هل تغيرت إسرائيل أم تغير شيخ الأزهر أم تغير القرآن؟
مرسلة بواسطة
Abdullah Khalaf
في الاثنين، 13 يوليو 2009
التسميات:
إبراهيم عيسى,
إسرائيل,
الأزهر,
الدستور,
بيريز,
طنطاوى,
عبد الناصر,
غاز,
فلسطين
1 التعليقات
إبراهيم عيسي يكتب:
عام 1966 كتب الشيخ طنطاوي: مفاهيم اليهود الباطلة وأنانيتهم الطاغية وأخلاقهم الفاسدة وعصبيتهم الذميمة وقلوبهم القاسية كل ذلك جعلهم محل نقمة العالم هذه السطور ليست معنية بشيخ الأزهر علي الإطلاق، وليس من أهدافي أن أناقش الشيخ محمد سيد طنطاوي ولا أن يقرأ أصلاً ولا أن يعرف أبداً بهذه السطور، فلا أظن أن هناك فائدة من أي نوع وعلي أي قدر وبأي درجة من مناقشة الشيخ طنطاوي ولا البحث عن أي حوار في أي موضوع معه، والشيء الفالح الوحيد الذي يمكن أن نفعله جميعاً مع الشيخ طنطاوي ألا نفعل معه شيئاً ولا نوجه له حديثاً، ومن شاء ألا يسمع له حديثاً فهو حر، شيخ الأزهر محل رضا السيد الرئيس تمام الرضا وهو ما يهم الشيخ فما دخلنا نحن فيما لا يعنينا، ومن ثم فإن أي معارضة للشيخ أو مناقشة أو نقد أو مؤاخذة أو تساؤل أو تحاور معه حول مشاركته للرئيس والوفد الإسرائيلي في مؤتمر قضاة الأديان الذي انعقد في أذربيجان الدولة المسلمة التي تطبع مع إسرائيل وتفتح قواعد عسكرية للقوات الأمريكية وهي كذلك واحدة من ديكتاتوريات الجمهوريات السوفيتية السابقة لا فائدة منه،
دعوا الشيخ طنطاوي يفعل ما يريد فهو لا يفعل إلا بعد أن يفكر ويتدبر ويسأل أجهزة الدولة وقصر الرئاسة فلما تأتيه الموافقة فلا حائل بينه وبين أن يفعل حتي لو وقف مليون مسلم أمامه يمنعونه عن الفعل ولو هتف فيه الملايين ألا يفعل فرجل واحد فقط يمكنه أن يؤثر في الشيخ وهو الرئيس، ومادام الأمر كذلك فلماذا لا نحفظ للأزهر وقاره (لا أقول كهنوته) ونسكت عن الشيخ وتصرفاته؟!
هذه السطور لا تشغل نفسها بالشيخ طنطاوي.
أنا هنا فقط لأقول لكم ترفقوا بالشيخ طنطاوي؛ فالرجل الذي يصافح الرئيس الإسرائيلي ويجالسه ويضع مؤسسة الأزهر (وهي ليست محل قداسة بالقطع وحاشا لله لكنها محل للتوقير والتقدير) في واجهة الدعاية الصهيونية الإسرائيلية عن سلام تل أبيب ورغبة حكامها في السلام والتعايش مع المسلمين والعرب وهذا كله تضليل وتزييف وغسيل للدماغ وجزء من الآلة الدعائية للصهيونية يجد الأزهر فيها نفسه في مقدمة الاستخدام والاستغلال عبر مشاركات الشيخ التي تبدو أنها لا تخضع لأي لائمة من الدولة فكأنها هي الدولة ولسان حالها: وفيها إيه يعني، وهيه الدنيا خربت، وماله ياخويا لما سلّم خلاص يعني فلسطين راحت عشان سلّم، وهو قعد معاه علي منصة ويقعد مع أي حد فيها إيه ما الرئيس مبارك بيقعد معاه! ومثل هذه الحجج البليدة الخائبة التي أرجوك لا تضيع في مناقشتها وقتك فهذا ليس مهما، المهم هو أن الشيخ محمد سيد طنطاوي نفسه عام 1966 حصل علي الدكتوراه من جامعة الأزهر في الحديث والتفسير بتقدير ممتاز وكان عنوان رسالته: (بنو إسرائيل في القرآن والسنة)، وقال الرجل نفسه الذي صافح بيريز وشاركه منصة المؤتمر الأخير في رسالته: (والقرآن الكريم في حديثه عن بني إسرائيل، يربط ربطاً محكماً بين طباع وأخلاق المعاصرين منهم للنبي صلي الله عليه وآله وسلم وطباع وأخلاق آبائهم الأولين الذين عاصروا موسي وعيسي وغيرهما من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذلك ليبين أن ما عليه الأبناء من فسوق وعصيان ومحاربة لدعوة الإسلام، إنما هو ميراث من الخلق السيئ توارثه الخلف عن السلف وأخذه الأبناء عن الآباء. ومن الأدلة علي صدق القرآن الكريم أن ما وصفهم به من صفات نراها في كل زمان ومكان منطبقة عليهم، ولم تزدهم الأيام إلا رسوخاً فيها).
الشيخ عام 1966حيث كان يحكمنا جمال عبدالناصر العروبي المعادي لإسرائيل كتب يقول في رسالته التي أراد بها الحصول علي درجة الدكتوراه فحصل: (ونحن المسلمين قد نالنا من اليهود أذي كثير.. فهم الذين حاربوا الدعوة الإسلامية بكل سلاح.. وهم الذين اغتصبوا بمعاونة دول الكفر قطعة من أرضنا المقدسة وهي فلسطين وأقاموا عليها دولة لهم في عام 1948م).
لكن لماذا اختار الشيخ طنطاوي وقتها وعمره ثمانية وثلاثون عاما اليهود موضوعاً للدراسة وللرسالة، هو يرد في مقدمة رسالته: (ولقد كان مقصدي الأول عندما اخترت موضوع رسالتي «بنو إسرائيل في القرآن والسنة» أن أكشف للشباب المسلم بصفة خاصة، وللعقلاء والمنصفين بصفة عامة عن أحوال بني إسرائيل، وتاريخهم، وأخلاقهم، وأكاذيبهم، وقبائحهم.. معتمداً في بيان ذلك كله علي ما جاء عنهم في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية المطهرة، وفي التاريخ الصحيح).
كان رأي الشيخ طنطاوي وقتها أن بني إسرائيل كذابون ويمتلئون بالقبح، ماشي وإيه كمان، يقول الرجل في رسالته التي تجاوزت السبعمائة صفحة في طبعتها الصادرة عن دار الشروق: (والشيء الذي نؤكده بعد سرد طرف من العقوبات التي نزلت باليهود في مختلف العصور والأمم، هو أن اليهود هم المسئولون عن كل اضطهاد وقع بهم، وأنهم مستحقون لهذه العقوبات لأسباب من أهمها:
أنانيتهم وأطماعهم التي لا حدود لها، فقد سوغت لهم أنانيتهم أن العالم ملك لهم بكل من فيه وما فيه، وأن عليهم متي حلوا في أي دولة أن ينهبوا خيراتها بكل وسيلة، وأن يجمعوا أموالها بأي طريقة، فإن المال هو معبود اليهود من قديم. ويقول «كارل ماركس» اليهودي والشيوعي الأول: «المال هو إله إسرائيل المطماع، وأمامه لا ينبغي لأي إله أن يعيش، لأن المال يخفض جميع آلهة البشر ويحولها إلي سلعة، المال هو القيمة العامة والمكونة في ذاتها لجميع الأشياء، لقد أصبح إله اليهود إلهاً دنيوياً، هذا هو الإله الحقيقي لليهود»).
تأمل شيخنا الفاضل في منتصف الستينيات يكتب عن اليهود: (لم يقل الصهاينة بل كان واضحاً جداً في «اتهامه اليهود من القرآن الكريم والسنة») بأنهم علي هذا القدر من الدناءة والأنانية والطمع بل يستشهد ويستعين مع القرآن والسنة لمزيد من التأكيد والتوثيق، بآراء كارل ماركس شخصياً الذي يصفه باليهودي والشيوعي الأول، إلي هذه الدرجة من الحماسة بلغ الشيخ طنطاوي منذ ثلاثة وأربعين عاماً في الهجوم علي اليهود، بل طبقاً لما كتبه الرجل فيمكن أن يتهمه اليهود بمعاداة السامية بل سيكون منطقياً جداً لو سمعنا من يصف ويوصف هذا الكلام المنشور في رسالة الدكتور طنطاوي بالعنصرية، بل لا أكاد أعقل هذه الاتهامات التي تنزع عن جنس بشري ودين إلهي أي قيمة طيبة بل تصفه بكل ما هو منحط، مما يجعل الواحد فينا المعادي لإسرائيل يطالب بأن يخفف الشيخ طنطاوي من غلواء الاتهامات التي تبدو فعلاً وهي تتلامس أو تتلاصق بقوة مع دعاوي العنصرية وكأننا قد أصبنا بعدوي أعدائنا، ومع ذلك فإن الشيخ طنطاوي يمضي في رسالته كأنما حماسه صنو إيمانه فيكتب نصاً: (وأنانية اليهود وجشعهم وأكلهم أموال الناس بالباطل، جعلهم محل نقمة العالم وغضبه، ولقد فطن بعض الزعماء العقلاء إلي خطر تغلغل اليهود في بلاده، فأخذ يطردهم منها، ويحذر أبناء أمته من شرورهم، ومن هؤلاء الزعماء العقلاء «بنيامين فرانكلين» ـ أحد رؤساء الولايات المتحدة ـ فإنه ألقي خطاباً قال فيه: هناك خطر عظيم يهدد الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك الخطر هو «اليهود» أيها السادة، إني أحذركم أيها السادة إذا لم تستثنوا اليهود من الهجرة إلي الأبد فسوف يلعنكم أبناؤكم وأحفادكم في قبوركم.. إن عقليتهم تختلف عنا حتي لو عاشوا بيننا عشرة أجيال، والنمر لا يستطيع تغيير لونه.. اليهود خطر علي هذه البلاد، وإذا دخولها فسوف يخربونها ويفسدونها).
ويضيف الشيخ طنطاوي: (للتعليق علي هذا الخطاب نقول: ما أصدق ما توقعه «فرانكلين» لولا أنه قد أخطأ التقدير في المدة اللازمة لتحويل أمريكا إلي بقرة حلوب لليهود، فقد قدر «فرانكلين» هذه المدة بمائتي سنة، بينما استطاع اليهود أن يسخروا سياسة أمريكا وأسلحتها، وأموالها، وعلمها ونفوذها وخيراتها، لخدمتهم الخاصة في مدة تقل عما توقعه بأكثر من خمسين سنة).
الشيخ طنطاوي الذي يصافح رئيس إسرائيل ويحاوره في مؤتمر الأديان ويجلس في منصته معه في مؤتمر لقضاة الأديان قال عن اليهود (لا الصهاينة) في رسالته للدكتوراه إن من أسباب كراهية العالم لليهود (غرورهم وتعاليهم؛ فاليهود يعتبرون أنفسهم أبناء الله وأحباءه، وشعبه المختار، ومن قديم الزمن وهم يقسمون العالم إلي قسمين متقابلين: قسم إسرائيل وهم: صفوة الخلق، وأصحاب الحظوة عند الله، وقسم آخر يسمونه: الأمم أو «الجوييم» أي: غير اليهود، ومعني «جوييم» عندهم: وثنيون وكفرة وبهائم وأنجاس. وقد أدي هذا الغرور والتعالي باليهود إلي إهدار كل حق لغيرهم عليهم).
واسمعوا الشيخ طنطاوي وصدقوه أو لا تصدقوه فلكم كل الحق في التردد والحيرة، فالشيخ الذي يصافح ويجلس مع اليهود الآن قال عنهم إنهم اشتهروا بـ (عزلتهم وعصبيتهم وخيانتهم للبلاد التي آوتهم، فهم متعصبون متحزبون، لا يجمعهم حب بعضهم لبعض، لكن تجمعهم كراهية من ليس علي ملتهم، كما يجمعهم الحقد علي العالم بأسره، وقد أصبحت العزلة والعصبية والعنصرية طابع اليهود الذي لا محيد لهم عنه. لأن اليهودي يهودي قبل كل شيء، مهما تكن جنسيته، ومهما يعتنق من عقائد، ومبادئ في الظاهر، وإذا تعارضت جنسيته مع يهوديته ناصر يهوديته، وحاول أن يشيع الخراب والدمار في الأمة التي هو فرد من أفرادها، خصوصاً إذا أمن العقاب، والصهيونية العالمية تأمر اليهود في كل مكان بأن يجعلوا ولاءهم لإسرائيل، وليس للدول التي يعيشون فيها).
الشيخ طنطاوي بعد كل هذا الذي كتبه من هجوم ساحق وإدانة دينية وحملة إسلامية ضد اليهود لا أقول كيف جلس مع الرئيس الإسرائيلي بل كيف وافق الرئيس الإسرائيلي علي أن يجلس معه رغم أن عشرة في المائة مما قاله وكتبه أكبر عمامة في المذهب السني في العالم الإسلامي وهو شيخ الأزهر كفيل بأن يطلب اليهود محاكمته دولياً والتحريض ضده باعتبار ما كتبه عنصرية خالصة، بل إن الشيخ طنطاوي كتب مدافعاً عن هتلر النازي العنصري السفاح في مواجهة اليهود بل وعرض متعاطفاً لتبريراته لما فعله مع اليهود من حرق وتقتيل وإفناء فقال الشيخ في رسالته: (وقد عدد «هتلر» خيانات اليهود لألمانيا، فذكر منها استنزاف أموال الشعب بالربا الفادح، وإفساد التعليم، والسيطرة لصالحهم علي المصارف والبورصة والشركات التجارية، والسيطرة علي دور النشر، والتدخل في سياسة الدولة لغير مصلحة ألمانيا، وفي القمة من خياناتهم: التجسس ضد ألمانيا الذي احترفه عدد كبير منهم. ويختتم هتلر حديثه الطويل عن اليهود بقوله: «وإذا قيض لليهودي أن يتغلب علي شعوب هذا العالم، فسيكون تاجه إكليل جنازة البشرية، لهذا أعتقد أني تصرفت معهم حسبما شاء الخالق لأني بدفاعي عن نفسي ضد اليهودي إنما أناضل في سبيل الدفاع عن عمل الخالق)، والحقيقة أن ما قاله الشيخ طنطاوي ـ مسنوداً ومستنداً إلي فهمه للقرآن والسنة ـ لا يختلف كثيراً عما ردده وقاله هتلر شخصياً.
ويمضي الشيخ طنطاوي: (والحق: أن مفاهيم اليهود الباطلة، وأنانيتهم الطاغية، وطباعهم اللئيمة وأخلاقهم الفاسدة، وعصبيتهم الذميمة، وقلوبهم القاسية، واستباحتهم لقتل غيرهم، وإهدار كرامته، كل ذلك جعلهم محل نقمة العالم وغضبه، وبسبب هذه الخلاق المرذولة سلط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب إلي يوم القيامة، ومن يمزقهم شر ممزق).
لكن الأهم والأخطر من هذا كله هو ما يطرحه الدكتور سيد طنطاوي في إجابة عن سؤال يوجهه هو لنفسه ولمشرف رسالته وهو: كيف نعيد فلسطين إسلامية عربية؟ تعالوا بقي نتأمل ما الذي نصح به أمته الشيخ طنطاوي وهو العالم المتدبر المتفكر يقول:
(1- يجب علينا أن نعلم أن حرباً فاصلة ستقع بين المسلمين واليهود، وأن النصر فيها سيكون للمسلمين، ماداموا معتصمين بدينهم، ومنفذين لتعاليم قرآنهم، وعاملين بسنة نبيهم، فقد أخرج البخاري ومسلم، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله «صلي الله عليه وآله وسلم» قال: «تقاتلون اليهود حتي يختبئ أحدهم وراء الحجر فيقول: يا عبدالله هذا يهودي ورائي فاقتله».
وفي حديث آخر للشيخين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله «صلي الله عليه وآله وسلم» قال: «لا تقوم الساعة حتي يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتي يختبئ اليهودي وراء الحجر أو الشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم، يا عبدالله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود».
فهذان الحديثان الصحيحان فيهما إخبار للمسلمين بأن قتالاً عظيماً سيقع بين المسلمين واليهود قبل قيام الساعة، وأن النصر سيكون للمسلمين، متي استجابوا للأوامر، التي أمرهم الله بها، وأن الله تعالي سيكرمهم بأن يخبر الحجر أو الشجر المسلم بأن يهودياً وراءهما فعليه أن يقتله.
السؤال الآن: هل أخبر الشيخ طنطاوي رأيه هذا للرئيس شيمون بيريز وهما يتحاوران في الأديان؟ أو في الدينين الاسلامي واليهودي دعك من هذا وتعال نكمل ما قاله طنطاوي من نصائح لاسترداد فلسطين المحتلة مع الاعتبار بأنه لم يعمل بها:
2- يجب علينا أن نوقن بأن الأيام دول، وأن ما أصابنا بفلسطين من الممكن تداركه، متي تحلينا بالإيمان الصادق، والعزم القوي، والتصميم علي استعادة أرضنا المقدسة، وباتخاذ الوسائل الكفيلة بذلك.
3- يجب علي الأمتين: الإسلامية والعربية أن توحدا قيادة المعركة وأن تسلماها لأيد أمينة مخلصة، وأن تحوطاها بالتأييد إذا أحسنت واستقامت، وبالتوجيه والإصلاح والتقويم إذا أخطأت وضلت، وأن تنأي بها عن الخلافات والمنازعات التي قد تحدث بين الزعماء والملوك والرؤساء.. أريد أن أقول: (حتي لا تنسي فالشيخ طنطاوي هو الذي يقول): إن إنقاذ فلسطين من السرطان الصهيوني، يحتاج إلي جيش موحد القيادة، محدد الهدف، معد إعداداً كاملاً قوياً من جميع النواحي، مؤمناً بقدسية المعركة التي يخوضها، بعيداً عن التأثر بخلافات السياسيين، الذين بيدهم مقاليد الحكم في البلاد العربية.
4- يجب أن تبذل الأمتان: العربية والإسلامية قصاري جهدهما في التذكير بقضية فلسطين، وأن تقوم وسائل الإعلام المختلفة في كل دولة بالدعاية الواسعة لها، وأن يدرس تاريخها في المدارس والمعاهد والجامعات، وأن توزع خريطتها وصور أماكنها المقدسة في كل مكان، وبذلك تبقي نكبة فلسطين حية في القلوب والمشاعر.
إن هذا الجيل الذي عاصر مأساة فلسطين سوف ينقرض، وستأتي بعده أجيال أخري إذا لم نذكرها بهذه المأساة، ونربطها بقلوبهم دينياً وسياسياً وثقافياً واقتصادياً، فإنها ستصبح نسياً منسياً، ولن يمر وقت طويل حتي تختفي مأساة فلسطين من قلوبهم، كما اختفت مأساة الأندلس بمرور الأيام، وتعاقب السنين.
5- يجب أن تقف الأمتان: العربية والإسلامية من الدول التي ناصرت الصهيونية موقفاً قوياً حاسماً، وأن تستعملا أسلحتهما المتنوعة في صرف هذه الدول عن مناصرتها الباطلة لليهود، ومن أقوي الأسلحة سلاح البترول الذي يوجد في بلادنا بكميات هائلة، الذي لو أحسنَّا استغلاله واستعماله، لكفت دول الكفر عن تأييدها الصهيونية الباغية، ولن يأتي هذا السلاح وغيره بالثمار المرجوة منه، إلا إذا وحد العرب كلمتهم، ووقفوا صفاً واحداً أمام مؤامرات الاستعمار واليهودية العالمية.
6- يجب أن تعمل الدول العربية والإسلامية علي تقوية الفدائيين الفلسطينيين من كل النواحي، وأن تختارهم من العناصر المأمونة والمؤمنة بربها وبدينها وبوطنها.. وأن تعطيهم من الإمكانات ما يجعلهم يستطيعون أن يزلزلوا به كيان الصهيونيين، عن طريق حرب العصابات، لأن هذه الحرب من شأنها أن تهدد أمن إسرائيل واستقرارها واقتصادها، وجميع مرافقها. وتكون هذه الحرب كمقدمة للمعركة الفاصلة التي يجب علي الأمة الإسلامية أن تخوضها ضد إسرائيل حتي تطهر الأرض المقدسة من اليهود. ولقد اتبعت عدة دول طريقة حرب العصابات ضد المستعمرين فانتصرت عليهم في النهاية، واستطاعت أن تنال حريتها رغم أنوفهم، (الله يا شيخ طنطاوي هكذا تورد الإبل يا مولانا، لكن هذا كلامك أيام جمال عبدالناصر وقد راحت أيامه، فهل نذكرك بكلامك عن حرب العصابات في 2006 وعن حماس والفدائيين الفلسطينيين الآن؟).
7- يجب أن نخوض معركة فلسطين المقبلة علي أساس من الجهاد الديني، وليس علي أساس النعرة الوطنية وحدها، وذلك لأن فلسطين بلد إسلامي مقدس كما قلنا سابقاً، وهي ملك لجميع المسلمين، وواجب الذود عنها فرض علي كل مسلم علي وجه الأرض.
واليهود قد استغلوا الناحية الدينية علي أوسع نطاق، لتثبيت باطلهم في فلسطين بحيث أفهموا دول الغرب وخصوصاً إنجلترا أن فلسطين هي أرض معادهم، وأن أرضها لهم وحدهم بنص التوراة.. بينما العرب المسلمون أسقطوا هذا الجانب الديني المهم من حسابهم.. فخاضوا معركة فلسطين باسم النعرات الوطنية والقومية، وسخر بعض كتابهم بالنواحي الدينية.. فكان مصيرهم الفشل).
هذه نصائح الشيخ طنطاوي لتحرير فلسطين من اليهود الذين كال لهم كل هذه الاتهامات المفزعة المقزعة استناداً إلي فهمه للقرآن الكريم والسنة المطهرة وهو يدعونا للمقاومة المسلحة بل حرب العصابات ضد اليهود، لكن بعد مجيء الرئيس السادات وقد جنح للسلم فجنح معه كل رجال الدين وشيوخه الذين قالوا كلام جمال عبدالناصر نفسه عن العدو الإسرائيلي بل ألبسوه رداء الدين وعمامة الفقه ، ثم يأتي حكم الرئيس حسني مبارك الذي تبدو فيه إسرائيل صديقاً وحليفاً فنري الشيخ طنطاوي صاحب رسالة دكتوراه عصر عبدالناصر هو شيخ أزهر عصر مبارك فيصافح اليهود ويجلس معهم ويحاورهم كذلك ويتشارك مع رئيس اليهود ذات نفسه!
السؤال الآن بعد كل هذا التبدل والتغير والاختلاف والتنقل والتنصل من الأفكار المستمدة من القرآن عن اليهود: هل تغيرت إسرائيل أم تغير شيخ الأزهر أم تغير القرآن؟
عام 1966 كتب الشيخ طنطاوي: مفاهيم اليهود الباطلة وأنانيتهم الطاغية وأخلاقهم الفاسدة وعصبيتهم الذميمة وقلوبهم القاسية كل ذلك جعلهم محل نقمة العالم هذه السطور ليست معنية بشيخ الأزهر علي الإطلاق، وليس من أهدافي أن أناقش الشيخ محمد سيد طنطاوي ولا أن يقرأ أصلاً ولا أن يعرف أبداً بهذه السطور، فلا أظن أن هناك فائدة من أي نوع وعلي أي قدر وبأي درجة من مناقشة الشيخ طنطاوي ولا البحث عن أي حوار في أي موضوع معه، والشيء الفالح الوحيد الذي يمكن أن نفعله جميعاً مع الشيخ طنطاوي ألا نفعل معه شيئاً ولا نوجه له حديثاً، ومن شاء ألا يسمع له حديثاً فهو حر، شيخ الأزهر محل رضا السيد الرئيس تمام الرضا وهو ما يهم الشيخ فما دخلنا نحن فيما لا يعنينا، ومن ثم فإن أي معارضة للشيخ أو مناقشة أو نقد أو مؤاخذة أو تساؤل أو تحاور معه حول مشاركته للرئيس والوفد الإسرائيلي في مؤتمر قضاة الأديان الذي انعقد في أذربيجان الدولة المسلمة التي تطبع مع إسرائيل وتفتح قواعد عسكرية للقوات الأمريكية وهي كذلك واحدة من ديكتاتوريات الجمهوريات السوفيتية السابقة لا فائدة منه،
دعوا الشيخ طنطاوي يفعل ما يريد فهو لا يفعل إلا بعد أن يفكر ويتدبر ويسأل أجهزة الدولة وقصر الرئاسة فلما تأتيه الموافقة فلا حائل بينه وبين أن يفعل حتي لو وقف مليون مسلم أمامه يمنعونه عن الفعل ولو هتف فيه الملايين ألا يفعل فرجل واحد فقط يمكنه أن يؤثر في الشيخ وهو الرئيس، ومادام الأمر كذلك فلماذا لا نحفظ للأزهر وقاره (لا أقول كهنوته) ونسكت عن الشيخ وتصرفاته؟!
هذه السطور لا تشغل نفسها بالشيخ طنطاوي.
أنا هنا فقط لأقول لكم ترفقوا بالشيخ طنطاوي؛ فالرجل الذي يصافح الرئيس الإسرائيلي ويجالسه ويضع مؤسسة الأزهر (وهي ليست محل قداسة بالقطع وحاشا لله لكنها محل للتوقير والتقدير) في واجهة الدعاية الصهيونية الإسرائيلية عن سلام تل أبيب ورغبة حكامها في السلام والتعايش مع المسلمين والعرب وهذا كله تضليل وتزييف وغسيل للدماغ وجزء من الآلة الدعائية للصهيونية يجد الأزهر فيها نفسه في مقدمة الاستخدام والاستغلال عبر مشاركات الشيخ التي تبدو أنها لا تخضع لأي لائمة من الدولة فكأنها هي الدولة ولسان حالها: وفيها إيه يعني، وهيه الدنيا خربت، وماله ياخويا لما سلّم خلاص يعني فلسطين راحت عشان سلّم، وهو قعد معاه علي منصة ويقعد مع أي حد فيها إيه ما الرئيس مبارك بيقعد معاه! ومثل هذه الحجج البليدة الخائبة التي أرجوك لا تضيع في مناقشتها وقتك فهذا ليس مهما، المهم هو أن الشيخ محمد سيد طنطاوي نفسه عام 1966 حصل علي الدكتوراه من جامعة الأزهر في الحديث والتفسير بتقدير ممتاز وكان عنوان رسالته: (بنو إسرائيل في القرآن والسنة)، وقال الرجل نفسه الذي صافح بيريز وشاركه منصة المؤتمر الأخير في رسالته: (والقرآن الكريم في حديثه عن بني إسرائيل، يربط ربطاً محكماً بين طباع وأخلاق المعاصرين منهم للنبي صلي الله عليه وآله وسلم وطباع وأخلاق آبائهم الأولين الذين عاصروا موسي وعيسي وغيرهما من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذلك ليبين أن ما عليه الأبناء من فسوق وعصيان ومحاربة لدعوة الإسلام، إنما هو ميراث من الخلق السيئ توارثه الخلف عن السلف وأخذه الأبناء عن الآباء. ومن الأدلة علي صدق القرآن الكريم أن ما وصفهم به من صفات نراها في كل زمان ومكان منطبقة عليهم، ولم تزدهم الأيام إلا رسوخاً فيها).
الشيخ عام 1966حيث كان يحكمنا جمال عبدالناصر العروبي المعادي لإسرائيل كتب يقول في رسالته التي أراد بها الحصول علي درجة الدكتوراه فحصل: (ونحن المسلمين قد نالنا من اليهود أذي كثير.. فهم الذين حاربوا الدعوة الإسلامية بكل سلاح.. وهم الذين اغتصبوا بمعاونة دول الكفر قطعة من أرضنا المقدسة وهي فلسطين وأقاموا عليها دولة لهم في عام 1948م).
لكن لماذا اختار الشيخ طنطاوي وقتها وعمره ثمانية وثلاثون عاما اليهود موضوعاً للدراسة وللرسالة، هو يرد في مقدمة رسالته: (ولقد كان مقصدي الأول عندما اخترت موضوع رسالتي «بنو إسرائيل في القرآن والسنة» أن أكشف للشباب المسلم بصفة خاصة، وللعقلاء والمنصفين بصفة عامة عن أحوال بني إسرائيل، وتاريخهم، وأخلاقهم، وأكاذيبهم، وقبائحهم.. معتمداً في بيان ذلك كله علي ما جاء عنهم في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية المطهرة، وفي التاريخ الصحيح).
كان رأي الشيخ طنطاوي وقتها أن بني إسرائيل كذابون ويمتلئون بالقبح، ماشي وإيه كمان، يقول الرجل في رسالته التي تجاوزت السبعمائة صفحة في طبعتها الصادرة عن دار الشروق: (والشيء الذي نؤكده بعد سرد طرف من العقوبات التي نزلت باليهود في مختلف العصور والأمم، هو أن اليهود هم المسئولون عن كل اضطهاد وقع بهم، وأنهم مستحقون لهذه العقوبات لأسباب من أهمها:
أنانيتهم وأطماعهم التي لا حدود لها، فقد سوغت لهم أنانيتهم أن العالم ملك لهم بكل من فيه وما فيه، وأن عليهم متي حلوا في أي دولة أن ينهبوا خيراتها بكل وسيلة، وأن يجمعوا أموالها بأي طريقة، فإن المال هو معبود اليهود من قديم. ويقول «كارل ماركس» اليهودي والشيوعي الأول: «المال هو إله إسرائيل المطماع، وأمامه لا ينبغي لأي إله أن يعيش، لأن المال يخفض جميع آلهة البشر ويحولها إلي سلعة، المال هو القيمة العامة والمكونة في ذاتها لجميع الأشياء، لقد أصبح إله اليهود إلهاً دنيوياً، هذا هو الإله الحقيقي لليهود»).
تأمل شيخنا الفاضل في منتصف الستينيات يكتب عن اليهود: (لم يقل الصهاينة بل كان واضحاً جداً في «اتهامه اليهود من القرآن الكريم والسنة») بأنهم علي هذا القدر من الدناءة والأنانية والطمع بل يستشهد ويستعين مع القرآن والسنة لمزيد من التأكيد والتوثيق، بآراء كارل ماركس شخصياً الذي يصفه باليهودي والشيوعي الأول، إلي هذه الدرجة من الحماسة بلغ الشيخ طنطاوي منذ ثلاثة وأربعين عاماً في الهجوم علي اليهود، بل طبقاً لما كتبه الرجل فيمكن أن يتهمه اليهود بمعاداة السامية بل سيكون منطقياً جداً لو سمعنا من يصف ويوصف هذا الكلام المنشور في رسالة الدكتور طنطاوي بالعنصرية، بل لا أكاد أعقل هذه الاتهامات التي تنزع عن جنس بشري ودين إلهي أي قيمة طيبة بل تصفه بكل ما هو منحط، مما يجعل الواحد فينا المعادي لإسرائيل يطالب بأن يخفف الشيخ طنطاوي من غلواء الاتهامات التي تبدو فعلاً وهي تتلامس أو تتلاصق بقوة مع دعاوي العنصرية وكأننا قد أصبنا بعدوي أعدائنا، ومع ذلك فإن الشيخ طنطاوي يمضي في رسالته كأنما حماسه صنو إيمانه فيكتب نصاً: (وأنانية اليهود وجشعهم وأكلهم أموال الناس بالباطل، جعلهم محل نقمة العالم وغضبه، ولقد فطن بعض الزعماء العقلاء إلي خطر تغلغل اليهود في بلاده، فأخذ يطردهم منها، ويحذر أبناء أمته من شرورهم، ومن هؤلاء الزعماء العقلاء «بنيامين فرانكلين» ـ أحد رؤساء الولايات المتحدة ـ فإنه ألقي خطاباً قال فيه: هناك خطر عظيم يهدد الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك الخطر هو «اليهود» أيها السادة، إني أحذركم أيها السادة إذا لم تستثنوا اليهود من الهجرة إلي الأبد فسوف يلعنكم أبناؤكم وأحفادكم في قبوركم.. إن عقليتهم تختلف عنا حتي لو عاشوا بيننا عشرة أجيال، والنمر لا يستطيع تغيير لونه.. اليهود خطر علي هذه البلاد، وإذا دخولها فسوف يخربونها ويفسدونها).
ويضيف الشيخ طنطاوي: (للتعليق علي هذا الخطاب نقول: ما أصدق ما توقعه «فرانكلين» لولا أنه قد أخطأ التقدير في المدة اللازمة لتحويل أمريكا إلي بقرة حلوب لليهود، فقد قدر «فرانكلين» هذه المدة بمائتي سنة، بينما استطاع اليهود أن يسخروا سياسة أمريكا وأسلحتها، وأموالها، وعلمها ونفوذها وخيراتها، لخدمتهم الخاصة في مدة تقل عما توقعه بأكثر من خمسين سنة).
الشيخ طنطاوي الذي يصافح رئيس إسرائيل ويحاوره في مؤتمر الأديان ويجلس في منصته معه في مؤتمر لقضاة الأديان قال عن اليهود (لا الصهاينة) في رسالته للدكتوراه إن من أسباب كراهية العالم لليهود (غرورهم وتعاليهم؛ فاليهود يعتبرون أنفسهم أبناء الله وأحباءه، وشعبه المختار، ومن قديم الزمن وهم يقسمون العالم إلي قسمين متقابلين: قسم إسرائيل وهم: صفوة الخلق، وأصحاب الحظوة عند الله، وقسم آخر يسمونه: الأمم أو «الجوييم» أي: غير اليهود، ومعني «جوييم» عندهم: وثنيون وكفرة وبهائم وأنجاس. وقد أدي هذا الغرور والتعالي باليهود إلي إهدار كل حق لغيرهم عليهم).
واسمعوا الشيخ طنطاوي وصدقوه أو لا تصدقوه فلكم كل الحق في التردد والحيرة، فالشيخ الذي يصافح ويجلس مع اليهود الآن قال عنهم إنهم اشتهروا بـ (عزلتهم وعصبيتهم وخيانتهم للبلاد التي آوتهم، فهم متعصبون متحزبون، لا يجمعهم حب بعضهم لبعض، لكن تجمعهم كراهية من ليس علي ملتهم، كما يجمعهم الحقد علي العالم بأسره، وقد أصبحت العزلة والعصبية والعنصرية طابع اليهود الذي لا محيد لهم عنه. لأن اليهودي يهودي قبل كل شيء، مهما تكن جنسيته، ومهما يعتنق من عقائد، ومبادئ في الظاهر، وإذا تعارضت جنسيته مع يهوديته ناصر يهوديته، وحاول أن يشيع الخراب والدمار في الأمة التي هو فرد من أفرادها، خصوصاً إذا أمن العقاب، والصهيونية العالمية تأمر اليهود في كل مكان بأن يجعلوا ولاءهم لإسرائيل، وليس للدول التي يعيشون فيها).
الشيخ طنطاوي بعد كل هذا الذي كتبه من هجوم ساحق وإدانة دينية وحملة إسلامية ضد اليهود لا أقول كيف جلس مع الرئيس الإسرائيلي بل كيف وافق الرئيس الإسرائيلي علي أن يجلس معه رغم أن عشرة في المائة مما قاله وكتبه أكبر عمامة في المذهب السني في العالم الإسلامي وهو شيخ الأزهر كفيل بأن يطلب اليهود محاكمته دولياً والتحريض ضده باعتبار ما كتبه عنصرية خالصة، بل إن الشيخ طنطاوي كتب مدافعاً عن هتلر النازي العنصري السفاح في مواجهة اليهود بل وعرض متعاطفاً لتبريراته لما فعله مع اليهود من حرق وتقتيل وإفناء فقال الشيخ في رسالته: (وقد عدد «هتلر» خيانات اليهود لألمانيا، فذكر منها استنزاف أموال الشعب بالربا الفادح، وإفساد التعليم، والسيطرة لصالحهم علي المصارف والبورصة والشركات التجارية، والسيطرة علي دور النشر، والتدخل في سياسة الدولة لغير مصلحة ألمانيا، وفي القمة من خياناتهم: التجسس ضد ألمانيا الذي احترفه عدد كبير منهم. ويختتم هتلر حديثه الطويل عن اليهود بقوله: «وإذا قيض لليهودي أن يتغلب علي شعوب هذا العالم، فسيكون تاجه إكليل جنازة البشرية، لهذا أعتقد أني تصرفت معهم حسبما شاء الخالق لأني بدفاعي عن نفسي ضد اليهودي إنما أناضل في سبيل الدفاع عن عمل الخالق)، والحقيقة أن ما قاله الشيخ طنطاوي ـ مسنوداً ومستنداً إلي فهمه للقرآن والسنة ـ لا يختلف كثيراً عما ردده وقاله هتلر شخصياً.
ويمضي الشيخ طنطاوي: (والحق: أن مفاهيم اليهود الباطلة، وأنانيتهم الطاغية، وطباعهم اللئيمة وأخلاقهم الفاسدة، وعصبيتهم الذميمة، وقلوبهم القاسية، واستباحتهم لقتل غيرهم، وإهدار كرامته، كل ذلك جعلهم محل نقمة العالم وغضبه، وبسبب هذه الخلاق المرذولة سلط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب إلي يوم القيامة، ومن يمزقهم شر ممزق).
لكن الأهم والأخطر من هذا كله هو ما يطرحه الدكتور سيد طنطاوي في إجابة عن سؤال يوجهه هو لنفسه ولمشرف رسالته وهو: كيف نعيد فلسطين إسلامية عربية؟ تعالوا بقي نتأمل ما الذي نصح به أمته الشيخ طنطاوي وهو العالم المتدبر المتفكر يقول:
(1- يجب علينا أن نعلم أن حرباً فاصلة ستقع بين المسلمين واليهود، وأن النصر فيها سيكون للمسلمين، ماداموا معتصمين بدينهم، ومنفذين لتعاليم قرآنهم، وعاملين بسنة نبيهم، فقد أخرج البخاري ومسلم، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله «صلي الله عليه وآله وسلم» قال: «تقاتلون اليهود حتي يختبئ أحدهم وراء الحجر فيقول: يا عبدالله هذا يهودي ورائي فاقتله».
وفي حديث آخر للشيخين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله «صلي الله عليه وآله وسلم» قال: «لا تقوم الساعة حتي يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتي يختبئ اليهودي وراء الحجر أو الشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم، يا عبدالله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود».
فهذان الحديثان الصحيحان فيهما إخبار للمسلمين بأن قتالاً عظيماً سيقع بين المسلمين واليهود قبل قيام الساعة، وأن النصر سيكون للمسلمين، متي استجابوا للأوامر، التي أمرهم الله بها، وأن الله تعالي سيكرمهم بأن يخبر الحجر أو الشجر المسلم بأن يهودياً وراءهما فعليه أن يقتله.
السؤال الآن: هل أخبر الشيخ طنطاوي رأيه هذا للرئيس شيمون بيريز وهما يتحاوران في الأديان؟ أو في الدينين الاسلامي واليهودي دعك من هذا وتعال نكمل ما قاله طنطاوي من نصائح لاسترداد فلسطين المحتلة مع الاعتبار بأنه لم يعمل بها:
2- يجب علينا أن نوقن بأن الأيام دول، وأن ما أصابنا بفلسطين من الممكن تداركه، متي تحلينا بالإيمان الصادق، والعزم القوي، والتصميم علي استعادة أرضنا المقدسة، وباتخاذ الوسائل الكفيلة بذلك.
3- يجب علي الأمتين: الإسلامية والعربية أن توحدا قيادة المعركة وأن تسلماها لأيد أمينة مخلصة، وأن تحوطاها بالتأييد إذا أحسنت واستقامت، وبالتوجيه والإصلاح والتقويم إذا أخطأت وضلت، وأن تنأي بها عن الخلافات والمنازعات التي قد تحدث بين الزعماء والملوك والرؤساء.. أريد أن أقول: (حتي لا تنسي فالشيخ طنطاوي هو الذي يقول): إن إنقاذ فلسطين من السرطان الصهيوني، يحتاج إلي جيش موحد القيادة، محدد الهدف، معد إعداداً كاملاً قوياً من جميع النواحي، مؤمناً بقدسية المعركة التي يخوضها، بعيداً عن التأثر بخلافات السياسيين، الذين بيدهم مقاليد الحكم في البلاد العربية.
4- يجب أن تبذل الأمتان: العربية والإسلامية قصاري جهدهما في التذكير بقضية فلسطين، وأن تقوم وسائل الإعلام المختلفة في كل دولة بالدعاية الواسعة لها، وأن يدرس تاريخها في المدارس والمعاهد والجامعات، وأن توزع خريطتها وصور أماكنها المقدسة في كل مكان، وبذلك تبقي نكبة فلسطين حية في القلوب والمشاعر.
إن هذا الجيل الذي عاصر مأساة فلسطين سوف ينقرض، وستأتي بعده أجيال أخري إذا لم نذكرها بهذه المأساة، ونربطها بقلوبهم دينياً وسياسياً وثقافياً واقتصادياً، فإنها ستصبح نسياً منسياً، ولن يمر وقت طويل حتي تختفي مأساة فلسطين من قلوبهم، كما اختفت مأساة الأندلس بمرور الأيام، وتعاقب السنين.
5- يجب أن تقف الأمتان: العربية والإسلامية من الدول التي ناصرت الصهيونية موقفاً قوياً حاسماً، وأن تستعملا أسلحتهما المتنوعة في صرف هذه الدول عن مناصرتها الباطلة لليهود، ومن أقوي الأسلحة سلاح البترول الذي يوجد في بلادنا بكميات هائلة، الذي لو أحسنَّا استغلاله واستعماله، لكفت دول الكفر عن تأييدها الصهيونية الباغية، ولن يأتي هذا السلاح وغيره بالثمار المرجوة منه، إلا إذا وحد العرب كلمتهم، ووقفوا صفاً واحداً أمام مؤامرات الاستعمار واليهودية العالمية.
6- يجب أن تعمل الدول العربية والإسلامية علي تقوية الفدائيين الفلسطينيين من كل النواحي، وأن تختارهم من العناصر المأمونة والمؤمنة بربها وبدينها وبوطنها.. وأن تعطيهم من الإمكانات ما يجعلهم يستطيعون أن يزلزلوا به كيان الصهيونيين، عن طريق حرب العصابات، لأن هذه الحرب من شأنها أن تهدد أمن إسرائيل واستقرارها واقتصادها، وجميع مرافقها. وتكون هذه الحرب كمقدمة للمعركة الفاصلة التي يجب علي الأمة الإسلامية أن تخوضها ضد إسرائيل حتي تطهر الأرض المقدسة من اليهود. ولقد اتبعت عدة دول طريقة حرب العصابات ضد المستعمرين فانتصرت عليهم في النهاية، واستطاعت أن تنال حريتها رغم أنوفهم، (الله يا شيخ طنطاوي هكذا تورد الإبل يا مولانا، لكن هذا كلامك أيام جمال عبدالناصر وقد راحت أيامه، فهل نذكرك بكلامك عن حرب العصابات في 2006 وعن حماس والفدائيين الفلسطينيين الآن؟).
7- يجب أن نخوض معركة فلسطين المقبلة علي أساس من الجهاد الديني، وليس علي أساس النعرة الوطنية وحدها، وذلك لأن فلسطين بلد إسلامي مقدس كما قلنا سابقاً، وهي ملك لجميع المسلمين، وواجب الذود عنها فرض علي كل مسلم علي وجه الأرض.
واليهود قد استغلوا الناحية الدينية علي أوسع نطاق، لتثبيت باطلهم في فلسطين بحيث أفهموا دول الغرب وخصوصاً إنجلترا أن فلسطين هي أرض معادهم، وأن أرضها لهم وحدهم بنص التوراة.. بينما العرب المسلمون أسقطوا هذا الجانب الديني المهم من حسابهم.. فخاضوا معركة فلسطين باسم النعرات الوطنية والقومية، وسخر بعض كتابهم بالنواحي الدينية.. فكان مصيرهم الفشل).
هذه نصائح الشيخ طنطاوي لتحرير فلسطين من اليهود الذين كال لهم كل هذه الاتهامات المفزعة المقزعة استناداً إلي فهمه للقرآن الكريم والسنة المطهرة وهو يدعونا للمقاومة المسلحة بل حرب العصابات ضد اليهود، لكن بعد مجيء الرئيس السادات وقد جنح للسلم فجنح معه كل رجال الدين وشيوخه الذين قالوا كلام جمال عبدالناصر نفسه عن العدو الإسرائيلي بل ألبسوه رداء الدين وعمامة الفقه ، ثم يأتي حكم الرئيس حسني مبارك الذي تبدو فيه إسرائيل صديقاً وحليفاً فنري الشيخ طنطاوي صاحب رسالة دكتوراه عصر عبدالناصر هو شيخ أزهر عصر مبارك فيصافح اليهود ويجلس معهم ويحاورهم كذلك ويتشارك مع رئيس اليهود ذات نفسه!
السؤال الآن بعد كل هذا التبدل والتغير والاختلاف والتنقل والتنصل من الأفكار المستمدة من القرآن عن اليهود: هل تغيرت إسرائيل أم تغير شيخ الأزهر أم تغير القرآن؟
قناة الجزيرة و«قطر» فى خطر
مرسلة بواسطة
Abdullah Khalaf
في السبت، 30 مايو 2009
التسميات:
إسرائيل,
إعلام,
الجزيرة,
اليوم السابع,
قطر,
مصر,
يسرى فودة
0
التعليقات
يسرى فودة
استقالتى من قناة الجزيرة لا تعنى أننى خاصمتها. ببساطة هى تعنى فقط أننى لا أريد أن أبقى رقماً فى معادلاتها الجديدة. إذا كان جانب منى حزيناً على فراق شاشتها، فإن جانباً آخر منى سعيد بانضمامى إلى مشاهديها. وإذا كان جانب منى يرجو لزملائى بها (هؤلاء فقط الصادقون المهنيون الذين يحترمون أنفسهم فيحترمهم الآخرون) كل التوفيق وكل النجاح ما وسعتهم الظروف، فإن جانباً آخر منى يدعونى إلى أن أتحمل واجبى ومسئوليتى تجاه نفسى وتجاه من أتوجه إليهم بما قدرنى الله عليه من عمل.
تجربة الحرية، بمعنى من المعانى، كتجربة الموت؛ فمثلما لا يستطيع المرء أن يزور الموت ثم يعود منه، لا يستطيع المرء أيضاً أن يزور الحرية ثم يعود منها. وقع عقلى على هذه الصورة الملهمة بينما كان هؤلاء الذين شاركوا فى تأسيس قناة الجزيرة (وأنا واحد منهم) فى نشوة اللحظات الأولى لانطلاقة القناة عام 1996.
كان الأمر مفاجأة لنا جميعا،ً فلم يكن أحد (حتى من هؤلاء الذين تخرجوا فى تليفزيون بى بى سى) ليتوقع ربع النجاح الفورى الذى أحرزته قناة انبثقت فجأة من صغرى الدول العربية. وأقولها صراحةً وإنصافاً إن الغالبية العظمى لهؤلاء الذين شكلوا نواة القناة غادروا لندن حين غادروها فى طريقهم إلى الدوحة مضطرين بعد انهيار مشروع بى بى سى (بقيت أنا لمجرد أننى استطعت البقاء مهنياً)، وأن أحداً منا لم تكن لديه فكرة عن كنه المشروع القطرى.
سريعاً بات من الواضح أن قناة الجزيرة وجدت ضالتها فى شارع عربى يعانى حرماناً على مستويات عديدة: سياسية وإعلامية وثقافية وإنسانية، ومن ثم استحوذت فجأة على خانة لا منافس لها فيها. ولأن المرء يتفوق على أقران الصف لسبب من ثلاثة، إما لأنه اجتهد أو لأن الآخرين أهملوا أو لمزيج من الاثنين، فقد بدا تفوق الجزيرة لأول وهلة فى تقديرى للسبب الثانى أكثر منه للسببين الآخرين دون أن أنكر على زملائى جهودهم.
فمن الناحية المهنية، لم نضف كثيراً إلى عالم الصحافة التليفزيونية عندما وضعنا مذيعاً فى استوديو ومعه ضيف أو اثنان. لكنّ الواقع العربى اكتسب الكثير عندما أضيف إلى الاستوديو عنصر آخر لم يعرفه من قبل، ولم يكن فى حاجة إلى ميزانية ولا إلى عبقرية: خط هاتف مفتوح لمن يريد أن يتكلم على الهواء أمام الملايين داخل بلاده وخارجها. لقد كان هذا ببساطة انقلاباً فى واقع المواطن العربى لا فضل كثيراً فيه للعاملين فى الجزيرة بقدر ما عاد الفضل فيه لما وصف وقتها بـ«سقف الحرية».
ولأن ما مُنح من أعلى يمكن أن يُسترد فى أى لحظة، فقد كانت تلك ظاهرة سياسية أكثر منها ظاهرة إعلامية جعلت رد فعل الآخرين عليها يمر بثلاث مراحل. كانت ملامح المرحلة الأولى منها سياسية بحتة، تمثلت فى أمور من مثل سحب سفراء من الدوحة واتصالات مكثفة وضغوط حثيثة لاحتواء هذه التى أطلق عليها البعض مصطلح »الظاهرة الصوتية«. وكالطفل الصغير الذى جرب المشاغبة فاكتشف أنها تلفت الأنظار، اكتشف المسئولون فى قطر، صغرى الدول العربية (ولا عيب فى ذلك)، أن بين أيديهم الآن ما يمكن أن يتحول إلى كنز وبين أيديهم دائماً حجة ألا شىء يحدث فى قطر يستحق التغطية (وهو ما ليس صحيحاً).
هذا فى الوقت الذى بدأ رد فعل الآخرين ينتقل إلى المرحلة الثانية تقوده طاقة سلبية أكثر منها إيجابية. فبدلاً من تطوير الأداء الإعلامى بدأت حملات لاذعة، بعضها تحت الحزام، صاحبها إغلاق مكاتب وتوقيف مراسلين و«شغل فى الأزرق». وكلما زاد ذلك زادت نشوة «الطفل المشاغب»، يوازيها شغف واهتمام متزايد فى دوائر إسرائيلية وأمريكية كانت تتابع انعكاسات هذه الظاهرة بدقة وعناية. ومن ثم بات واضحاً أننا أمام طوفان يحاصر البيت، وأننا إذا لم نبادر بإحداث بعض الثقوب فى الأبواب والنوافذ بأنفسنا، فلن يكون للطوفان سوى نتيجة واحدة حتمية.
كانت تلك لحظة فارقة تُحسب طبعاً لقناة الجزيرة، لكنها تُحسب أيضاً لهؤلاء الذين قبلوا التحدى وانطلقوا بطاقة إيجابية نحو تحسين الأداء الإعلامى، فبدأنا نرى ألواناً جديدة من التغطية الخبرية وبرامج الأحداث الجارية، حتى بدأنا نرى قنوات بأكملها تنطلق تعبيراً عن هذه المرحلة، ومنها قناة النيل للأخبار فى عام 1998 وقناة أبوظبى فى عام 2000 وقناة العربية فى عام 2003. والمستفيد الأول دون شك هو المواطن العربى أينما كان.
غير أن النجاح غير المشكوك فيه لقناة الجزيرة حتى تلك النقطة لم يكمن تماماً فى إزعاج الحكام العرب، وإنما ظهر واضحاً، كما يرى متابع جيد مثل أمير طاهرى، فى استغلال حالة ما يوصف بالشارع العربى واستدرار تعاطفه، عن طريق افتراض أن الأصولية الإسلامية فى تصاعد فى كل الدول العربية، وأن الغالبية العظمى تؤيدها سراً. ورغم ذلك كان هناك مجال لا يزال حتى تلك النقطة لمن يعتمدون العمل الصحفى الميدانى القائم على المهنية والبحث والتدقيق، للخروج عن هذا الخط، طالما أن ما يوصف بالبرامج الحوارية (التى يسهل السيطرة عليها) لا يزال «مسلّياً»، والأهم من ذلك أنه بطبيعته البحتة لا يستطيع الاستمرار بعيداً عن ذلك الخط.
بدأت مرحلة جديدة فاصلة بعد خمس سنوات صارت الجزيرة فيها أهم من قطر، وهو وضع غير طبيعى فتح باباً واسعاً لكثير من المتناقضات، حتى أن أحد الضيوف من غير العرب سأل الزميل محمد كريشان يومها (وهذه ليست نكتة): «و كيف حال الطقس هذه الأيام فى الجزيرة؟» ظناً منه أن قطر هى القناة والجزيرة هى الدولة. وكانت قناعة المسئولين فى قطر قد اكتملت بأن لديهم الآن جيشاً قوى البنية حان الوقت لاستخدامه فى بعض الغزوات، ومن ثم رفضوا تماماً (على عكس ما كان مفترضاً وفق قانون إنشائها) طرح أسهم الجزيرة فى الأسواق بعد خمس سنوات، وبدأنا نلحظ وتيرة متصاعدة للتدخلات التحريرية. حتى ذلك الوقت فقط كانت الإدارة قد رفضت إذاعة ثلاثة تحقيقات جادة من برنامج «سرى للغاية».
دشنت المرحلة التالية بدورها مرحلة أخرى على صعيد آخر: نظرة الغرب عموماً إلى مدى قدرة الإنسان العربى على ممارسة صحافة جادة قادرة على المنافسة العالمية، والأهم من ذلك نظرة دوائر بعينها فى إسرائيل وفى أمريكا إلى هذه «الورقة» الجديدة. ولأننا نعلم من قوانين الجغرافيا السياسية أن أى دولة فى حجم دولة كدولة قطر (مع صادق احترامنا لأهلها) لابد كى تحيا من أن تعيش تحت ظل دولة كبرى، عادةً تكون إحدى دول الجوار، فقد كان الموقف فى حالة دولة قطر كالتالى: إلى يمينها إيران «المتوثبة»، وإلى يسارها السعودية «كاتمة الأنفاس»، ومن فوقها عراق صدام، وعلى مرمى البصر إسرائيل ومصر. ثم بعد ذلك هناك شيخ الحارة كلها: أمريكا.
ولأننا نعلم أى خيار استراتيجى ذهب إليه المسئولون فى قطر فقد صارت الجزيرة، خاصةً لدى بداية تلك المرحلة، عضلة تبدو عملاقة، وإن كانت فى الواقع عضلة هشة يمكن ببساطة إغلاقها بمكالمة هاتفية مختصرة، مثلما يمكن ببساطة «اختطافها» لخدمة أهداف بعينها بعضها فورى وبعضها الآخر استراتيجى، بعضها يمكن رؤيته بالعين المجردة، وبعضها الآخر يحتاج إلى أكثر من ذلك بكثير. فى لحظات المصير، رغم ذلك، تسقط الأقنعة وتبين الملامح.
بدأت التهيئة الإعلامية لغزو العراق الذى أدى فى النهاية إلى كثير من النتائج، من بينها ذبح صدام حسين، لكن ذبحاً آخر كان قد سبقه لم يلتفت كثيرون إلى معناه: ذبح المدير العام للقناة حتى ذلك الوقت، محمد جاسم العلى. كانت مرحلة «اختطاف» قناة الجزيرة قد بدأت، وكنت أنا قد قدمت استقالتى منها رسمياً لأول مرة، الأمر الذى استدعى تدخلاً مباشراً من أمير قطر. وتلك قصة أخرى.
استقالتى من قناة الجزيرة لا تعنى أننى خاصمتها. ببساطة هى تعنى فقط أننى لا أريد أن أبقى رقماً فى معادلاتها الجديدة. إذا كان جانب منى حزيناً على فراق شاشتها، فإن جانباً آخر منى سعيد بانضمامى إلى مشاهديها. وإذا كان جانب منى يرجو لزملائى بها (هؤلاء فقط الصادقون المهنيون الذين يحترمون أنفسهم فيحترمهم الآخرون) كل التوفيق وكل النجاح ما وسعتهم الظروف، فإن جانباً آخر منى يدعونى إلى أن أتحمل واجبى ومسئوليتى تجاه نفسى وتجاه من أتوجه إليهم بما قدرنى الله عليه من عمل.
تجربة الحرية، بمعنى من المعانى، كتجربة الموت؛ فمثلما لا يستطيع المرء أن يزور الموت ثم يعود منه، لا يستطيع المرء أيضاً أن يزور الحرية ثم يعود منها. وقع عقلى على هذه الصورة الملهمة بينما كان هؤلاء الذين شاركوا فى تأسيس قناة الجزيرة (وأنا واحد منهم) فى نشوة اللحظات الأولى لانطلاقة القناة عام 1996.
كان الأمر مفاجأة لنا جميعا،ً فلم يكن أحد (حتى من هؤلاء الذين تخرجوا فى تليفزيون بى بى سى) ليتوقع ربع النجاح الفورى الذى أحرزته قناة انبثقت فجأة من صغرى الدول العربية. وأقولها صراحةً وإنصافاً إن الغالبية العظمى لهؤلاء الذين شكلوا نواة القناة غادروا لندن حين غادروها فى طريقهم إلى الدوحة مضطرين بعد انهيار مشروع بى بى سى (بقيت أنا لمجرد أننى استطعت البقاء مهنياً)، وأن أحداً منا لم تكن لديه فكرة عن كنه المشروع القطرى.
سريعاً بات من الواضح أن قناة الجزيرة وجدت ضالتها فى شارع عربى يعانى حرماناً على مستويات عديدة: سياسية وإعلامية وثقافية وإنسانية، ومن ثم استحوذت فجأة على خانة لا منافس لها فيها. ولأن المرء يتفوق على أقران الصف لسبب من ثلاثة، إما لأنه اجتهد أو لأن الآخرين أهملوا أو لمزيج من الاثنين، فقد بدا تفوق الجزيرة لأول وهلة فى تقديرى للسبب الثانى أكثر منه للسببين الآخرين دون أن أنكر على زملائى جهودهم.
فمن الناحية المهنية، لم نضف كثيراً إلى عالم الصحافة التليفزيونية عندما وضعنا مذيعاً فى استوديو ومعه ضيف أو اثنان. لكنّ الواقع العربى اكتسب الكثير عندما أضيف إلى الاستوديو عنصر آخر لم يعرفه من قبل، ولم يكن فى حاجة إلى ميزانية ولا إلى عبقرية: خط هاتف مفتوح لمن يريد أن يتكلم على الهواء أمام الملايين داخل بلاده وخارجها. لقد كان هذا ببساطة انقلاباً فى واقع المواطن العربى لا فضل كثيراً فيه للعاملين فى الجزيرة بقدر ما عاد الفضل فيه لما وصف وقتها بـ«سقف الحرية».
ولأن ما مُنح من أعلى يمكن أن يُسترد فى أى لحظة، فقد كانت تلك ظاهرة سياسية أكثر منها ظاهرة إعلامية جعلت رد فعل الآخرين عليها يمر بثلاث مراحل. كانت ملامح المرحلة الأولى منها سياسية بحتة، تمثلت فى أمور من مثل سحب سفراء من الدوحة واتصالات مكثفة وضغوط حثيثة لاحتواء هذه التى أطلق عليها البعض مصطلح »الظاهرة الصوتية«. وكالطفل الصغير الذى جرب المشاغبة فاكتشف أنها تلفت الأنظار، اكتشف المسئولون فى قطر، صغرى الدول العربية (ولا عيب فى ذلك)، أن بين أيديهم الآن ما يمكن أن يتحول إلى كنز وبين أيديهم دائماً حجة ألا شىء يحدث فى قطر يستحق التغطية (وهو ما ليس صحيحاً).
هذا فى الوقت الذى بدأ رد فعل الآخرين ينتقل إلى المرحلة الثانية تقوده طاقة سلبية أكثر منها إيجابية. فبدلاً من تطوير الأداء الإعلامى بدأت حملات لاذعة، بعضها تحت الحزام، صاحبها إغلاق مكاتب وتوقيف مراسلين و«شغل فى الأزرق». وكلما زاد ذلك زادت نشوة «الطفل المشاغب»، يوازيها شغف واهتمام متزايد فى دوائر إسرائيلية وأمريكية كانت تتابع انعكاسات هذه الظاهرة بدقة وعناية. ومن ثم بات واضحاً أننا أمام طوفان يحاصر البيت، وأننا إذا لم نبادر بإحداث بعض الثقوب فى الأبواب والنوافذ بأنفسنا، فلن يكون للطوفان سوى نتيجة واحدة حتمية.
كانت تلك لحظة فارقة تُحسب طبعاً لقناة الجزيرة، لكنها تُحسب أيضاً لهؤلاء الذين قبلوا التحدى وانطلقوا بطاقة إيجابية نحو تحسين الأداء الإعلامى، فبدأنا نرى ألواناً جديدة من التغطية الخبرية وبرامج الأحداث الجارية، حتى بدأنا نرى قنوات بأكملها تنطلق تعبيراً عن هذه المرحلة، ومنها قناة النيل للأخبار فى عام 1998 وقناة أبوظبى فى عام 2000 وقناة العربية فى عام 2003. والمستفيد الأول دون شك هو المواطن العربى أينما كان.
غير أن النجاح غير المشكوك فيه لقناة الجزيرة حتى تلك النقطة لم يكمن تماماً فى إزعاج الحكام العرب، وإنما ظهر واضحاً، كما يرى متابع جيد مثل أمير طاهرى، فى استغلال حالة ما يوصف بالشارع العربى واستدرار تعاطفه، عن طريق افتراض أن الأصولية الإسلامية فى تصاعد فى كل الدول العربية، وأن الغالبية العظمى تؤيدها سراً. ورغم ذلك كان هناك مجال لا يزال حتى تلك النقطة لمن يعتمدون العمل الصحفى الميدانى القائم على المهنية والبحث والتدقيق، للخروج عن هذا الخط، طالما أن ما يوصف بالبرامج الحوارية (التى يسهل السيطرة عليها) لا يزال «مسلّياً»، والأهم من ذلك أنه بطبيعته البحتة لا يستطيع الاستمرار بعيداً عن ذلك الخط.
بدأت مرحلة جديدة فاصلة بعد خمس سنوات صارت الجزيرة فيها أهم من قطر، وهو وضع غير طبيعى فتح باباً واسعاً لكثير من المتناقضات، حتى أن أحد الضيوف من غير العرب سأل الزميل محمد كريشان يومها (وهذه ليست نكتة): «و كيف حال الطقس هذه الأيام فى الجزيرة؟» ظناً منه أن قطر هى القناة والجزيرة هى الدولة. وكانت قناعة المسئولين فى قطر قد اكتملت بأن لديهم الآن جيشاً قوى البنية حان الوقت لاستخدامه فى بعض الغزوات، ومن ثم رفضوا تماماً (على عكس ما كان مفترضاً وفق قانون إنشائها) طرح أسهم الجزيرة فى الأسواق بعد خمس سنوات، وبدأنا نلحظ وتيرة متصاعدة للتدخلات التحريرية. حتى ذلك الوقت فقط كانت الإدارة قد رفضت إذاعة ثلاثة تحقيقات جادة من برنامج «سرى للغاية».
دشنت المرحلة التالية بدورها مرحلة أخرى على صعيد آخر: نظرة الغرب عموماً إلى مدى قدرة الإنسان العربى على ممارسة صحافة جادة قادرة على المنافسة العالمية، والأهم من ذلك نظرة دوائر بعينها فى إسرائيل وفى أمريكا إلى هذه «الورقة» الجديدة. ولأننا نعلم من قوانين الجغرافيا السياسية أن أى دولة فى حجم دولة كدولة قطر (مع صادق احترامنا لأهلها) لابد كى تحيا من أن تعيش تحت ظل دولة كبرى، عادةً تكون إحدى دول الجوار، فقد كان الموقف فى حالة دولة قطر كالتالى: إلى يمينها إيران «المتوثبة»، وإلى يسارها السعودية «كاتمة الأنفاس»، ومن فوقها عراق صدام، وعلى مرمى البصر إسرائيل ومصر. ثم بعد ذلك هناك شيخ الحارة كلها: أمريكا.
ولأننا نعلم أى خيار استراتيجى ذهب إليه المسئولون فى قطر فقد صارت الجزيرة، خاصةً لدى بداية تلك المرحلة، عضلة تبدو عملاقة، وإن كانت فى الواقع عضلة هشة يمكن ببساطة إغلاقها بمكالمة هاتفية مختصرة، مثلما يمكن ببساطة «اختطافها» لخدمة أهداف بعينها بعضها فورى وبعضها الآخر استراتيجى، بعضها يمكن رؤيته بالعين المجردة، وبعضها الآخر يحتاج إلى أكثر من ذلك بكثير. فى لحظات المصير، رغم ذلك، تسقط الأقنعة وتبين الملامح.
بدأت التهيئة الإعلامية لغزو العراق الذى أدى فى النهاية إلى كثير من النتائج، من بينها ذبح صدام حسين، لكن ذبحاً آخر كان قد سبقه لم يلتفت كثيرون إلى معناه: ذبح المدير العام للقناة حتى ذلك الوقت، محمد جاسم العلى. كانت مرحلة «اختطاف» قناة الجزيرة قد بدأت، وكنت أنا قد قدمت استقالتى منها رسمياً لأول مرة، الأمر الذى استدعى تدخلاً مباشراً من أمير قطر. وتلك قصة أخرى.
عروبـة مؤجلـــة للمستقبــل
مرسلة بواسطة
Abdullah Khalaf
التسميات:
أحمد بهاء الدين,
إعلام,
اليوم السابع,
صحافة,
طارق الشناوى,
مجدى مهنا
0
التعليقات
جاء نجاح المسابقة الأولى لـ«جوائز الصحافة المصرية» بمثابة الشرارة التى أطلقت مشاعر جياشة داخل المجتمع الصحفى وخارجه، كان يبدو أنها تراجعت تحت السطح، مشاعر بأهمية التفوق فى الأداء المهنى الصحفى لمصلحة القارئ أولا، ولحقيقة أن لدى الصحفيين ما يستحق المنافسة من أجله.
ومن بين التعليقات العديدة المنشورة سأضرب مثلا بمقال على مساحة ثلاث صفحات فى مجلة «روزاليوسف» كتبه عدلى فهيم بعنوان «الليلة الكبيرة» حيث انطلقت أصوات الصحفيين الشبان على وجه الخصوص يغنون (سنة حلوة يا صحافة.. سنة حرة يا صحافة).. وقبل أن يغادر الجميع قاعة الحفل تجمعوا حول تورتة كبيرة من الشيكولاتة حملت شمعة واحدة، وترصعت بكلمات أشبه بحبات اللولى الحر: مبروك لجوائز الصحافة المصرية، وقطع التورتة واحد من شيوخ الصحافة ولكنه شيخ الشباب أيضا.. هو صلاح حافظ.
كانت تلك هى طبيعة صلاح حافظ فعلا.. شاب فى شيخوخته.. وفنان فى حماسه، ومرة على الأقل فى كل أسبوع كان يذهب إلى مؤسسة «روزاليوسف» حاملا فى حقيبة يده تحقيقات وموضوعات صحفية أعاد صياغتها أو اختار لها عناوين أكثر جاذبية ليجرى نشرها.
وفى المرة الأولى التى زارنى فيها بعد الاحتفال قال لى: «تصور.. أنا اعتدت منذ سنوات طويلة، وفى كل مرة أذهب فيها إلى روزاليوسف، على سماع المناقشات العديدة بين الصحفيين وفى مقدمتها الشكوى المستمرة من عدم كفاية المرتب أو استمرار الجمود المهنى، ومنذ احتفال الجوائز تذكر الصحفيون أنهم.. صحفيون، لقد تحولت المناقشات إلى التسابق على طرح أفضل الأفكار لتحقيقات صحفية يكفل لهم نشرها التقدم بها إلى المسابقات التالية، الكل بدأ يبحث عن الفكرة الجديدة أو غير المسبوقة، ويتعمق فى تفاصيلها لكى تصبح أشمل وأكثر جاذبية.. وهكذا.. وهكذا».
نفس الانطباع خرج به أحمد بهاء الدين من مناقشات سعى إليها معه صحفيون من «الأهرام» و«الأخبار» و«الجمهورية» بخلاف صحف المعارضة جميعا، وكان من الملاحظات التى نبهنا إليها هذا الحماس الصحفى المستجد، التساؤل المتكرر: لماذا فاتنا أن نضيف إلى المسابقة جوائز للإخراج الصحفى؟ ووجدنا أن هذا معقول فعلا، فالمخرج الفنى ويسمى غالبا: سكرتير التحرير هو بمثابة العقل المفكر المسئول عن جعل صفحات الجريدة أو المجلة أكثر تناسقا وجاذبية من حيث الإخراج والاستثمار المناسب لأحجام العناوين والصور والرسوم الكاريكاتيرية، إن وجدت.. إلخ.
وكان هناك زملاء آخرون اقترحوا فروعا لجوائز إضافية، سواء للصحف الإقليمية.. أو لصحافة وكالة أنباء الشرق الأوسط، وهى الوكالة الوحيدة فى مصر.. و.. و.. إنما المشكلة كانت فى محدودية المساهمات المالية المتاحة، فهى كبيرة فى معناها لكنها فى النهاية لا تزال محدودة فى قيمتها المالية، هذا تغير فقط بعد الاحتفال الأول للجوائز، وكان فألا طيبا أن يتصل بى إحسان عبد القدوس مداعبا لى بقوله: يا محمود.. لو مش عايز تزورنى وتشرب قهوة.. على الأقل تعال لتستلم الشيك (بألف جنيه) للمسابقة الثانية.
ومبدئيا فإن كل من ساهموا فى المسابقة الأولى كرروا مساهمتهم، وبنفس المبالغ، فى المسابقة الثانية، لكن فى هذه المرة زاد عليهم زملاء إضافيون جدد، صلاح منتصر مثلا قدم مساهمته المالية فى اليوم التالى مباشرة لتسلمه نصيبه السنوى من الأرباح فى جريدة «الأهرام».. قبل أن يصبح رئيسا لمجلس إدارة دار المعارف ورئيسا لتحرير مجلة «أكتوبر».محمد سلماوى بدأ يساهم رغم أنه يرى أن فكرة الجوائز قد لا تكون مريحة، وربما مستفزة، للصحفيين غير الموهوبين، خالد محيى الدين رئيس حزب التجمع أراد المساهمة فقلت له إننا لا نقبل المساهمة من غير الصحفيين، فذكرنى ومعه الحق بأنه عضو قديم فى نقابة الصحفيين، فوق ذلك.. فقد حرص عدد من الفائزين بالجوائز فى المسابقة الأولى بأن يساهموا ماليا فى المسابقة الثانية.. كعبدالقادر شهيب وإحسان بكر مثلا، كل هذا، وغيره، سمح لنا أن نرفع قيمة الجوائز فى المسابقة الثانية من 18 ألفا إلى 25 ألف جنيه (بقيمة الجنيه فى سنة 1986).
لكن قبل الوصول إلى تلك النقطة كنت فى طريقى إلى لندن لاستراحة قصيرة، وأيضا لعلاج آلام فى العمود الفقرى، وهناك اكتشفت أن الفكرة التى غادرتها فى القاهرة قد سبقتنى أيضا إلى لندن، فى ذلك الحين كانت لندن مقرا لطباعة وإصدار العديد من الصحف والمجلات العربية المهاجرة، وينشر فيها عدد لا بأس به من الصحفيين المصريين، هؤلاء أيضا وجدتهم يتساءلون: أليست هناك أى طريقة تسمح لنا بالتقدم إلى المسابقة بأعمال لنا منشورة فى لندن؟ للأسف.. لا توجد، فنحن فى لجنة الجوائز متفقون من البداية على أن تقتصر الجوائز فقط على الأعمال المنشورة فى الصحافة المصرية، حتى رؤساء تحرير الصحف العربية الذين كانوا قد اتصلوا بى من الكويت والإمارات وغيرهما كانوا يعرضون مساهمة صحفهم بمبالغ كبيرة تمويلا للمسابقة.. لكننى كنت أرد بأننا متفقون فى هذه المرحلة على تأجيل ذلك للمستقبل بعد أن تكتسب الجوائز ملامحها الدائمة، وكنت أرى أيضا أن الوقت لا يزال مبكرا لتوسيع نطاق الجوائز بالامتداد إلى صحف وصحفيى العالم العربى.
وفى لندن أطلعنى الصديق اللبنانى فؤاد مطر، رئيس تحرير مجلة «التضامن» على عدد من المجلة خصصت فيه مقالها الافتتاحى للترحيب بالجوائز المصرية، والتنويه إلى أنه من بين ما جعل للجوائز المصرية صداها غير المسبوق فى الصحافة العربية -إلى جانب الاستقلالية فى التمويل- هو أن ثلاثة على الأقل من أعضاء لجنة التحكيم لهم مصداقيتهم باتساع العالم العربى بالنظر إلى انتشار مقالاتهم التى تنشرها لهم كبريات الصحف العربية، فى نفس الوقت كانت قد سبقته مجلة «الوطن العربى» التى تصدر من باريس إلى كتابة مقالها الافتتاحى عن المسابقة أيضا واختتمته بقولها: «هكذا تسبق مصر الجميع دائما، إن الروح الديمقراطية العادلة التى تسود مسابقة جوائز الصحافة المصرية هى التى فاجأت الجميع، ونحن نتطلع من الآن إلى أن تفاجئنا المسابقة مستقبلا بأن تشمل أيضا الصحفيين فى المطبوعات والإصدارات العربية»، ترحيبات من هذا النوع تواتر نشرها فى صحف ومجلات عربية أخرى أقدر مشاعرها تماما مؤجلا التفكير فى ذلك إلى المستقبل.
وفى لندن أيضا كانت السيدة همت مصطفى هى المستشار الإعلامى للسفارة من بعد استقالتها من عملها كرئيسة للتليفزيون فى القاهرة، وحينما علمت بوجودنا فى لندن -أحمد بهاء الدين وأنا- تفضلت هى وزوجها بدعوتنا إلى العشاء فى منزلها.. لأفاجأ أيضا بأن مسابقة جوائز الصحافة المصرية قد تسللت إلى مناقشتنا: هل تتابع المسابقات الشبيهة فى الصحافة البريطانية؟ نعم، أتابع، فمؤسسة «الديلى ميرور» الصحفية تعهد سنويا إلى لجنة خاصة مهمة اختيار الأعمال الصحفية المرشحة للفوز، لكن الذين يرشحون هم رؤساء تحرير الصحف الأخرى أنفسهم، هذا قد لا يناسب حالتنا فى مصر لأن الثقة ليست كبيرة بعد فى بعض رؤساء التحرير من حيث تغليب انحيازاتهم السياسية أو الشخصية، والدليل على ذلك أن صحفيين عديدين من صحف قومية تقدموا إلينا بأعمال لهم منشورة فى صحف المعارضة وليس فى صحفهم القومية.
كنت أيضا قد درست جوائز «بوليتزر» السنوية فى الصحافة الأمريكية وتنظمها مدرسة الصحافة فى جامعة كولومبيا لإعطاء جائزة واحدة عن كل واحد من عشرة فروع صحفية حددتها، فى الحالة البريطانية قيمة الجائزة ألف جنيه إسترلينى، وفى الحالة الأمريكية القيمة ألف دولار، ونحن فى مسابقتنا المصرية بدأنا بثمانية فروع ستصبح عشرة فى المسابقة الثانية، والجائزة الأولى فى كل فرع 1500 جنيه بخلاف جائزة ثانية وثالثة، لا بأس من المقارنة إذن مع تميز جوائزنا بأنها ممولة بالكامل من صحفيين، 18 ألف جنيه فى المسابقة الأولى أصبحت 25 ألف جنيه فى السنة الثانية، وربما لو حسبنا فارق العملة فسنجد أن فلوسنا هى «الأكثر حلالا فى بر مصر» بتعبير أحمد بهاء الدين.
ونتيجة للمصداقية التى أكدتها «جوائز الصحافة المصرية» فى سنتها الأولى فقد أخذها الصحفيون بجدية مضاعفة فى سنتها الثانية، لقد تضاعف الإقبال، سواء من حيث عدد الصحفيين المتقدمين أو من حيث أعمالهم المنشورة وتقدموا بها، هذا بدوره ضاعف من جهد رؤساء لجان التقييم وأعضاء اللجنة العامة للتحكيم بمراعاة اعتبارين: إن كل هذا مجهود تطوعى من أوله إلى آخره.. وأن معظمنا لديه التزاماته الصحفية الثابتة، سواء على مستوى الصحافة المصرية أو العربية.
ومع إعلان نتائج المسابقة فى سنتها الثانية أصبح عدد الفائزين 31 صحفيا من بين مئات معظمهم تقدم للمسابقة بأكثر من عمل فى أكثر من فرع، ونستطيع أن نستعيد ضراوة المنافسة من معرفة أنه من الفائزين فيها من هم برصيد وخبرة مرسى عطا الله وحسن المستكاوى وهدايت عبد النبى ومجدى مهنا وطارق الشناوى.. كمجرد أمثلة.
ومع الاحتفال بتوزيع جوائز الصحافة المصرية فى سنتها الثانية، وتحدد له 19/7/1986، كان المدعو للمشاركة هو رئيس الوزراء الجديد الدكتور على لطفى. فى تلك المرة كان الإصرار مستمرا على أن يكون الصحفيون أنفسهم مسئولين عن كل خطوات المسابقة من أولها وحتى تنظيم الاحتفال بها، وبالإجمال.. كان رد الفعل فى المجتمع الصحفى يتلخص فى: إن هذه المسابقة ولدت لتبقى.. وتستمر.
بببوبكل تلك الآمال والانفعالات أصبح الصحفيون يتساءلون من اليوم التالى مباشرة للاحتفال: متى ستفتحون باب التقدم إلى الجوائز فى سنتها الثالثة؟
ولم يكونوا يعرفون بعد أن الثالثة.. تابتة.
ومن بين التعليقات العديدة المنشورة سأضرب مثلا بمقال على مساحة ثلاث صفحات فى مجلة «روزاليوسف» كتبه عدلى فهيم بعنوان «الليلة الكبيرة» حيث انطلقت أصوات الصحفيين الشبان على وجه الخصوص يغنون (سنة حلوة يا صحافة.. سنة حرة يا صحافة).. وقبل أن يغادر الجميع قاعة الحفل تجمعوا حول تورتة كبيرة من الشيكولاتة حملت شمعة واحدة، وترصعت بكلمات أشبه بحبات اللولى الحر: مبروك لجوائز الصحافة المصرية، وقطع التورتة واحد من شيوخ الصحافة ولكنه شيخ الشباب أيضا.. هو صلاح حافظ.
كانت تلك هى طبيعة صلاح حافظ فعلا.. شاب فى شيخوخته.. وفنان فى حماسه، ومرة على الأقل فى كل أسبوع كان يذهب إلى مؤسسة «روزاليوسف» حاملا فى حقيبة يده تحقيقات وموضوعات صحفية أعاد صياغتها أو اختار لها عناوين أكثر جاذبية ليجرى نشرها.
وفى المرة الأولى التى زارنى فيها بعد الاحتفال قال لى: «تصور.. أنا اعتدت منذ سنوات طويلة، وفى كل مرة أذهب فيها إلى روزاليوسف، على سماع المناقشات العديدة بين الصحفيين وفى مقدمتها الشكوى المستمرة من عدم كفاية المرتب أو استمرار الجمود المهنى، ومنذ احتفال الجوائز تذكر الصحفيون أنهم.. صحفيون، لقد تحولت المناقشات إلى التسابق على طرح أفضل الأفكار لتحقيقات صحفية يكفل لهم نشرها التقدم بها إلى المسابقات التالية، الكل بدأ يبحث عن الفكرة الجديدة أو غير المسبوقة، ويتعمق فى تفاصيلها لكى تصبح أشمل وأكثر جاذبية.. وهكذا.. وهكذا».
نفس الانطباع خرج به أحمد بهاء الدين من مناقشات سعى إليها معه صحفيون من «الأهرام» و«الأخبار» و«الجمهورية» بخلاف صحف المعارضة جميعا، وكان من الملاحظات التى نبهنا إليها هذا الحماس الصحفى المستجد، التساؤل المتكرر: لماذا فاتنا أن نضيف إلى المسابقة جوائز للإخراج الصحفى؟ ووجدنا أن هذا معقول فعلا، فالمخرج الفنى ويسمى غالبا: سكرتير التحرير هو بمثابة العقل المفكر المسئول عن جعل صفحات الجريدة أو المجلة أكثر تناسقا وجاذبية من حيث الإخراج والاستثمار المناسب لأحجام العناوين والصور والرسوم الكاريكاتيرية، إن وجدت.. إلخ.
وكان هناك زملاء آخرون اقترحوا فروعا لجوائز إضافية، سواء للصحف الإقليمية.. أو لصحافة وكالة أنباء الشرق الأوسط، وهى الوكالة الوحيدة فى مصر.. و.. و.. إنما المشكلة كانت فى محدودية المساهمات المالية المتاحة، فهى كبيرة فى معناها لكنها فى النهاية لا تزال محدودة فى قيمتها المالية، هذا تغير فقط بعد الاحتفال الأول للجوائز، وكان فألا طيبا أن يتصل بى إحسان عبد القدوس مداعبا لى بقوله: يا محمود.. لو مش عايز تزورنى وتشرب قهوة.. على الأقل تعال لتستلم الشيك (بألف جنيه) للمسابقة الثانية.
ومبدئيا فإن كل من ساهموا فى المسابقة الأولى كرروا مساهمتهم، وبنفس المبالغ، فى المسابقة الثانية، لكن فى هذه المرة زاد عليهم زملاء إضافيون جدد، صلاح منتصر مثلا قدم مساهمته المالية فى اليوم التالى مباشرة لتسلمه نصيبه السنوى من الأرباح فى جريدة «الأهرام».. قبل أن يصبح رئيسا لمجلس إدارة دار المعارف ورئيسا لتحرير مجلة «أكتوبر».محمد سلماوى بدأ يساهم رغم أنه يرى أن فكرة الجوائز قد لا تكون مريحة، وربما مستفزة، للصحفيين غير الموهوبين، خالد محيى الدين رئيس حزب التجمع أراد المساهمة فقلت له إننا لا نقبل المساهمة من غير الصحفيين، فذكرنى ومعه الحق بأنه عضو قديم فى نقابة الصحفيين، فوق ذلك.. فقد حرص عدد من الفائزين بالجوائز فى المسابقة الأولى بأن يساهموا ماليا فى المسابقة الثانية.. كعبدالقادر شهيب وإحسان بكر مثلا، كل هذا، وغيره، سمح لنا أن نرفع قيمة الجوائز فى المسابقة الثانية من 18 ألفا إلى 25 ألف جنيه (بقيمة الجنيه فى سنة 1986).
لكن قبل الوصول إلى تلك النقطة كنت فى طريقى إلى لندن لاستراحة قصيرة، وأيضا لعلاج آلام فى العمود الفقرى، وهناك اكتشفت أن الفكرة التى غادرتها فى القاهرة قد سبقتنى أيضا إلى لندن، فى ذلك الحين كانت لندن مقرا لطباعة وإصدار العديد من الصحف والمجلات العربية المهاجرة، وينشر فيها عدد لا بأس به من الصحفيين المصريين، هؤلاء أيضا وجدتهم يتساءلون: أليست هناك أى طريقة تسمح لنا بالتقدم إلى المسابقة بأعمال لنا منشورة فى لندن؟ للأسف.. لا توجد، فنحن فى لجنة الجوائز متفقون من البداية على أن تقتصر الجوائز فقط على الأعمال المنشورة فى الصحافة المصرية، حتى رؤساء تحرير الصحف العربية الذين كانوا قد اتصلوا بى من الكويت والإمارات وغيرهما كانوا يعرضون مساهمة صحفهم بمبالغ كبيرة تمويلا للمسابقة.. لكننى كنت أرد بأننا متفقون فى هذه المرحلة على تأجيل ذلك للمستقبل بعد أن تكتسب الجوائز ملامحها الدائمة، وكنت أرى أيضا أن الوقت لا يزال مبكرا لتوسيع نطاق الجوائز بالامتداد إلى صحف وصحفيى العالم العربى.
وفى لندن أطلعنى الصديق اللبنانى فؤاد مطر، رئيس تحرير مجلة «التضامن» على عدد من المجلة خصصت فيه مقالها الافتتاحى للترحيب بالجوائز المصرية، والتنويه إلى أنه من بين ما جعل للجوائز المصرية صداها غير المسبوق فى الصحافة العربية -إلى جانب الاستقلالية فى التمويل- هو أن ثلاثة على الأقل من أعضاء لجنة التحكيم لهم مصداقيتهم باتساع العالم العربى بالنظر إلى انتشار مقالاتهم التى تنشرها لهم كبريات الصحف العربية، فى نفس الوقت كانت قد سبقته مجلة «الوطن العربى» التى تصدر من باريس إلى كتابة مقالها الافتتاحى عن المسابقة أيضا واختتمته بقولها: «هكذا تسبق مصر الجميع دائما، إن الروح الديمقراطية العادلة التى تسود مسابقة جوائز الصحافة المصرية هى التى فاجأت الجميع، ونحن نتطلع من الآن إلى أن تفاجئنا المسابقة مستقبلا بأن تشمل أيضا الصحفيين فى المطبوعات والإصدارات العربية»، ترحيبات من هذا النوع تواتر نشرها فى صحف ومجلات عربية أخرى أقدر مشاعرها تماما مؤجلا التفكير فى ذلك إلى المستقبل.
وفى لندن أيضا كانت السيدة همت مصطفى هى المستشار الإعلامى للسفارة من بعد استقالتها من عملها كرئيسة للتليفزيون فى القاهرة، وحينما علمت بوجودنا فى لندن -أحمد بهاء الدين وأنا- تفضلت هى وزوجها بدعوتنا إلى العشاء فى منزلها.. لأفاجأ أيضا بأن مسابقة جوائز الصحافة المصرية قد تسللت إلى مناقشتنا: هل تتابع المسابقات الشبيهة فى الصحافة البريطانية؟ نعم، أتابع، فمؤسسة «الديلى ميرور» الصحفية تعهد سنويا إلى لجنة خاصة مهمة اختيار الأعمال الصحفية المرشحة للفوز، لكن الذين يرشحون هم رؤساء تحرير الصحف الأخرى أنفسهم، هذا قد لا يناسب حالتنا فى مصر لأن الثقة ليست كبيرة بعد فى بعض رؤساء التحرير من حيث تغليب انحيازاتهم السياسية أو الشخصية، والدليل على ذلك أن صحفيين عديدين من صحف قومية تقدموا إلينا بأعمال لهم منشورة فى صحف المعارضة وليس فى صحفهم القومية.
كنت أيضا قد درست جوائز «بوليتزر» السنوية فى الصحافة الأمريكية وتنظمها مدرسة الصحافة فى جامعة كولومبيا لإعطاء جائزة واحدة عن كل واحد من عشرة فروع صحفية حددتها، فى الحالة البريطانية قيمة الجائزة ألف جنيه إسترلينى، وفى الحالة الأمريكية القيمة ألف دولار، ونحن فى مسابقتنا المصرية بدأنا بثمانية فروع ستصبح عشرة فى المسابقة الثانية، والجائزة الأولى فى كل فرع 1500 جنيه بخلاف جائزة ثانية وثالثة، لا بأس من المقارنة إذن مع تميز جوائزنا بأنها ممولة بالكامل من صحفيين، 18 ألف جنيه فى المسابقة الأولى أصبحت 25 ألف جنيه فى السنة الثانية، وربما لو حسبنا فارق العملة فسنجد أن فلوسنا هى «الأكثر حلالا فى بر مصر» بتعبير أحمد بهاء الدين.
ونتيجة للمصداقية التى أكدتها «جوائز الصحافة المصرية» فى سنتها الأولى فقد أخذها الصحفيون بجدية مضاعفة فى سنتها الثانية، لقد تضاعف الإقبال، سواء من حيث عدد الصحفيين المتقدمين أو من حيث أعمالهم المنشورة وتقدموا بها، هذا بدوره ضاعف من جهد رؤساء لجان التقييم وأعضاء اللجنة العامة للتحكيم بمراعاة اعتبارين: إن كل هذا مجهود تطوعى من أوله إلى آخره.. وأن معظمنا لديه التزاماته الصحفية الثابتة، سواء على مستوى الصحافة المصرية أو العربية.
ومع إعلان نتائج المسابقة فى سنتها الثانية أصبح عدد الفائزين 31 صحفيا من بين مئات معظمهم تقدم للمسابقة بأكثر من عمل فى أكثر من فرع، ونستطيع أن نستعيد ضراوة المنافسة من معرفة أنه من الفائزين فيها من هم برصيد وخبرة مرسى عطا الله وحسن المستكاوى وهدايت عبد النبى ومجدى مهنا وطارق الشناوى.. كمجرد أمثلة.
ومع الاحتفال بتوزيع جوائز الصحافة المصرية فى سنتها الثانية، وتحدد له 19/7/1986، كان المدعو للمشاركة هو رئيس الوزراء الجديد الدكتور على لطفى. فى تلك المرة كان الإصرار مستمرا على أن يكون الصحفيون أنفسهم مسئولين عن كل خطوات المسابقة من أولها وحتى تنظيم الاحتفال بها، وبالإجمال.. كان رد الفعل فى المجتمع الصحفى يتلخص فى: إن هذه المسابقة ولدت لتبقى.. وتستمر.
بببوبكل تلك الآمال والانفعالات أصبح الصحفيون يتساءلون من اليوم التالى مباشرة للاحتفال: متى ستفتحون باب التقدم إلى الجوائز فى سنتها الثالثة؟
ولم يكونوا يعرفون بعد أن الثالثة.. تابتة.
توابع النزاهـة والأحكام الغيابية
مرسلة بواسطة
Abdullah Khalaf
التسميات:
أحمد بهاء الدين,
إعلام,
اليوم السابع,
صحافة,
كمال حسن على,
مجدى مهنا,
محمود عوض,
مصطفى حسين
0
التعليقات
فى طريقى إلى رئيس الوزراء كمال حسن على، كانت تغمرنى تلك المشاعر المتضاربة التى خرجت بها من التجربة الأولى لإقامة مسابقة «جوائز الصحافة المصرية»، وباعتبارها تجربة أولى، فقد كان القلق عليها بقدر الحماس لها.. والتفاصيل بنفس أهمية الخطوط العريضة وتفاعل شيوخ المهنة مع شبابها يوازى رد الاعتبار لأهمية إتقان الأداء المهنى فى الصحافة، الذى هو الوجه الآخر لحق القارئ فى المعرفة ومسئولية الصحفى عن التمييز بين الرأى والخبر.
وبوجهه البشوش الذى لا يوحى أبدا بخلفيته العسكرية (ترك كمال حسن على القوات المسلحة برتبة فريق ) قال لى رئيس الوزراء: الحقيقة أنا طلبتك لسببين.. لأعتذر لك.. ولأشكرك.
فأما الاعتذار.. فلأننى جئت إلى هذا الاحتفال مترددا، أقدم رجلا وأؤخر أخرى، لم تكن لهذا الاحتفال سابقة لأقيس عليها، ولا لتلك الجوائز تاريخ لأعود إليه، وطبعا.. أولاد الحلال كثير.. قالوا لى يا أفندم معقول تروح برجليك لتجلس فى وسط 300 صحفى فيهم كده، وكده.
قلت له: يا سعادة رئيس الوزراء.. من غير كده، وكده.. مالهم الصحفيين؟ وحوش الغابة أو من أكلة اللحوم البشرية مثلا؟
قال رئيس الوزراء ضاحكا: مش بالضبط.. إنما أنت شايف.. كفاية رسوم الكاريكاتير اللى بتسلخنى أنا والحكومة كل يوم، على أى حال.. جئت إلى الاحتفال بهذا التوجس، وأنا هنا أكلمك بصراحة، لكن من أول دقيقة بدأت فكرتى المسبقة تتغير تماما بعد أن وجدت نفسى فى وسط صورة متحضرة وغير مسبوقة لمهنة جعلت تلك الجوائز شيوخها يتفاعلون مع شبابها على ذلك النحو البديع، وخلال ربع ساعة أدركت من هو صاحب المولد كله، ولذلك رجوت حضورك لأعتذر لك مبدئيا عن ترددى فى الحضور الذى سبق الحفل.
فى تلك اللحظة استعدت تلقائيا تلك الغصة فى حلقى المستمرة معى منذ اليوم الذى استقبلنى فيه مدير مكتبه ليطرح أمامى شروطا عبثية رفضتها جميعا.. قبل أن يعيد الاتصال بى فى مساء نفس اليوم، بينما كان يزورنى مصطفى حسين، ويخبرنى بموافقة رئيس الوزراء على قبول الدعوة لحضور الاحتفال.
ثم أضاف كمال حسن على رئيس الوزراء بكل مودة: الآن أكرر لك شكرى عن نفسى وعن الحكومة على أنكم بدأتم هذا التقليد غير المسبوق فى الصحافة أو أى مهنة أخرى، وقد عرفت أنك واجهت صعوبات وبذلت جهدا كبيرا فى جمع الـ18 ألف جنيه للجوائز.
قلت له: هذا طبيعى.. بالنظر إلى أن مسألة أن يتولى الصحفيون أنفسهم تمويل الجوائز هى تقليد جديد لا سابقة له.
وبابتسامة عريضة قال رئيس الوزراء: عموما دعنا نتطلع الآن إلى المستقبل، فلكى تستمر هذه الجوائز وتصبح أكبر وأكبر، ولكى يكون شكرى لك عمليا، فإننى كلفت المستشار القانونى لمجلس الوزراء بأن يضع تصورا تنظيميا يسمح للحكومة بأن تساهم فى تلك الجوائز بمائة ألف جنيه سنويا و..
كانت مفاجأة، وهى مفاجأة من العيار الثقيل أربكتنى بالكامل بما جعلنى للحظات أبحث عن كلمات أرد بها، ويبدو أن تعبيرات وجهى فضحت شعورى بـ«الخضة».. لأن رئيس الوزراء استرسل قائلاً: لا.. لا.. لن تكون مساهمة الحكومة لسنة واحدة فأنا سمعت فى الاحتفال أنكم تسعون لاستمرارها سنويا، لذلك فعن نفسى أتكلم عن التزام لخمس سنوات يمتد إلى من يخلفنى كرئيس للوزراء، وبعدها.. إنت وشطارتك.
قلت له: الحقيقة إن العقدة ليست هنا.. فهذا التقليد الذى شهدته وأثار لديك كل هذه المشاعر الجميلة أساسه هو أنه ليوم واحد فى السنة يجىء كبار الصحفيين من بيوتهم ليحتفلوا معا بصحفيين فائزين بجوائز جرى تمويلها بالكامل من الصحفيين، وإذا كنت أنا قد ساهمت بالفكرة وبالتنظيم إلا أن قيمة الجوائز هى بقيمة من آمنوا بالفكرة وساهموا فى نجاحها.. بالمال أو بالجهد أو بكليهما معا.
للحظة أو لحظات بدا أننا على موجتين منفصلتين.. رئيس الوزراء وأنا، لكن شعورى بالامتنان لاهتمام الرجل كان يجب أن يتساوى مع التعبير بوضوح عن جوهر هذه المسابقة وجوائزها.. فهو يتساءل مستغربا تماما من أن نكون فى حالة استغناء وتعفف عن هذا المستوى الحكومى من التجاوب والتفاعل.
وقلت له من قبيل الدعابة تخفيفا للنقاش: سيادتك أكيد تعرف المثل الشعبى.. يا نحلة لا تقرصينى، ولا أنا أنتظر منك عسلا.
مال رئيس الوزراء بكل جسمه قليلا إلى الخلف وضحكته المجلجلة تملأ المكان مستغربا: للدرجة دى؟!
قلت له : يا سعادة رئيس الوزراء.. لعلك تتذكر أننى فى كلمتى التى ألقيتها فى الاحتفال قلت تحديدا إن هذه المسابقة «سوف تستمر مهنية تماما، ومستقلة حتى عن نقابة الصحفيين ذاتها وعن أى مؤسسة منفردة لأن هذا يضيف إلى مصداقيتها وقوتها». أنا حرصت على توضيح ذلك من البداية أمام كل الصحفيين الحاضرين، وفى وجودك مع رئيس مجلس الشعب والوزراء ورؤساء الصحف القومية والحزبية، وفى كل التغطيات الإعلامية وما نقلته وكالات الأنباء عن الاحتفال فى الأيام الماضية كان أهم ما ركز عليه الجميع هو استقلالية المسابقة فى تمويلها وتنظيمها وتحكيمها.
تدافعت الأفكار فى عقلى وفى كلماتى حتى أوضح أننى من البداية ليس لى أى سلطة على المساهمين من كبار الصحفيين تتجاوز مصداقيتى بينهم، كل واحد من هؤلاء، وبخبرته بالمهنة وبالعاملين فيها لأكثر من ثلاثين وأربعين سنة يستطيع من منزله أن يشم رائحة النزاهة أو عدمها من أبعد مسافة ممكنة، بغير التأكد مسبقا من النزاهة والمصداقية لن يساهم ولن يغادر منزله ليحضر الاحتفال على نحو ما جرى، حتى من طرأ عليه سفر أو ظرف صحى، كمحمود السعدنى وكامل زهيرى ويوسف إدريس مثلا، حرصوا على نقل تهانيهم للفائزين بصورة أو بأخرى، وبكل اهتمام ومحبة ورعاية.
ثم إن دخول الحكومة، أو حتى المؤسسات الصحفية، سيكون عامل ضغط حقيقى على القائمين بالتحكيم والتقييم بما يخصم من استقلالية الجوائز، وأحد المعانى الجميلة التى سجلها المعلقون على الجوائز هو أنهم شهدوا لأول مرة رئيس حكومة يشارك فى تسليم جوائز لمن انتقدوا حكومته.. هذا لن يكون واردا إذا تحولت المسابقة لتعتمد على مساهمة الحكومة و.. و.. و..
فى النهاية قال لى رئيس الوزراء بكل لطف ومودة: على أى حال لو غيرت رأيك اتصل بى، وسأظل عند وعدى طالما بقيت رئيسا للحكومة.. و(بابتسامة عريضة) أنت فى هذه المقابلة وفرت لى مادة لحكاية ربما سأضعها فى مذكراتى.. حكاية حكومة تعرض نصف مليون جنيه وصحفيين يعتذرون عن عدم قبولها، تفتكر.. حد حا يصدق؟
قلت له مع انصرافى: أنا سأصدق، زملائى ومن سأحكى لهم سيصدقون.. على الأقل هذه أول مرة يتذكر فيها رئيس حكومة الصحفيين بالخير.
ربما من باب الاطمئنان إلى صحة موقفى، أو على الأقل الاستئناس بمشورة إضافية، كانت أول مكالمة تليفونية أجريها بعد وصولى إلى البيت هى مع أحمد بهاء الدين، وفى اللحظات الأولى بدا بهاء كما لو كان يسترجع مرة بعد مرة ما حكيته له فى التو واللحظة قائلا لى: أعد ما ذكرته مرة أخرى.. رئيس الحكومة عرض مائة ألف جنيه للجوائز.. ولخمس سنوات.. وأنت اعتذرت عن عدم القبول؟ والله كمال حسن على عداه العيب، وكشف عن سعة أفق واستنارة لا نعهدها غالبا فى رؤساء الحكومات، وأنا أضم صوتى إليك.. فاستقلالية الجوائز تمويلا وتحكيما وتنظيما هى المكسب الكبير الذى خرجنا به.
وبعد برهة أضاف أحمد بهاء الدين: قبل أن أنسى.. مساهمتى المالية بالألف جنيه فى المسابقة الجديدة جاهزة من الآن.
لم أكن قد غادرت، بعد، توابع المسابقة الأولى، فرئيس مجلس إدارة إحدى المؤسسات الصحفية مثلا اتصل بى معاتبا: هل معقول وأنا أرأس مؤسسة تضم 270 صحفيا فلا تعطون فى المسابقة جوائز لأحد منها بينما مؤسسة أخرى تحصل على ست جوائز؟
وقلت له: من أولها فكرتك عن الجوائز خاطئة، فأنت تتصور أننا كلجنة قلبنا فى كل الصحف والمجلات المصرية لنختار منها الفائزين. هذا غير صحيح، نحن فتحنا باب التقديم لمن يرغب من الصحفيين والصحفيات، ولجان التقييم مارست مهمتها للاختيار من بين من تقدموا، المشكلة أن الإدارة فى مؤسستك استلمت إعلان المسابقة لكنها حجبته عن الصحفيين، ومن هنا لم يتقدم أحد من مؤسستك أصلا وتنبهوا فقط بعد انتهاء موعد التقدم للمسابقة.
لكن سوء الفهم لم يكن فقط من داخل المهنة، كان من خارجها أيضا. فزميلة عزيزة وصحفية نشيطة هى فى حينها المحررة الأولى للشئون الدبلوماسية قى صحيفتها اتصلت بى لتداعبنى بكلمات فاجأتنى بما هو أغرب: إن السفارة الأمريكية فى القاهرة تشعر بالاستياء من تعبير بعض الجوائز عن موقف سياسى معاد لأمريكا.
معاد لأمريكا؟ كده.. خبط لزق؟ نعم، هكذا قال لها المستشار الإعلامى للسفارة الأمريكية بالقاهرة، وهى رفضت بشدة ذلك الانطباع من جانبه، وعرضت أن نتقابل نحن الثلاثة على الغداء.
مع الغداء زاد المستشار الأمريكى فى الشرح والتفسير، فأحد الأعمال الفائزة بالجائزة الأولى مقال تحليلى نشره عبد القادر شهيب فى جريدة «الشعب» التى كان يصدرها حزب العمل المعارض، والمقال عن أخطار المساعدات الأجنبية مع التركيز أساسا على المعونة الأمريكية لمصر معتمدا على أرقام ووقائع تؤكد فى النهاية أنها ليست لوجه الله.
وسألت المستشار الأمريكى: ماذا يزعجك فى ذلك المقال؟
أجاب: أولا.. دوافعه أيديولوجية، وثانيا.. أرقام عديدة ذكرها.. إما غير صحيحة أو غير دقيقة.
قلت له: دعنا ننحى مسألة الدوافع جانبا لأنك ناقص تقول لى إن الكاتب شيوعى، دعنا نتحدث بشكل مهنى، فإذا كانت بالمقال أرقام وبيانات غير صحيحة.. فلماذا لم ترسل ردا وتصحيحا إلى الجريدة التى نشرت المقال؟
رد بكل ثقة: الجريدة لم تكن ستنشر أى رد.. فموقفها العام من مجمل السياسات الأمريكية غير ودى.
قلت له : بصرف النظر عن موقف الجريدة السياسى، فإن القانون يلزمها بنشر الرد والتصحيح، وإذا سايرتك جدلا فى افتراضك بأن الجريدة لم تكن لتنشر ردك.. فمن حقك أن ترسل إلينا فى نقابة الصحفيين صورة من الرد المرفوض نشره ونحن سنطبق القانون، هذا أفضل كثيرا من أن تجلس فى مكتبك وتصدر الأحكام الغيابية أو تستسهل التفسيرات الأيديولوجية.
ويومها انتهى الغداء بغير أن يبدو أن الرجل اقتنع.. ولا أنا أيضا قبلت بمنطقه، وفيما بعد أصبح الزميل عبد القادر شهيب رئيسا لتحرير مجلة «المصور» ورئيسا لمجلس إدارة دار الهلال.. بغير أن يعرف بتلك الواقعة لسنوات وسنوات، لكننى بالطبع كنت سأحكيها له لو تقدمت أمريكا بشكوى ضده إلى مجلس الأمن الدولى.
وبوجهه البشوش الذى لا يوحى أبدا بخلفيته العسكرية (ترك كمال حسن على القوات المسلحة برتبة فريق ) قال لى رئيس الوزراء: الحقيقة أنا طلبتك لسببين.. لأعتذر لك.. ولأشكرك.
فأما الاعتذار.. فلأننى جئت إلى هذا الاحتفال مترددا، أقدم رجلا وأؤخر أخرى، لم تكن لهذا الاحتفال سابقة لأقيس عليها، ولا لتلك الجوائز تاريخ لأعود إليه، وطبعا.. أولاد الحلال كثير.. قالوا لى يا أفندم معقول تروح برجليك لتجلس فى وسط 300 صحفى فيهم كده، وكده.
قلت له: يا سعادة رئيس الوزراء.. من غير كده، وكده.. مالهم الصحفيين؟ وحوش الغابة أو من أكلة اللحوم البشرية مثلا؟
قال رئيس الوزراء ضاحكا: مش بالضبط.. إنما أنت شايف.. كفاية رسوم الكاريكاتير اللى بتسلخنى أنا والحكومة كل يوم، على أى حال.. جئت إلى الاحتفال بهذا التوجس، وأنا هنا أكلمك بصراحة، لكن من أول دقيقة بدأت فكرتى المسبقة تتغير تماما بعد أن وجدت نفسى فى وسط صورة متحضرة وغير مسبوقة لمهنة جعلت تلك الجوائز شيوخها يتفاعلون مع شبابها على ذلك النحو البديع، وخلال ربع ساعة أدركت من هو صاحب المولد كله، ولذلك رجوت حضورك لأعتذر لك مبدئيا عن ترددى فى الحضور الذى سبق الحفل.
فى تلك اللحظة استعدت تلقائيا تلك الغصة فى حلقى المستمرة معى منذ اليوم الذى استقبلنى فيه مدير مكتبه ليطرح أمامى شروطا عبثية رفضتها جميعا.. قبل أن يعيد الاتصال بى فى مساء نفس اليوم، بينما كان يزورنى مصطفى حسين، ويخبرنى بموافقة رئيس الوزراء على قبول الدعوة لحضور الاحتفال.
ثم أضاف كمال حسن على رئيس الوزراء بكل مودة: الآن أكرر لك شكرى عن نفسى وعن الحكومة على أنكم بدأتم هذا التقليد غير المسبوق فى الصحافة أو أى مهنة أخرى، وقد عرفت أنك واجهت صعوبات وبذلت جهدا كبيرا فى جمع الـ18 ألف جنيه للجوائز.
قلت له: هذا طبيعى.. بالنظر إلى أن مسألة أن يتولى الصحفيون أنفسهم تمويل الجوائز هى تقليد جديد لا سابقة له.
وبابتسامة عريضة قال رئيس الوزراء: عموما دعنا نتطلع الآن إلى المستقبل، فلكى تستمر هذه الجوائز وتصبح أكبر وأكبر، ولكى يكون شكرى لك عمليا، فإننى كلفت المستشار القانونى لمجلس الوزراء بأن يضع تصورا تنظيميا يسمح للحكومة بأن تساهم فى تلك الجوائز بمائة ألف جنيه سنويا و..
كانت مفاجأة، وهى مفاجأة من العيار الثقيل أربكتنى بالكامل بما جعلنى للحظات أبحث عن كلمات أرد بها، ويبدو أن تعبيرات وجهى فضحت شعورى بـ«الخضة».. لأن رئيس الوزراء استرسل قائلاً: لا.. لا.. لن تكون مساهمة الحكومة لسنة واحدة فأنا سمعت فى الاحتفال أنكم تسعون لاستمرارها سنويا، لذلك فعن نفسى أتكلم عن التزام لخمس سنوات يمتد إلى من يخلفنى كرئيس للوزراء، وبعدها.. إنت وشطارتك.
قلت له: الحقيقة إن العقدة ليست هنا.. فهذا التقليد الذى شهدته وأثار لديك كل هذه المشاعر الجميلة أساسه هو أنه ليوم واحد فى السنة يجىء كبار الصحفيين من بيوتهم ليحتفلوا معا بصحفيين فائزين بجوائز جرى تمويلها بالكامل من الصحفيين، وإذا كنت أنا قد ساهمت بالفكرة وبالتنظيم إلا أن قيمة الجوائز هى بقيمة من آمنوا بالفكرة وساهموا فى نجاحها.. بالمال أو بالجهد أو بكليهما معا.
للحظة أو لحظات بدا أننا على موجتين منفصلتين.. رئيس الوزراء وأنا، لكن شعورى بالامتنان لاهتمام الرجل كان يجب أن يتساوى مع التعبير بوضوح عن جوهر هذه المسابقة وجوائزها.. فهو يتساءل مستغربا تماما من أن نكون فى حالة استغناء وتعفف عن هذا المستوى الحكومى من التجاوب والتفاعل.
وقلت له من قبيل الدعابة تخفيفا للنقاش: سيادتك أكيد تعرف المثل الشعبى.. يا نحلة لا تقرصينى، ولا أنا أنتظر منك عسلا.
مال رئيس الوزراء بكل جسمه قليلا إلى الخلف وضحكته المجلجلة تملأ المكان مستغربا: للدرجة دى؟!
قلت له : يا سعادة رئيس الوزراء.. لعلك تتذكر أننى فى كلمتى التى ألقيتها فى الاحتفال قلت تحديدا إن هذه المسابقة «سوف تستمر مهنية تماما، ومستقلة حتى عن نقابة الصحفيين ذاتها وعن أى مؤسسة منفردة لأن هذا يضيف إلى مصداقيتها وقوتها». أنا حرصت على توضيح ذلك من البداية أمام كل الصحفيين الحاضرين، وفى وجودك مع رئيس مجلس الشعب والوزراء ورؤساء الصحف القومية والحزبية، وفى كل التغطيات الإعلامية وما نقلته وكالات الأنباء عن الاحتفال فى الأيام الماضية كان أهم ما ركز عليه الجميع هو استقلالية المسابقة فى تمويلها وتنظيمها وتحكيمها.
تدافعت الأفكار فى عقلى وفى كلماتى حتى أوضح أننى من البداية ليس لى أى سلطة على المساهمين من كبار الصحفيين تتجاوز مصداقيتى بينهم، كل واحد من هؤلاء، وبخبرته بالمهنة وبالعاملين فيها لأكثر من ثلاثين وأربعين سنة يستطيع من منزله أن يشم رائحة النزاهة أو عدمها من أبعد مسافة ممكنة، بغير التأكد مسبقا من النزاهة والمصداقية لن يساهم ولن يغادر منزله ليحضر الاحتفال على نحو ما جرى، حتى من طرأ عليه سفر أو ظرف صحى، كمحمود السعدنى وكامل زهيرى ويوسف إدريس مثلا، حرصوا على نقل تهانيهم للفائزين بصورة أو بأخرى، وبكل اهتمام ومحبة ورعاية.
ثم إن دخول الحكومة، أو حتى المؤسسات الصحفية، سيكون عامل ضغط حقيقى على القائمين بالتحكيم والتقييم بما يخصم من استقلالية الجوائز، وأحد المعانى الجميلة التى سجلها المعلقون على الجوائز هو أنهم شهدوا لأول مرة رئيس حكومة يشارك فى تسليم جوائز لمن انتقدوا حكومته.. هذا لن يكون واردا إذا تحولت المسابقة لتعتمد على مساهمة الحكومة و.. و.. و..
فى النهاية قال لى رئيس الوزراء بكل لطف ومودة: على أى حال لو غيرت رأيك اتصل بى، وسأظل عند وعدى طالما بقيت رئيسا للحكومة.. و(بابتسامة عريضة) أنت فى هذه المقابلة وفرت لى مادة لحكاية ربما سأضعها فى مذكراتى.. حكاية حكومة تعرض نصف مليون جنيه وصحفيين يعتذرون عن عدم قبولها، تفتكر.. حد حا يصدق؟
قلت له مع انصرافى: أنا سأصدق، زملائى ومن سأحكى لهم سيصدقون.. على الأقل هذه أول مرة يتذكر فيها رئيس حكومة الصحفيين بالخير.
ربما من باب الاطمئنان إلى صحة موقفى، أو على الأقل الاستئناس بمشورة إضافية، كانت أول مكالمة تليفونية أجريها بعد وصولى إلى البيت هى مع أحمد بهاء الدين، وفى اللحظات الأولى بدا بهاء كما لو كان يسترجع مرة بعد مرة ما حكيته له فى التو واللحظة قائلا لى: أعد ما ذكرته مرة أخرى.. رئيس الحكومة عرض مائة ألف جنيه للجوائز.. ولخمس سنوات.. وأنت اعتذرت عن عدم القبول؟ والله كمال حسن على عداه العيب، وكشف عن سعة أفق واستنارة لا نعهدها غالبا فى رؤساء الحكومات، وأنا أضم صوتى إليك.. فاستقلالية الجوائز تمويلا وتحكيما وتنظيما هى المكسب الكبير الذى خرجنا به.
وبعد برهة أضاف أحمد بهاء الدين: قبل أن أنسى.. مساهمتى المالية بالألف جنيه فى المسابقة الجديدة جاهزة من الآن.
لم أكن قد غادرت، بعد، توابع المسابقة الأولى، فرئيس مجلس إدارة إحدى المؤسسات الصحفية مثلا اتصل بى معاتبا: هل معقول وأنا أرأس مؤسسة تضم 270 صحفيا فلا تعطون فى المسابقة جوائز لأحد منها بينما مؤسسة أخرى تحصل على ست جوائز؟
وقلت له: من أولها فكرتك عن الجوائز خاطئة، فأنت تتصور أننا كلجنة قلبنا فى كل الصحف والمجلات المصرية لنختار منها الفائزين. هذا غير صحيح، نحن فتحنا باب التقديم لمن يرغب من الصحفيين والصحفيات، ولجان التقييم مارست مهمتها للاختيار من بين من تقدموا، المشكلة أن الإدارة فى مؤسستك استلمت إعلان المسابقة لكنها حجبته عن الصحفيين، ومن هنا لم يتقدم أحد من مؤسستك أصلا وتنبهوا فقط بعد انتهاء موعد التقدم للمسابقة.
لكن سوء الفهم لم يكن فقط من داخل المهنة، كان من خارجها أيضا. فزميلة عزيزة وصحفية نشيطة هى فى حينها المحررة الأولى للشئون الدبلوماسية قى صحيفتها اتصلت بى لتداعبنى بكلمات فاجأتنى بما هو أغرب: إن السفارة الأمريكية فى القاهرة تشعر بالاستياء من تعبير بعض الجوائز عن موقف سياسى معاد لأمريكا.
معاد لأمريكا؟ كده.. خبط لزق؟ نعم، هكذا قال لها المستشار الإعلامى للسفارة الأمريكية بالقاهرة، وهى رفضت بشدة ذلك الانطباع من جانبه، وعرضت أن نتقابل نحن الثلاثة على الغداء.
مع الغداء زاد المستشار الأمريكى فى الشرح والتفسير، فأحد الأعمال الفائزة بالجائزة الأولى مقال تحليلى نشره عبد القادر شهيب فى جريدة «الشعب» التى كان يصدرها حزب العمل المعارض، والمقال عن أخطار المساعدات الأجنبية مع التركيز أساسا على المعونة الأمريكية لمصر معتمدا على أرقام ووقائع تؤكد فى النهاية أنها ليست لوجه الله.
وسألت المستشار الأمريكى: ماذا يزعجك فى ذلك المقال؟
أجاب: أولا.. دوافعه أيديولوجية، وثانيا.. أرقام عديدة ذكرها.. إما غير صحيحة أو غير دقيقة.
قلت له: دعنا ننحى مسألة الدوافع جانبا لأنك ناقص تقول لى إن الكاتب شيوعى، دعنا نتحدث بشكل مهنى، فإذا كانت بالمقال أرقام وبيانات غير صحيحة.. فلماذا لم ترسل ردا وتصحيحا إلى الجريدة التى نشرت المقال؟
رد بكل ثقة: الجريدة لم تكن ستنشر أى رد.. فموقفها العام من مجمل السياسات الأمريكية غير ودى.
قلت له : بصرف النظر عن موقف الجريدة السياسى، فإن القانون يلزمها بنشر الرد والتصحيح، وإذا سايرتك جدلا فى افتراضك بأن الجريدة لم تكن لتنشر ردك.. فمن حقك أن ترسل إلينا فى نقابة الصحفيين صورة من الرد المرفوض نشره ونحن سنطبق القانون، هذا أفضل كثيرا من أن تجلس فى مكتبك وتصدر الأحكام الغيابية أو تستسهل التفسيرات الأيديولوجية.
ويومها انتهى الغداء بغير أن يبدو أن الرجل اقتنع.. ولا أنا أيضا قبلت بمنطقه، وفيما بعد أصبح الزميل عبد القادر شهيب رئيسا لتحرير مجلة «المصور» ورئيسا لمجلس إدارة دار الهلال.. بغير أن يعرف بتلك الواقعة لسنوات وسنوات، لكننى بالطبع كنت سأحكيها له لو تقدمت أمريكا بشكوى ضده إلى مجلس الأمن الدولى.
وداعاً قناة الجزيرة
مرسلة بواسطة
Abdullah Khalaf
التسميات:
إعلام,
الجزيرة,
اليوم السابع,
صحافة,
قطر,
يسرى فودة
0
التعليقات
يسرى فودة
شيئان فى الدنيا لا حيلة لنا فيهما ولا اختيار: آباؤنا والأرض التى ولدنا عليها. نختار دونهما ما شئنا أن نختار، ونعتز باختياراتنا التى تصنع شخصياتنا وتميزنا عن الآخرين ثم نمشى فى مناكب الأرض شرقاً وغرباً. ومهما طال مشينا، رغم ذلك، يبقى أعز ما لدينا هو ذلك الذى لم تكن لنا فيه حيلة ولا كان لنا فيه اختيار. أمام هذا لا بد أن يتوقف الإنسان متأملاً، يلقى نظرةً إلى الوراء، ولو مرة، لعله يدرك أين يقف وإلى أين يريد أن يتوجه من هنا. فاللهم احفظ أمى وارحم أبى وطهّر أرضى، اللهم ألهمنا من بعد ذلك نفاذ البصيرة.
فكرت كثيراً قبل كتابة هذه السطور، فكرت كثيراً، لسنوات. وفى كل مرة كنت أوشك على اتخاذ هذا القرار كان ثمة سبب يدفعنى إلى التراجع، له علاقة برؤيتى أحياناً، وأحياناً أخرى فوق طاقتى.
اليوم، بعد عامين من التأمل بعيداً عن زحام العمل وعن لفحات المغامرة وعن إغراءات الشاشة، أصل إلى نقطة من الصفاء الذهنى والتكامل النفسى والراحة الجسدية تسمح لى باتخاذ القرار الصعب: أن أعلن من هذا المنبر انتهاء علاقتى بقناة الجزيرة متمنياً لأصدقائى وزملائى بها، هؤلاء فقط الصادقون المهنيون الذين يحترمون أنفسهم فيحترمهم الآخرون، كل تقدم وكل إبداع ما وسعتهم الظروف.
لكنّ من أريد أن تطول التفاتتى نحوه فى هذه اللحظة هو الإنسان العربى أينما وُجد وقد كان، ولا يزال، مرجعى أولاً وأخيراً (بعد ضميرى الإنسانى والمهنى) فيما كنت أختار من تحقيقات وفيما كنت أطمح إلى الإسهام به نحو واقع عربى أفضل. من هذا الشيخ الجليل الذى أقبل علىّ فى صحراء الجوف كى يعانقنى وهو الذى لم تتح له فرصة لتعلم القراءة والكتابة، إلى ذلك الأستاذ العربى فى جامعة هارفارد الذى أمدنى باكتشافاته حتى قبل أن تُنشر، وبينهما كل آبائى وأمهاتى وإخوتى وزملائى وأصدقائى وأبناؤنا جميعاً الذين باهتمامهم ألهمونى وبحبهم ساعدونى على الإسهام بما قدّرنى الله على الإسهام به، والذين من أجلهم هان طريق الأذى أمام لذة الاكتشاف وقيمة الحقيقة. إلى هؤلاء أتحدث اليوم.
وفى بداية حديثى لابد أن أطمئن هؤلاء الذين أسعدونى بمتابعة عملى الصحفى، على قناة الجزيرة وعلى غيرها، إن هذا ليس خطاباً للتنحى عن مهنة الصحافة؛ فمن ولد صحفياً يموت صحفياً، ولا هو ردة فعل فى لحظة انفعال؛ فلقد استغرقنى الأمر سنوات. ولحسن الحظ فقد ولدت فى جيل أتيح له من نوافذ الإعلام ما لم يُتح لسابقيه. وإننى لأشعر بسعادة غامرة على المستويين الاجتماعى والمهنى لعودتى إلى بلدى، مصر، ولتمكنى من المساهمة فى بناء جريدة اليوم السابع التى أراها تكبر يوماً بعد يوم وأنا أطل منها على القارئ العربى، ولأن إطلالتى التليفزيونية القادمة على المواطن العربى ستكون أيضاً من مصر.
سيتساءل البعض: لماذا هذا القرار؟ ثم ربما يتساءلون: لماذا هذا القرار «الآن»؟ وحقيقة الأمر أننى عبرت علناً مرات عديدة عن تحفظى على أمور بعينها على الشاشة ووراء الشاشة، لبعضها علاقة بالإدارة ولبعضها علاقة بالمهنة ولبعضها الآخر علاقة بالسياسة، وأننى قدمت استقالتى مكتوبة موقّعة إلى رئيس مجلس الإدارة، الشيخ حمد بن ثامر آل ثانى، مرتين: مرة عام 2003 ومرة ثانية قبل عامين. وأن استقالتى رُفضت فى المرة الأولى بتدخل مباشر من أمير قطر، الشيخ حمد بن خليفة آل ثانى، وتحولت فى المرة الثانية إلى اتفاق بينى وبين رئيس مجلس الإدارة على ما يشبه «استراحة محارب» باقتراح منه مشفوع بالتماس ألا أنضم إلى قناة أخرى يقابله طلب منى بأن يتقبل قرارى أيما كان بصدر رحب لدى نهاية الاستراحة. واتفقنا على ذلك.
ورغم أننى أحاول دائماً فى عملى أن أرى الأمور من منظور المشاهد فقد أتاحت لى هذه الاستراحة أن أتابع قناة الجزيرة لأول مرة بعين المشاهد متخلصاً من صخب العمل وغمامة الاستغراق. كما أتاحت لى فرصة عريضة كنت أتوق لها من زمن بعيد لاتخاذ مقعد خلفى يتيح لى منظوراً أعرض للتأمل فى لحظة ماضية ومعايشة لحظة حاضرة واستشراف أخرى آتية.
ألقى بى التأمل إلى بداية عام 1994. كنت وقتها أدرس الدكتوراه فى جامعة جلاسكو فى اسكتلندا كى أعود بعدها لاستئناف عملى الأكاديمى فى جامعة القاهرة. وفى تلك الأثناء أعلنت هيئة الإذاعة البريطانية عن عزمها إطلاق أول قناة تليفزيونية باللغة العربية متخصصة فى الأخبار وبرامج الأحداث الجارية. وبعد تفكير شاركت مع الصف الأول فى تأسيس القناة وشرفت باختيارى أول مراسل عربى متجول.
كانت تلك لحظة فارقة على طريق صحافة تليفزيونية عربية، حتى أنه بوصولى أول مرة إلى منطقة الحرب فى سراييفو فتح زملاؤنا الإنجليز فى غرفة الأخبار فى لندن زجاجات الشمبانيا احتفالاً بالحدث.
لكن هذا التليفزيون لم ينطلق إلا حين دخلت بى بى سى (بعقليتها الإنجليزية) فى شراكة مع شبكة أوربيت (بعقليتها السعودية) ما زرع بالضرورة ناراً تحت الرماد انتشر دخانها فى غرفة الأخبار أكثر من مرة حتى بات العاملون بها على فوهة بركان؛ فكان هذا خطأً قاتلاً ظلم الشريكين معاً، وإن كان ظلم العاملين تحت إمرة البريطانيين برواتب سعودية ظلماً أفدح. لقد كان هذا، فى الواقع، زواجاً قام باطلاً وانهار باطلاً بعد ذلك بنحو عامين.
غير أنه، وقد انهار، ترك بين يدى المراقب مثالاً فريداً من نوعه؛ فلأول مرة فى التاريخ، على حد علمى، تقوم شركة لا يريد أحد الشريكين لبضاعتها أن تنتشر، ولأول مرة يكون تأثير قناة تليفزيونية فى العاملين بها أعمق بكثير من تأثيرها فى تلك القلة من رواد فنادق النجوم الخمسة التى أتيح لها أن تشاهدها.
لم يصدق هؤلاء الصحفيون، وبعضهم من الطراز الأول، أنهم سقطوا فجأة، ولو ليوم أو بعض يوم، فى سوق البطالة بعد أن تسرب من بين أصابعهم أمام أعينهم حلم عزيز. وسرعان ما تلقفت الدوحة كثيراً منهم وهى تعلم أنهم، بغض النظر عن الاختلافات الشخصية والمهنية والسياسية، تخرجوا فى أكثر المدارس الإعلامية فى العالم ثقلاً واحتراماً.
شكل هؤلاء، مع نخبة أخرى من الصحفيين العرب، نواة «قناة الجزيرة الفضائية» التى انطلقت فى الأول من نوفمبر 1996. هذه المرة من عاصمة عربية. هذه المرة بلا خطوط حمراء، أو هكذا كان يبدو. هذه المرة بلا شراكة. هذه المرة يريد البائع لسلعته أن تنتشر. فجأة يدرك المشاهد العربى أنه كان يفتقد شيئاً ولم يكن يدرى.
بقيت أنا فى لندن أؤسس مكتباً لها فى العاصمة البريطانية بينما انتقل كثير من زملائى إلى الدوحة، لكننا جميعاً وجدنا لأول وهلة فى قناة الجزيرة نظاماً فريداً من نوعه لا يوجد مثيل له واقعياً فى مؤسسة إعلامية أخرى، ولا يوجد مثيل له نظرياً فى كتب الأنظمة الإذاعية والتليفزيونية. يجمع هذا النظام بين مجموعة من القيم والمصادر المتنوعة، المتناقضة أحياناً، تتراوح بين القَبَلى والحضرى، بين العربى والغربى، بين اليمينى واليسارى، بين الديمقراطى والديكتاتورى، وبين الدينى والعلمانى.
وتبين هذه المتناقضات من اللحظة الأولى لتوقيع عقد إنشاء الجزيرة بمنحة أميرية على هيئة «مؤسسة عامة للقنوات الفضائية» تحصل على تمويلها من «مجموعة من المستثمرين» للسنوات الخمس الأولى على أن يتم «طرح أسهمها فى الأسواق» بعد ذلك لمن يريد أن يشترى. ولم يكن لذلك أن يحدث، كما أثبتت الأيام، ففى غضون عام واحد صارت الجزيرة بأيدٍ مهنية غير قطرية أكبر من قطر ومن أمير قطر، وحين يحدث هذا لا بد من لحظة أخرى للتأمل.
شيئان فى الدنيا لا حيلة لنا فيهما ولا اختيار: آباؤنا والأرض التى ولدنا عليها. نختار دونهما ما شئنا أن نختار، ونعتز باختياراتنا التى تصنع شخصياتنا وتميزنا عن الآخرين ثم نمشى فى مناكب الأرض شرقاً وغرباً. ومهما طال مشينا، رغم ذلك، يبقى أعز ما لدينا هو ذلك الذى لم تكن لنا فيه حيلة ولا كان لنا فيه اختيار. أمام هذا لا بد أن يتوقف الإنسان متأملاً، يلقى نظرةً إلى الوراء، ولو مرة، لعله يدرك أين يقف وإلى أين يريد أن يتوجه من هنا. فاللهم احفظ أمى وارحم أبى وطهّر أرضى، اللهم ألهمنا من بعد ذلك نفاذ البصيرة.
فكرت كثيراً قبل كتابة هذه السطور، فكرت كثيراً، لسنوات. وفى كل مرة كنت أوشك على اتخاذ هذا القرار كان ثمة سبب يدفعنى إلى التراجع، له علاقة برؤيتى أحياناً، وأحياناً أخرى فوق طاقتى.
اليوم، بعد عامين من التأمل بعيداً عن زحام العمل وعن لفحات المغامرة وعن إغراءات الشاشة، أصل إلى نقطة من الصفاء الذهنى والتكامل النفسى والراحة الجسدية تسمح لى باتخاذ القرار الصعب: أن أعلن من هذا المنبر انتهاء علاقتى بقناة الجزيرة متمنياً لأصدقائى وزملائى بها، هؤلاء فقط الصادقون المهنيون الذين يحترمون أنفسهم فيحترمهم الآخرون، كل تقدم وكل إبداع ما وسعتهم الظروف.
لكنّ من أريد أن تطول التفاتتى نحوه فى هذه اللحظة هو الإنسان العربى أينما وُجد وقد كان، ولا يزال، مرجعى أولاً وأخيراً (بعد ضميرى الإنسانى والمهنى) فيما كنت أختار من تحقيقات وفيما كنت أطمح إلى الإسهام به نحو واقع عربى أفضل. من هذا الشيخ الجليل الذى أقبل علىّ فى صحراء الجوف كى يعانقنى وهو الذى لم تتح له فرصة لتعلم القراءة والكتابة، إلى ذلك الأستاذ العربى فى جامعة هارفارد الذى أمدنى باكتشافاته حتى قبل أن تُنشر، وبينهما كل آبائى وأمهاتى وإخوتى وزملائى وأصدقائى وأبناؤنا جميعاً الذين باهتمامهم ألهمونى وبحبهم ساعدونى على الإسهام بما قدّرنى الله على الإسهام به، والذين من أجلهم هان طريق الأذى أمام لذة الاكتشاف وقيمة الحقيقة. إلى هؤلاء أتحدث اليوم.
وفى بداية حديثى لابد أن أطمئن هؤلاء الذين أسعدونى بمتابعة عملى الصحفى، على قناة الجزيرة وعلى غيرها، إن هذا ليس خطاباً للتنحى عن مهنة الصحافة؛ فمن ولد صحفياً يموت صحفياً، ولا هو ردة فعل فى لحظة انفعال؛ فلقد استغرقنى الأمر سنوات. ولحسن الحظ فقد ولدت فى جيل أتيح له من نوافذ الإعلام ما لم يُتح لسابقيه. وإننى لأشعر بسعادة غامرة على المستويين الاجتماعى والمهنى لعودتى إلى بلدى، مصر، ولتمكنى من المساهمة فى بناء جريدة اليوم السابع التى أراها تكبر يوماً بعد يوم وأنا أطل منها على القارئ العربى، ولأن إطلالتى التليفزيونية القادمة على المواطن العربى ستكون أيضاً من مصر.
سيتساءل البعض: لماذا هذا القرار؟ ثم ربما يتساءلون: لماذا هذا القرار «الآن»؟ وحقيقة الأمر أننى عبرت علناً مرات عديدة عن تحفظى على أمور بعينها على الشاشة ووراء الشاشة، لبعضها علاقة بالإدارة ولبعضها علاقة بالمهنة ولبعضها الآخر علاقة بالسياسة، وأننى قدمت استقالتى مكتوبة موقّعة إلى رئيس مجلس الإدارة، الشيخ حمد بن ثامر آل ثانى، مرتين: مرة عام 2003 ومرة ثانية قبل عامين. وأن استقالتى رُفضت فى المرة الأولى بتدخل مباشر من أمير قطر، الشيخ حمد بن خليفة آل ثانى، وتحولت فى المرة الثانية إلى اتفاق بينى وبين رئيس مجلس الإدارة على ما يشبه «استراحة محارب» باقتراح منه مشفوع بالتماس ألا أنضم إلى قناة أخرى يقابله طلب منى بأن يتقبل قرارى أيما كان بصدر رحب لدى نهاية الاستراحة. واتفقنا على ذلك.
ورغم أننى أحاول دائماً فى عملى أن أرى الأمور من منظور المشاهد فقد أتاحت لى هذه الاستراحة أن أتابع قناة الجزيرة لأول مرة بعين المشاهد متخلصاً من صخب العمل وغمامة الاستغراق. كما أتاحت لى فرصة عريضة كنت أتوق لها من زمن بعيد لاتخاذ مقعد خلفى يتيح لى منظوراً أعرض للتأمل فى لحظة ماضية ومعايشة لحظة حاضرة واستشراف أخرى آتية.
ألقى بى التأمل إلى بداية عام 1994. كنت وقتها أدرس الدكتوراه فى جامعة جلاسكو فى اسكتلندا كى أعود بعدها لاستئناف عملى الأكاديمى فى جامعة القاهرة. وفى تلك الأثناء أعلنت هيئة الإذاعة البريطانية عن عزمها إطلاق أول قناة تليفزيونية باللغة العربية متخصصة فى الأخبار وبرامج الأحداث الجارية. وبعد تفكير شاركت مع الصف الأول فى تأسيس القناة وشرفت باختيارى أول مراسل عربى متجول.
كانت تلك لحظة فارقة على طريق صحافة تليفزيونية عربية، حتى أنه بوصولى أول مرة إلى منطقة الحرب فى سراييفو فتح زملاؤنا الإنجليز فى غرفة الأخبار فى لندن زجاجات الشمبانيا احتفالاً بالحدث.
لكن هذا التليفزيون لم ينطلق إلا حين دخلت بى بى سى (بعقليتها الإنجليزية) فى شراكة مع شبكة أوربيت (بعقليتها السعودية) ما زرع بالضرورة ناراً تحت الرماد انتشر دخانها فى غرفة الأخبار أكثر من مرة حتى بات العاملون بها على فوهة بركان؛ فكان هذا خطأً قاتلاً ظلم الشريكين معاً، وإن كان ظلم العاملين تحت إمرة البريطانيين برواتب سعودية ظلماً أفدح. لقد كان هذا، فى الواقع، زواجاً قام باطلاً وانهار باطلاً بعد ذلك بنحو عامين.
غير أنه، وقد انهار، ترك بين يدى المراقب مثالاً فريداً من نوعه؛ فلأول مرة فى التاريخ، على حد علمى، تقوم شركة لا يريد أحد الشريكين لبضاعتها أن تنتشر، ولأول مرة يكون تأثير قناة تليفزيونية فى العاملين بها أعمق بكثير من تأثيرها فى تلك القلة من رواد فنادق النجوم الخمسة التى أتيح لها أن تشاهدها.
لم يصدق هؤلاء الصحفيون، وبعضهم من الطراز الأول، أنهم سقطوا فجأة، ولو ليوم أو بعض يوم، فى سوق البطالة بعد أن تسرب من بين أصابعهم أمام أعينهم حلم عزيز. وسرعان ما تلقفت الدوحة كثيراً منهم وهى تعلم أنهم، بغض النظر عن الاختلافات الشخصية والمهنية والسياسية، تخرجوا فى أكثر المدارس الإعلامية فى العالم ثقلاً واحتراماً.
شكل هؤلاء، مع نخبة أخرى من الصحفيين العرب، نواة «قناة الجزيرة الفضائية» التى انطلقت فى الأول من نوفمبر 1996. هذه المرة من عاصمة عربية. هذه المرة بلا خطوط حمراء، أو هكذا كان يبدو. هذه المرة بلا شراكة. هذه المرة يريد البائع لسلعته أن تنتشر. فجأة يدرك المشاهد العربى أنه كان يفتقد شيئاً ولم يكن يدرى.
بقيت أنا فى لندن أؤسس مكتباً لها فى العاصمة البريطانية بينما انتقل كثير من زملائى إلى الدوحة، لكننا جميعاً وجدنا لأول وهلة فى قناة الجزيرة نظاماً فريداً من نوعه لا يوجد مثيل له واقعياً فى مؤسسة إعلامية أخرى، ولا يوجد مثيل له نظرياً فى كتب الأنظمة الإذاعية والتليفزيونية. يجمع هذا النظام بين مجموعة من القيم والمصادر المتنوعة، المتناقضة أحياناً، تتراوح بين القَبَلى والحضرى، بين العربى والغربى، بين اليمينى واليسارى، بين الديمقراطى والديكتاتورى، وبين الدينى والعلمانى.
وتبين هذه المتناقضات من اللحظة الأولى لتوقيع عقد إنشاء الجزيرة بمنحة أميرية على هيئة «مؤسسة عامة للقنوات الفضائية» تحصل على تمويلها من «مجموعة من المستثمرين» للسنوات الخمس الأولى على أن يتم «طرح أسهمها فى الأسواق» بعد ذلك لمن يريد أن يشترى. ولم يكن لذلك أن يحدث، كما أثبتت الأيام، ففى غضون عام واحد صارت الجزيرة بأيدٍ مهنية غير قطرية أكبر من قطر ومن أمير قطر، وحين يحدث هذا لا بد من لحظة أخرى للتأمل.
صحفيون بكبرياء وحكومة بأنغام الموسيقى
مرسلة بواسطة
Abdullah Khalaf
في الجمعة، 15 مايو 2009
التسميات:
أحمد بهاء الدين,
اليوم السابع,
صحافة,
مجدى مهنا,
محمود عوض,
مصطفى حسين
0
التعليقات
محمود عوض
لو لم أكن طرفا فى تلك المناقشة «العبثية» مع مدير مكتب رئيس الوزراء لما صدقت أن مشاعر البيروقراطية الحكومية نحو الصحافة والصحفيين مشوهة بهذا القدر، هو لا يشترط لحضور رئيس الوزراء كشفا بثلاثمائة صحفى فقط، وبأسمائهم الثلاثية وعناوينهم، وبأسبوعين على الأقل قبل أن نحدد موعد الاحتفال، يريد أيضا حجز خمس موائد فى الاحتفال (يعنى خمسين مقعدا) تحت عنوان «تأمين» رئيس الوزراء، تأمينه ممن؟ من صحفيين يحتفلون لأول مرة بمسابقة مهنية تحفز الصحافة المصرية نحو الأفضل؟ وعلى حسابهم؟
وقلت لمدير مكتب رئيس الوزراء: موعد الاحتفال قررناه فعلا ليكون فى الرابع من يوليو (1985)، ومن قبيل حسن الاستضافة وليس «التأمين» سنخصص لمرافقى رئيس الوزراء مائدة واحدة بعشرة مقاعد، وحضور رئيس الوزراء سيضيف إليه قبل أن يضيف إلى الصحفيين، وليس عندى كشوف بأى أسماء ثلاثية أو غير ثلاثية، وأمامنا يومان فقط قبل أن نطبع الدعوات، فإذا لم تتصل بى قبلها سأعلن فى الاحتفال أننا دعونا رئيس الوزراء وهو لم يستجب.
فى عودتى إلى البيت شعرت بالحيرة، هل كان خطأ من الأصل التفكير فى دعوة الحكومة؟ وأن نتوسع فى الاحتفال على هذا النحو؟ مالها حفلة شاى بسيطة لتسليم الجوائز وكفى الله المؤمنين شر القتال؟ ومن يريد الحكومة، عليه أن يذهب إليها لأنها لن تذهب إليه، إذن.. بلاها الحكومة.
فى المساء كان يزورنى الصديق الرسام مصطفى حسين ليسلمنى تصميمه لشهادة التقدير التى سيتسلمها الفائزون، حاملة شعار الكاتب المصرى، الرسم بديع والألوان رائقة بما عهدته دائما من مصطفى حسين، وبينما نتبادل الحديث دق جرس التليفون بجوارى لأجد المتحدث من الطرف الآخر مدير مكتب رئيس الوزراء، فى هذه المرة تختلف اللهجة بالكامل عن لهجة الصباح: يا أستاذ محمود.. السيد رئيس الوزراء يخطرك بترحيبه بالدعوة وسيحضر فى الموعد المحدد، فقط أريد أن أعرف منك كم من الوقت سيبقى رئيس الوزراء فى الاحتفال حتى ننسق جدول مواعيده، هل تكفيكم ساعة زمن؟
نعم، تكفينا.
حكيت لمصطفى حسين خلفيات المكالمة فاستغرب هو الآخر قائلا بسخرية: يبدو أن ملف الصحافة والصحفيين عند الحكومة مهبب، ولا تستبعد أن يكون بعض الصحفيين أنفسهم سببا فى هذا الهباب.
هذا ذكرنى بحكاية كان قد رواها لى أحمد بهاء الدين فى سياق آخر، فذات يوم جمعت إحدى المناسبات بين ممدوح سالم رئيس الوزراء فى حينها وأحمد بهاء الدين صاحب الرصيد الكبير فى المهنة وفوق ذلك نقيب سابق للصحفيين ورئيس تحرير سابق لجريدة «الأهرام»، وباعتبار أن ممدوح سالم ضابط شرطة أساسا ووزير سابق للداخلية قبل أن يصبح رئيسا للوزراء، فقد قال له بهاء مداعبا ومتسائلا: لماذا تعتمد وزارة الداخلية فى معلوماتها عن الصحافة والمجتمع الصحفى على صحفيين درجة عاشرة.. وغالبا متخلفين مهنيا؟
يومها رد عليه ممدوح سالم بكلمات تبدو مفحمة: إيدى على إيدك.. هات لى واحد ابن ناس وتخرج بتفوق فى جامعته واشتغل بالصحافة معتمدا على كفاءته.. وقل لى بذمتك.. هل يقبل هذا الموهوب أن يصبح «ناضورجى» لحساب الأمن داخل المهنة الصحفية؟!
بالعودة إلى المهنة كان إعلان نتائج المسابقة مدويا لأنه أكد عمليا للمجتمع الصحفى كله استقلالية المسابقة ونزاهتها ومسئولية أعضاء لجان التقييم عن كل خطوة فيها، لكن الفائزين اشتكوا من نقيصة غير متوقعة، فإذا كان عدد الفائزين 25 صحفيا وصحفية من صحف عديدة قومية وحزبية، إلا أن كل جريدة اكتفت بنشر أسماء وصور الفائزين منها فقط دون الآخرين، ووجدت أن هذا يتنافى مع روح المسابقة ذاتها، لأننى أؤمن بأن هذه مهنة صحفية وليست قبائل صحفية.
واتصلت بعدد من رؤساء التحرير أرجوهم نشر أسماء وصور الفائزين جميعا بمن فيهم المنتمون إلى صحف أخرى، وفعلا استجاب بعضهم وأعاد نشر أسماء وصور جميع الفائزين.. ربما لأن صحفا عربية عديدة نشرت نتائج «جوائز الصحافة المصرية» بالكامل بعد أن نقلتها إليهم وكالات الأنباء.
لكن الأهم من فرحة الفائزين كان رد الفعل فى المجتمع الصحفى ذاته، كثيرون ركزوا على نزاهتها واستقلاليتها لكننى سأكتفى هنا ببعض ما كتبه حافظ محمود نقيب الصحفيين سابقا لعدة مرات فى مقال بجريدة «الجمهورية» بعنوان «قصة الجوائز الصحفية»، زمان.. قبل الثورة.. قدم إدجار جلاد (باشا) صاحب جريدتى «الزمان» و«جورنال ديجيبت» جائزة من عنده أسماها «جائزة مولانا جلالة الملك فاروق الأول» تمنح لصحفى واحد من المتقدمين.
لكن السياق فى ذلك الوقت كان مختلفا بالكامل، وهذا ما شرحه حافظ محمود فى مقاله المطول مستهلا له بقوله: تحتفل نقابة الصحفيين يوم الخميس المقبل بتوزيع الجوائز المالية على الفائزين من شباب الصحافة فى المسابقة التى أخذت فيها لجنة الحريات فى النقابة بزمام المبادرة.. وهى مناسبة تستحق الاحتفال فعلا لأنها مسألة لا تتصل بنهضة أسرتنا الصحفية فقط، بل لسبب اجتماعى أقوى من هذا بكثير جدا وإن لم يلتفت إليه أحد من قبل.
«فأنت إذا قلبت النظر بين كل الفئات المهنية وغير المهنية لا تكاد تجد فئة لم تطرق فكرة الجوائز بابها فى هذا العصر.. إلا فئة الصحفيين الذين يروجون لجوائز كل الفئات الأخرى، لهذا فإننى كأب لجيل الصحفيين الجدد أرى من واجبى أن أقدم التهنئة للجنة الحريات بنقابة الصحفيين التى قامت بتنفيذ هذا المشروع، وأنوه بكل الكبرياء بأن هذه اللجنة لم تعتمد فى تمويل هذا المشروع إلا على الصحفيين أنفسهم».
والسطر الأخير تحديدا من كلمات حافظ محمود كان هو الذى ركزت عليه وكالات الأنباء والصحف العربية التى أبرزت نتائج المسابقة وفكرتها.. مكررة فى كل مرة أن هذه المسابقة الإيجابية غير المسبوقة لا تعنى الصحافة المصرية فقط وإنما أيضا الصحافة العربية بمجموعها.
واتصل بى عديدون يرجون دعوتهم لحضور الاحتفال وفى المقدمة منهم الدكتور رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب فى حينها، مداعبا لى بقوله إنه يستحق تلك الدعوة بصفته كان أحد أساتذتى بالجامعة. أنت تشرفنا يا دكتور رفعت وأرجوك تعتبر من الآن أن الدعوة وصلتك ونحن فى انتظارك.
وشىء آخر: اتصل بى الصديق محمد عبد الحميد رضوان، وزير الثقافة فى حينها، ليداعبنى متسائلا: هل صحيح الجوائز الجديدة يمولها الصحفيون أنفسهم؟ نعم.. صحيح، والله حاجة مشرفة يا ريتنى صحفى علشان أساهم فيها.
قلت له وقد طرأت على بالى فكرة: من غير ما تكون صحفى.. تستطيع المساهمة بشىء آخر.. فبصفتك وزير الثقافة ابعث لنا بفرقة الموسيقى العربية لتعزف بعض الموشحات، ولو لساعة زمن، فتضيف إلى الاحتفال لمسة فنية، تمام، لك منى ذلك.
وشىء ثالث أيضا، فقد اتصل بى وزير الإعلام الأردنى محمد الخطيب وقتها، لكن من غير معرفة سابقة، هو يرجو دعوته لحضور الاحتفال ولو بصفته صحفيا سابقا، لكن أيضا باعتباره وزيرا للإعلام فهو يرجونى تعريفه بفكرة المسابقة وقواعدها لأنه يطمح فى الدعوة لإقامة مسابقة مماثلة فى الصحافة الأردنية، وفى كلمتى فى الاحتفال نوهت بحضوره معنا وتفاعله الكبير مع تلك المسابقة الأولى، وتاليا نشرت له عدة صحف تصريحات قال فيها: «لقد طلبت من مقرر جوائز الصحافة المصرية حضور ذلك الاحتفال لأننى حسدت الصحافة المصرية على هذا العيد، إن مصر رائدة دائما وسوف نسعى لإقامة عيد مماثل للصحافة الأردنية».
لكن الوصول إلى ليلة الاحتفال لم يكن هو الآخر سهلا، وقد ازدادت الصعوبة على ضوء جلستى الأولى مع مدير مكتب رئيس الوزراء قبل أن تتغير لهجته تماما فى مساء نفس اليوم، وهكذا اجتمعت مع زملائى فى «لجنة الحريات»، شرحت لهم توجسات الحكومة، وأنه لذلك فعليهم أنفسهم ضمان حسن تنظيم الاحتفال، هكذا تطوع لتلك المهمة زملاء عديدون فى مقدمتهم (الراحل) مجدى مهنا وعاصم القرش ومحمد حسن البنا ونصر القفاص ونوال مصطفى وخالد جبر وآخرون، أصبح عليهم استقبال الضيوف وإرشادهم إلى مقاعدهم مع أن بعضهم تقدم بأعمال صحفية إلى المسابقة ولم يقدر لهم الفوز، وقلت لهم: إن ما يعنينى بالدرجة الأولى، وقبل الاحتفال بالفائزين، هو الاحتفاء بالمساهمين من كبار الكتاب والصحفيين.. فإذا كانت قد فرقت بينهم السياسة.. فإننى أريد فى تلك الليلة أن تجمع بينهم المهنة.
فى النهاية أصبح برنامج الاحتفال من شقين، هناك ثلاث كلمات من أحمد بهاء الدين رئيس اللجنة العامة وإبراهيم نافع نقيب الصحفيين وأنا كمقرر للمشروع، وفى مداولاتنا اتفقنا على ألا تتجاوز كل كلمة خمس دقائق، بعدها كلمة رئيس الوزراء، ثم إعلان أسماء الفائزين ليسلم كل منهم الشهادة التقديرية وشيكا بقيمة الجائزة موقعا من أحمد بهاء الدين ومنى، حيث الجائزة الأولى فى كل فرع 1500 جنيه ثم ثانية وثالثة ليصل المجموع إلى 18 ألف جنيه.
أما الجزء الثانى من الاحتفال فكان تناول العشاء ثم الاستماع إلى موشحات غنائية أعيد توزيعها وتقوم بعزفها وغنائها فرقة الموسيقى العربية بقيادة المايسترو يسرى قطر.
جاء رئيس الحكومة إذن وفى معيته نصف دستة من الوزراء، وجاء كبار الكتاب جميعا، ورئيس مجلس الشعب ووزير الإعلام الأردنى وسفراء عرب وأجانب ومراسلو صحف عربية وممثلو خمس وكالات أنباء أجنبية. كلهم جاؤوا يشهدون ما أسماه عبد السلام داود فى عاموده بجريدة الأخبار بـ«عيد الصحافة المصرية».. أو بتعبير جريدة «الأنباء» الكويتية بعد يومين: «لأول مرة فى العالم العربى: الصحفيون المصريون يقررون جوائزهم ويستضيفون الحكومة».
فى تلك الليلة كانت الصحافة هى البطل، وكان رئيس الحكومة ودودا للغاية فى كلمته، خصوصا أن بعض الأعمال الفائزة تنتقد أداء حكومته. لكن هذا لم يمنعنى من أن أتوجه إليه فى إحدى النقاط لأقول له إن الساعة بلغت التاسعة والنصف، وبذلك تنتهى عهدتى.
سألنى مستغربا: أى عهدة؟
قلت له: مكتبك اشترط علىّ مسبقا ألا تتجاوز فترة حضورك معنا ساعة زمن.. الآن مضت الساعة.
رد كمال حسن علىّ بابتسامة عريضة: لماذا تريد أن تحرمنى من متابعة هذا الاحتفال المتحضر.. أنا سأنصرف فقط قبيل موعد العشاء.. ولولا ارتباط سابق لكنت بقيت معكم الاحتفال كله.
بعدها بيومين تلقيت اتصالا من مكتب كمال حسن على: رئيس الوزراء يريد استقبالك فى مكتبه ظهر الأربعاء.. هل يناسبك الموعد؟
ماذا جرى؟ اللهجة غير اللهجة ورئيس الحكومة هو الذى يطلب والمتحدث يريد منى تأكيدا بالحضور.. و.. و..
فى مكتب رئيس الوزراء وجدت فى انتظارى ومنه هو شخصيا مفاجأة من العيار الثقيل.
لو لم أكن طرفا فى تلك المناقشة «العبثية» مع مدير مكتب رئيس الوزراء لما صدقت أن مشاعر البيروقراطية الحكومية نحو الصحافة والصحفيين مشوهة بهذا القدر، هو لا يشترط لحضور رئيس الوزراء كشفا بثلاثمائة صحفى فقط، وبأسمائهم الثلاثية وعناوينهم، وبأسبوعين على الأقل قبل أن نحدد موعد الاحتفال، يريد أيضا حجز خمس موائد فى الاحتفال (يعنى خمسين مقعدا) تحت عنوان «تأمين» رئيس الوزراء، تأمينه ممن؟ من صحفيين يحتفلون لأول مرة بمسابقة مهنية تحفز الصحافة المصرية نحو الأفضل؟ وعلى حسابهم؟
وقلت لمدير مكتب رئيس الوزراء: موعد الاحتفال قررناه فعلا ليكون فى الرابع من يوليو (1985)، ومن قبيل حسن الاستضافة وليس «التأمين» سنخصص لمرافقى رئيس الوزراء مائدة واحدة بعشرة مقاعد، وحضور رئيس الوزراء سيضيف إليه قبل أن يضيف إلى الصحفيين، وليس عندى كشوف بأى أسماء ثلاثية أو غير ثلاثية، وأمامنا يومان فقط قبل أن نطبع الدعوات، فإذا لم تتصل بى قبلها سأعلن فى الاحتفال أننا دعونا رئيس الوزراء وهو لم يستجب.
فى عودتى إلى البيت شعرت بالحيرة، هل كان خطأ من الأصل التفكير فى دعوة الحكومة؟ وأن نتوسع فى الاحتفال على هذا النحو؟ مالها حفلة شاى بسيطة لتسليم الجوائز وكفى الله المؤمنين شر القتال؟ ومن يريد الحكومة، عليه أن يذهب إليها لأنها لن تذهب إليه، إذن.. بلاها الحكومة.
فى المساء كان يزورنى الصديق الرسام مصطفى حسين ليسلمنى تصميمه لشهادة التقدير التى سيتسلمها الفائزون، حاملة شعار الكاتب المصرى، الرسم بديع والألوان رائقة بما عهدته دائما من مصطفى حسين، وبينما نتبادل الحديث دق جرس التليفون بجوارى لأجد المتحدث من الطرف الآخر مدير مكتب رئيس الوزراء، فى هذه المرة تختلف اللهجة بالكامل عن لهجة الصباح: يا أستاذ محمود.. السيد رئيس الوزراء يخطرك بترحيبه بالدعوة وسيحضر فى الموعد المحدد، فقط أريد أن أعرف منك كم من الوقت سيبقى رئيس الوزراء فى الاحتفال حتى ننسق جدول مواعيده، هل تكفيكم ساعة زمن؟
نعم، تكفينا.
حكيت لمصطفى حسين خلفيات المكالمة فاستغرب هو الآخر قائلا بسخرية: يبدو أن ملف الصحافة والصحفيين عند الحكومة مهبب، ولا تستبعد أن يكون بعض الصحفيين أنفسهم سببا فى هذا الهباب.
هذا ذكرنى بحكاية كان قد رواها لى أحمد بهاء الدين فى سياق آخر، فذات يوم جمعت إحدى المناسبات بين ممدوح سالم رئيس الوزراء فى حينها وأحمد بهاء الدين صاحب الرصيد الكبير فى المهنة وفوق ذلك نقيب سابق للصحفيين ورئيس تحرير سابق لجريدة «الأهرام»، وباعتبار أن ممدوح سالم ضابط شرطة أساسا ووزير سابق للداخلية قبل أن يصبح رئيسا للوزراء، فقد قال له بهاء مداعبا ومتسائلا: لماذا تعتمد وزارة الداخلية فى معلوماتها عن الصحافة والمجتمع الصحفى على صحفيين درجة عاشرة.. وغالبا متخلفين مهنيا؟
يومها رد عليه ممدوح سالم بكلمات تبدو مفحمة: إيدى على إيدك.. هات لى واحد ابن ناس وتخرج بتفوق فى جامعته واشتغل بالصحافة معتمدا على كفاءته.. وقل لى بذمتك.. هل يقبل هذا الموهوب أن يصبح «ناضورجى» لحساب الأمن داخل المهنة الصحفية؟!
بالعودة إلى المهنة كان إعلان نتائج المسابقة مدويا لأنه أكد عمليا للمجتمع الصحفى كله استقلالية المسابقة ونزاهتها ومسئولية أعضاء لجان التقييم عن كل خطوة فيها، لكن الفائزين اشتكوا من نقيصة غير متوقعة، فإذا كان عدد الفائزين 25 صحفيا وصحفية من صحف عديدة قومية وحزبية، إلا أن كل جريدة اكتفت بنشر أسماء وصور الفائزين منها فقط دون الآخرين، ووجدت أن هذا يتنافى مع روح المسابقة ذاتها، لأننى أؤمن بأن هذه مهنة صحفية وليست قبائل صحفية.
واتصلت بعدد من رؤساء التحرير أرجوهم نشر أسماء وصور الفائزين جميعا بمن فيهم المنتمون إلى صحف أخرى، وفعلا استجاب بعضهم وأعاد نشر أسماء وصور جميع الفائزين.. ربما لأن صحفا عربية عديدة نشرت نتائج «جوائز الصحافة المصرية» بالكامل بعد أن نقلتها إليهم وكالات الأنباء.
لكن الأهم من فرحة الفائزين كان رد الفعل فى المجتمع الصحفى ذاته، كثيرون ركزوا على نزاهتها واستقلاليتها لكننى سأكتفى هنا ببعض ما كتبه حافظ محمود نقيب الصحفيين سابقا لعدة مرات فى مقال بجريدة «الجمهورية» بعنوان «قصة الجوائز الصحفية»، زمان.. قبل الثورة.. قدم إدجار جلاد (باشا) صاحب جريدتى «الزمان» و«جورنال ديجيبت» جائزة من عنده أسماها «جائزة مولانا جلالة الملك فاروق الأول» تمنح لصحفى واحد من المتقدمين.
لكن السياق فى ذلك الوقت كان مختلفا بالكامل، وهذا ما شرحه حافظ محمود فى مقاله المطول مستهلا له بقوله: تحتفل نقابة الصحفيين يوم الخميس المقبل بتوزيع الجوائز المالية على الفائزين من شباب الصحافة فى المسابقة التى أخذت فيها لجنة الحريات فى النقابة بزمام المبادرة.. وهى مناسبة تستحق الاحتفال فعلا لأنها مسألة لا تتصل بنهضة أسرتنا الصحفية فقط، بل لسبب اجتماعى أقوى من هذا بكثير جدا وإن لم يلتفت إليه أحد من قبل.
«فأنت إذا قلبت النظر بين كل الفئات المهنية وغير المهنية لا تكاد تجد فئة لم تطرق فكرة الجوائز بابها فى هذا العصر.. إلا فئة الصحفيين الذين يروجون لجوائز كل الفئات الأخرى، لهذا فإننى كأب لجيل الصحفيين الجدد أرى من واجبى أن أقدم التهنئة للجنة الحريات بنقابة الصحفيين التى قامت بتنفيذ هذا المشروع، وأنوه بكل الكبرياء بأن هذه اللجنة لم تعتمد فى تمويل هذا المشروع إلا على الصحفيين أنفسهم».
والسطر الأخير تحديدا من كلمات حافظ محمود كان هو الذى ركزت عليه وكالات الأنباء والصحف العربية التى أبرزت نتائج المسابقة وفكرتها.. مكررة فى كل مرة أن هذه المسابقة الإيجابية غير المسبوقة لا تعنى الصحافة المصرية فقط وإنما أيضا الصحافة العربية بمجموعها.
واتصل بى عديدون يرجون دعوتهم لحضور الاحتفال وفى المقدمة منهم الدكتور رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب فى حينها، مداعبا لى بقوله إنه يستحق تلك الدعوة بصفته كان أحد أساتذتى بالجامعة. أنت تشرفنا يا دكتور رفعت وأرجوك تعتبر من الآن أن الدعوة وصلتك ونحن فى انتظارك.
وشىء آخر: اتصل بى الصديق محمد عبد الحميد رضوان، وزير الثقافة فى حينها، ليداعبنى متسائلا: هل صحيح الجوائز الجديدة يمولها الصحفيون أنفسهم؟ نعم.. صحيح، والله حاجة مشرفة يا ريتنى صحفى علشان أساهم فيها.
قلت له وقد طرأت على بالى فكرة: من غير ما تكون صحفى.. تستطيع المساهمة بشىء آخر.. فبصفتك وزير الثقافة ابعث لنا بفرقة الموسيقى العربية لتعزف بعض الموشحات، ولو لساعة زمن، فتضيف إلى الاحتفال لمسة فنية، تمام، لك منى ذلك.
وشىء ثالث أيضا، فقد اتصل بى وزير الإعلام الأردنى محمد الخطيب وقتها، لكن من غير معرفة سابقة، هو يرجو دعوته لحضور الاحتفال ولو بصفته صحفيا سابقا، لكن أيضا باعتباره وزيرا للإعلام فهو يرجونى تعريفه بفكرة المسابقة وقواعدها لأنه يطمح فى الدعوة لإقامة مسابقة مماثلة فى الصحافة الأردنية، وفى كلمتى فى الاحتفال نوهت بحضوره معنا وتفاعله الكبير مع تلك المسابقة الأولى، وتاليا نشرت له عدة صحف تصريحات قال فيها: «لقد طلبت من مقرر جوائز الصحافة المصرية حضور ذلك الاحتفال لأننى حسدت الصحافة المصرية على هذا العيد، إن مصر رائدة دائما وسوف نسعى لإقامة عيد مماثل للصحافة الأردنية».
لكن الوصول إلى ليلة الاحتفال لم يكن هو الآخر سهلا، وقد ازدادت الصعوبة على ضوء جلستى الأولى مع مدير مكتب رئيس الوزراء قبل أن تتغير لهجته تماما فى مساء نفس اليوم، وهكذا اجتمعت مع زملائى فى «لجنة الحريات»، شرحت لهم توجسات الحكومة، وأنه لذلك فعليهم أنفسهم ضمان حسن تنظيم الاحتفال، هكذا تطوع لتلك المهمة زملاء عديدون فى مقدمتهم (الراحل) مجدى مهنا وعاصم القرش ومحمد حسن البنا ونصر القفاص ونوال مصطفى وخالد جبر وآخرون، أصبح عليهم استقبال الضيوف وإرشادهم إلى مقاعدهم مع أن بعضهم تقدم بأعمال صحفية إلى المسابقة ولم يقدر لهم الفوز، وقلت لهم: إن ما يعنينى بالدرجة الأولى، وقبل الاحتفال بالفائزين، هو الاحتفاء بالمساهمين من كبار الكتاب والصحفيين.. فإذا كانت قد فرقت بينهم السياسة.. فإننى أريد فى تلك الليلة أن تجمع بينهم المهنة.
فى النهاية أصبح برنامج الاحتفال من شقين، هناك ثلاث كلمات من أحمد بهاء الدين رئيس اللجنة العامة وإبراهيم نافع نقيب الصحفيين وأنا كمقرر للمشروع، وفى مداولاتنا اتفقنا على ألا تتجاوز كل كلمة خمس دقائق، بعدها كلمة رئيس الوزراء، ثم إعلان أسماء الفائزين ليسلم كل منهم الشهادة التقديرية وشيكا بقيمة الجائزة موقعا من أحمد بهاء الدين ومنى، حيث الجائزة الأولى فى كل فرع 1500 جنيه ثم ثانية وثالثة ليصل المجموع إلى 18 ألف جنيه.
أما الجزء الثانى من الاحتفال فكان تناول العشاء ثم الاستماع إلى موشحات غنائية أعيد توزيعها وتقوم بعزفها وغنائها فرقة الموسيقى العربية بقيادة المايسترو يسرى قطر.
جاء رئيس الحكومة إذن وفى معيته نصف دستة من الوزراء، وجاء كبار الكتاب جميعا، ورئيس مجلس الشعب ووزير الإعلام الأردنى وسفراء عرب وأجانب ومراسلو صحف عربية وممثلو خمس وكالات أنباء أجنبية. كلهم جاؤوا يشهدون ما أسماه عبد السلام داود فى عاموده بجريدة الأخبار بـ«عيد الصحافة المصرية».. أو بتعبير جريدة «الأنباء» الكويتية بعد يومين: «لأول مرة فى العالم العربى: الصحفيون المصريون يقررون جوائزهم ويستضيفون الحكومة».
فى تلك الليلة كانت الصحافة هى البطل، وكان رئيس الحكومة ودودا للغاية فى كلمته، خصوصا أن بعض الأعمال الفائزة تنتقد أداء حكومته. لكن هذا لم يمنعنى من أن أتوجه إليه فى إحدى النقاط لأقول له إن الساعة بلغت التاسعة والنصف، وبذلك تنتهى عهدتى.
سألنى مستغربا: أى عهدة؟
قلت له: مكتبك اشترط علىّ مسبقا ألا تتجاوز فترة حضورك معنا ساعة زمن.. الآن مضت الساعة.
رد كمال حسن علىّ بابتسامة عريضة: لماذا تريد أن تحرمنى من متابعة هذا الاحتفال المتحضر.. أنا سأنصرف فقط قبيل موعد العشاء.. ولولا ارتباط سابق لكنت بقيت معكم الاحتفال كله.
بعدها بيومين تلقيت اتصالا من مكتب كمال حسن على: رئيس الوزراء يريد استقبالك فى مكتبه ظهر الأربعاء.. هل يناسبك الموعد؟
ماذا جرى؟ اللهجة غير اللهجة ورئيس الحكومة هو الذى يطلب والمتحدث يريد منى تأكيدا بالحضور.. و.. و..
فى مكتب رئيس الوزراء وجدت فى انتظارى ومنه هو شخصيا مفاجأة من العيار الثقيل.