلته، إذ أن تسعة وتسعين في المائة من عائلات مصر تعلم أبناءها وتنفق عليهم من أجل أن يصبحوا بعد تخرجهم عوناً لهذا العائلات التي ليس لها مصدر رزق سوي عمل أفرادها المختلفين، ومعني دخول عشرات الآلاف من شباب مصر إلي الجيش عن طريق التجنيد العام غير المحدد المدة أن ينتج عن ذلك قلق واضطراب شديدان في حياة العائلات التي ينتسب إليها هؤلاء الشبان المجندون. أما بالنسبة إلي الشبان الذين كانوا لا يزالون في مرحلة التعليم الجامعي فإنهم كانوا يشعرون بالقلق والضياع والخوف من المستقبل. وكانت الدراسة الجامعية نفسها بحاجة إلي نوع من الاستقرار لا يشعرون به ولا يملكونه.. ثم ماذا يكون من أمر هؤلاء الطلاب بعد أن يتخرجوا في جامعاتهم؟ إن مصيرهم غامض في بلد محتل تمزقه الأزمة الاقتصادية وتصيبه تلك الحالة التي تحمل اسم «اللا حرب واللاسلم» بما يقترب من الشلل الكامل.

هذه الأمور كلها فجرت مظاهرات طلاب الجامعات في مصر في سنة 1972 وأوائل سنة 1973، وكان الطلاب يذهبون في جماعات إلي الصحف، ويحاولون أن يلتقوا كبار الكتاب والصحفيين، وأن يسمعوا منهم ويتحدثوا إليهم ويبحثوا معهم عن الحلول الممكنة لهذه الأزمة الخانقة التي يعيشها المجتمع ويعانيها الشباب أشد المعاناة.

كان علي رأس أهل الأدب والثقافة والصحافة في مصر ذلك الوقت توفيق الحكيم، وقد فتح هذا الكاتب الكبير مكتبه في جريدة الأهرام لاستقبال مجموعات بعد مجموعات من شباب الجامعات.

وكان توفيق الحكيم في تلك الفترة سنة 1973، في الخامسة والسبعين، ولأول مرة في حياته يجد نفسه وجهاً لوجه مع المجتمع ومشكلاته الصاخبة المختلفة العنيفة، وذلك عن طريق مجموعات الشباب التي سمح لها بلقائه. وقد كان توفيق الحكيم في حياته الطويلة قبل ذلك حريصاً علي أن يكون بعيداً كل البعد عن الحياة الاجتماعية، وأن يكون معتزلاً تماماً في برجه الخاص به الذي كان يسميه «البرج العاجي»، وكان هذا المعتزل الكبير في برجه العاجي ينظر إلي الناس من بعيد، ويكتفي بأن تكون مشاركاته للآخرين بالرؤي أحياناً، وبالعمل الفني المسرحي أو القصصي، أو غير المباشر أحياناً أخري، وبالصمت وعدم التعليق علي شيء في كثير من الأحيان. وبهذه الطريقة المتحفظة الحذرة قضي توفيق الحكيم حياته الطويلة قبل سنة 1973، ولكنه وجد نفسه في هذا العام يعيش مع أبناء وطنه في قلب عاصفة كبري، فماذا يفعل؟

هل ينسحب ويعتزل كما تعود أن يفعل؟

هل يمد يده لهؤلاء الشبان الذين يذهبون إليه بهمومهم وهموم الوطن ويطلبون منه الرأي والمشاركة؟

لقد اختار توفيق الحكيم الحل الثاني، وهو الانتماء والمشاركة، بل اختار في حدود قدراته أن يكون في المقدمة.. والحق أنه لم يكن أمام توفيق الحكيم إلا أن ينفعل، فهو صاحب رواية «عودة الروح» التي أصدرها سنة 1933، وهي رواية جميلة تفيض بالروح الوطنية الصادقة القوية، ويقال إن جمال عبدالناصر قد قرأ هذه الرواية في شبابه وإنها كانت من أكثر المؤثرات الفكرية في تكوين شخصيته وتحديد اتجاهاته في مستقبل أيامه، ولم يكن توفيق الحكيم، وهو المفكر الكبير والفنان صاحب الموهبة العالية، بقادر علي أن ينفصل عن وطنه، بينما كان هذا الوطن يحترق. إن أي اختيار آخر لتوفيق الحكيم في تلك اللحظة الصعبة كان يمكن أن يفقده احترامه لنفسه، بل وكان يمكن أن يغير نظرة الناس إليه وتقديرهم الكبير له، وكان ذلك سوف يجعل قلمه سيفاً من الخشب، لا جدوي منه ولا قيمة له. لقد كان الحكيم معتزلاً عندما كان يري أن آخرين كثيرين غيره يؤدون الرسالة ويحملون العبء علي أكتافهم، أما الآن، سنة 1973، فتوفيق الحكيم هو شيخ الأدباء والمفكرين، وهو الجالس علي قمة الحركة الثقافية في مصر والعالم العربي، فكيف يقبل ضميره أن يكون في أيام المحنة العامة من المعتزلين؟

لم يقبل توفيق الحكيم ذلك، وقرر أن يساهم في معالجة الأمور بقدر ما يستطيع، وكان توفيق الحكيم يعرف أنه لا يملك غير قلمه، ولكنه كان وبلا شك يعرف قيمة هذا القلم وقدرته علي التأثير، ولذلك اتجه إلي كتابة رسالة إلي السادات يعبر فيها عن رأيه ويكشف عن القلق الذي يعانيه شباب الأمة، ويطالب بموقف جديد حاسم يخرج بالأمة من حالة «اللاحرب واللاسلم» التي ملأت حياة الناس بالجمود والركود واليأس والإحباط. ولكي يكون لهذه الرسالة إلي السادات قوة معنوية، فقد رأي الحكيم أن تحمل الرسالة توقيع عدد كبير من الأدباء والمثقفين الوطنيين، من أهل اليمين واليسار علي حد سواء، وبالفعل حملت الرسالة توقيعات كثيرة مع توفيق الحكيم، وكانت هذه التوقيعات تشمل شتي الاتجاهات الفكرية والسياسية، لأن اللحظة كانت لحظة اتفاق وليست لحظة افتراق، وكانت لحظة إجماع وطني لا يستطيع أحد أن يتخلف عنه بضمير مستريح، وكان من الأسماء التي شاركت في التوقيع علي الرسالة: نجيب محفوظ ويوسف إدريس وعلي الراعي وثروت أباظة، وتم إرسال هذه الرسالة إلي السادات علي أنها رسالة إليه من كتاب مصر الذين يمثلهم توفيق الحكيم والذين معه من الموقعين علي الرسالة.

وهذا هو نص الرسالة التي كتبها توفيق الحكيم بقلمه وفيها يقول: «نحن الكتاب والأدباء الموقعين علي هذا البيان قد رأينا من واجبنا أن نعاون الدولة فيما تقوم به الآن هيئاتها الرسمية من تقصي الحقائق في حالة الاضطراب التي بدت بوادرها الآن في بعض الأحداث الجارية، يدفعنا إلي ذلك إيماننا بوطنية رئيس الدولة، واعتقاداً منا أنه في استطاعته الإمساك بالزمام للسير في طريق محفوف بالمخاطر تهب عليه الزوابع اليوم من كل جانب، ويحتاج إلي الحكمة وسداد الرأي لتجنيب الوطن ويلات الشطط وتوجيهه إلي حيث يجد نفسه ويؤكد شخصيته ويسترد قوته، ولما كان من خصائص الكتاب والأدباء بحكم رسالتهم في الأمة أن يكتشفوا باطنها ويستشفوا ضميرها، في حين أن مهمة الصحافة هي تقصي حقائقها من واقع حوادث معينة، قد تكون مجرد بثور خارجية لمرض دفين، ودخان ظاهري لنيران تتأجج تحت رماد، لذلك كان علينا نحن الكتاب والأدباء أن نكمل الصورة ونقدم المعونة بإبراز ما استتر واستخفي مما يعتمل الآن ويضطرم في باطن الأمة وضميرها، وليس ذلك فقط لمجرد استكمال عمل تقوم به الهيئات الأخري، ولكنه أيضاً للخشية من أن يهمل أمر هذا الغليان الذي يفور في نفوس الناس فيجد طريقه في أي لحظة إلي الانفجار وتقع الكوارث، ذلك أنه مما لا شك فيه لدينا أن البلد يغلي في الباطن علي نحو لم يعد يخفي علي أحد، وقد لا يعرف كل الناس تعليلاً لما يشعرون به من قلق واضطراب وغليان داخلي، وقد يبدي البسطاء من الناس والأبرياء من الشباب تعليلات مختلفة، يسوقونها بغير تفكير أو تمحيص، ويرددونها في أحاديثهم ويضعونها في منشوراتهم، وهذه التعليلات أو المطالب أو الاحتجاجات قد تبدو في أغلبها سطحية أو غير ناضجة أو مدروسة، ولكن تبقي الحقيقة التي لا شك فيها وراء كل هذا، وهي شعورهم جميعاً بأنهم قلقون لشيء ما، وأنهم ما عادوا يحتملون ما هم فيه من إحساس بالضياع.

والآن ما هو منشأ الإحساس العام بالقلق والاضطراب والضياع في نفوس الناس؟ لعل السبب الأهم في ذلك هو عدم وضوح الطريق أمامهم، فالصيحة المرتفعة أمامهم في كل حين بكلمة المعركة، وأن الطريق هو المعركة كان من الممكن أن يكون هو الجواب عن أسئلتهم والطريق الواضح أمام أعينهم. وهذا لا شك ما أرادت الدولة أن تقدمه كجواب أو مصباح لوضوح الرؤية في طريق المستقبل المعتم، ولكن مع الأسف تمضي الأيام وتصبح كلمة المعركة مجرد كلمة غامضة لا حدود لها ولا أبعاد لمعناها ولا تحليل لعناصرها، مجرد كلمة تلوكها الأفواه، مستهلكة لكثرة مضغها، ويصبح الناس ويمسون وهذه الكلمة تردد علي جميع النغمات في الأناشيد والأغاني والخطب والشعارات، حتي فقدت قوتها وفعاليتها، بل وصدقها، وصارت اللقمة الممضوغة في الفم غصة، لا هم يستطيعون ابتلاعها، ولا هم يجرؤون علي لفظها، وأصبحوا في حيرة من شأنهم، وأصبح طريق المستقبل أمامهم مرة أخري مسدوداً وهم في ضياع.. ولما كان الشباب هو الجزء الحساس في الأمة، وهو الذي يعنيه المستقبل أكثر من غيره، فهو لا يري أمامه إلا الغد الكئيب. فهو يجتهد في دراسته ليحصل علي شهادته النهائية، فإذا هي شهادة القذف به في رمال الجبهة لينسي ما تعلمه ولا يجد عدواً يقاتله، وهذا أيضاً بالنسبة إليه هو الضياع.

أما بقية المواطنين فهم يعيشون في حياة صعبة سيئة الخدمات العامة، وكل نقص أو إهمال أو توقف أو عبث يختفي خلف صوت المعركة وفي انتظار المعركة وتمحكاً بالمعركة.. وإذا بالأمر في نظرهم ينقلب إلي مهزلة وإلي سخط وإلي قرف عام.

هذا بعض ما استقر في الضمائر هذه الأيام، ولابد من حل سريع لهذا الوضع، ولا يمكن أن يكون هناك حل إلا في الصدق، والصدق وحده، لأن الصدق هو الذي ينهي الحيرة ويقنع الناس ويهدئ النفوس.. لأن الغليان في باطن الإناء يهدأ إذا كشف الغطاء.. الشعب يريد أن يقتنع بشيء لأنه غير مقتنع، ولابد لراحة باله واقتناعه من عرض حقائق الموقف أمامه واضحة من كل جوانبها، وعليه هو أن يقرر وأن يعرف ويختار طريقه. وهذا يقتضي النظر في تغيير بعض الإجراءات التي تسير عليها الدولة اليوم، وفيها حرية الرأي والفكر، وحرية المناقشة، والعرض، لإبقاء الضوء علي كل شيء في هذا الضباب حتي تتضح الرؤية، وليكن ذلك داخل المؤسسات. إذا كانت السرية لظروفنا الحاضرة تقضي بذلك. علي ألا يكون للدولة رأي مسبق تضغط به علي أهل الرأي وتجعلهم مجرد أبواق لترديده وترويجه. بل أن تكون الدولة آخر من يبدي الرأي بعد أن تستمع، وهي جادة صادقة، إلي رأي مصر الحر أولاً، لا أن تصوغ هي الرأي وتضع الشعار وتلقي به إلي الناس وتفرضه عليهم فرضاً.. آن للدولة في هذه الظروف العصيبة أن تخفف هي من كل العبء والمسئولية وتضعها علي كاهل الأمة.. إن في ذلك مصلحتها وصيانة لها أمام التاريخ».

ذلك هو نص البيان الذي جاء توقيعه علي هذه الصورة: «الكتاب والأدباء المصريون. عنهم: توفيق الحكيم».

وكان مع توقيع توفيق الحكيم، كما سبقت الإشارة، عشرات التوقيعات من الكتاب والأدباء، وقد وصل هذا البيان إلي السادات بعد أن نشرته الصحف الأجنبية وتناقلته وكالات الأنباء العربية والعالمية، إذ إن البيان تسرب من أيدي أصحابه، وهم يجمعون التوقيعات، وقد يكون الذين قاموا بستريبه عامدين، هم بعض الصحفيين الذين وقعوه، وكانوا يعرفون أن السادات يشعر بالقلق والإنزعاج من أي شيء يحدث في مصر ويكون له صداه في العالم الخارجي، بما في ذلك الدول العربية، فالشيء الذي يبقي محصوراً في مصر وحدها يكون أقل إثارة لغضب السادات مما يتسرب إلي الخارج ويكون له صدي في العواصم العالمية والعربية.

غضب السادات غضباً عاصفاً من رسالة توفيق الحكيم، واعتبرها عملاً شديد العداء له، وكعادته تصرف بانفعال وعصبية، وأصدر قراراً بطرد كل الموقعين علي البيان من وظائفهم وأعمالهم المختلفة والغريب أن السادات لم يكتف بمعاقبة الموقعين، بل أضاف إليهم كل الكتاب والأدباء والصحفيين الذين يشك فيهم حتي لو لم يكونوا قد وقعوا علي البيان. وكان عدد المفصولين والمطرودين في هذه الحملة الهمجية التي شنها السادات علي مثقفي مصر كثر من عدد المفصولين والمطرودين ممن وقعوا علي البيان، وعلي الرغم من أنني شخصياً لم أوقع علي البيان فقد كان اسمي بين المفصولين والمطرودين.

كان تاريخ هذه الحملة الساداتية علي المثقفين والصحفيين المصريين هو 4 فبراير سنة 1973، وكان من بين المطرودين في قرار السادات، كما سبقت الإشارة، أسماء كبيرة مثل نجيب محفوظ، وأحمد بهاء الدين، ويوسف إدريس وغيرهم، أما توفيق الحكيم كاتب هذا البيان الصريح الجريء الشجاع فلم يتعرض للفصل أو الطرد، وإنما صدر قرار ضده بمنعه من الكتابة وقد علق توفيق الحكيم علي هذا البيان عندما نشره في كتابه «شجرة الحكم في مصر - 1919 - 1979» بقوله: «كانت نتيجة هذه الرسالة أو هذا البيان طرد وتشريد أكثر المشتركين في التوقيع عليه، وكان أن شتمني السادات في اجتماع عام حيث قال: ما هذا «الهباب» الذي كتبه توفيق الحكيم»!

وهكذا اتخذ توفيق الحكيم موقفاً حاسماً في عهد أنور السادات، وشارك في التعبير عن رفض الرأي العام لحالة الجمود والركود التي كانت قائمة علي الجبهة العسكرية، كما عبر الحكيم في صراحة ووضوح عن حالة الإحباط والضياع التي كانت منتشرة في الجبهة الداخلية، ولست أزعم أن عندي من المعلومات ما يؤكد أن هذه الرسالة أو هذا البيان الذي كتبه توفيق الحكيم كان له تأثيره في قرار السادات ببدء المعركة العسكرية في 6 أكتوبر، أي بعد أقل من عشرة أشهر من صدور هذا البيان. ليس هناك أي معلومات تؤكد مثل هذا الاستنتاج، لكننا لو استخدمنا العقل والتحليل الدقيق للأحداث، لرأينا بوضوح أن هذا البيان قد أزعج السادات ونبهه إلي أن تجاهل الرأي العام لمدة طويلة أمر يهدد النظام والسلطة أخطر التهديد، ولذلك سارع السادات بتعبئة كل الإمكانات واتخذ قرار الحرب، وهو أعظم قرار اتخذه في حياته وهو قرار تاريخي له شأنه، ولعله القرار الوحيد الذي اتخذه السادات وأجمع أنصاره وخصومه علي احترامه وتقديره، أما بقية قرارات السادات فقد كانت في معظمها موضع خلاف شديد.

لقد أحس السادات بأن بياناً واضحاً وصريحاً ومؤلماً بهذه الصورة، يكتبه أديب كبير مثل توفيق الحكيم، مشهود له بالاعتدال والحرص علي الابتعاد عن أي عمل سياسي مباشر، إنما يعني أن الأمور قد وصلت إلي مأزق خطير، لا نجاة منه إلا بالعمل الجدي علي مواجهة العدو، فما لم نحارب هذا العدو فسوف ينتهي أمرنا بأن يحارب بعضنا بعضاً، ويبقي الاحتلال علي ما هو عليه.

في 28 سبتمبر سنة 1973، أي في يوم الذكري الثالثة لرحيل عبدالناصر، أصدر السادات قراراً مفاجئاً بإعادة جميع المفصولين والمطرودين من الكتاب الأدباء بسبب بيان توفيق الحكيم إلي أعمالهم، وبعدها بتسعة أيام كان الجيش المصري يعبر إلي الضفة الشرقية من قناة السويس ويرفع علم مصر علي أرض سيناء، ويطارد الإسرائيليين ويلحق بهم لأول مرة في تاريخهم هزيمة موجعة.

ولا شك أن بيان توفيق الحكيم أو رسالته إلي السادات، كان لها دورها وتأثيرها في التعجيل بالمعركة، وكانت هذه الرسالة ضمن عوامل أخري كثيرة وحسابات عديدة متنوعة، دافعاً من الدوافع التي جعلت إحساس السادات يزداد بأن تأخير المعركة سوف ينتج عنه تأثيرات سلبية لم يكن بإمكان السادات أن يتحملها أو يقف في وجهها.

0 التعليقات:

إرسال تعليق